إصداراتالدولتونسمقالات

حلمنا الذي لم يكتمل

“باهتة”، “باردة”، “فقدت بريقها عبر السنين”، تلك هي العبارات المتداولة بمناسبة الذكرى العاشرة “لثورة الكرامة” (14 يناير 2011) التي مرت قبل أسابيع دون كثير من مظاهر الاحتفال والبهجة، رسميًا وشعبيًا، هذا إذا ما استثنينا وسائل الاعلام الاجنبية التي لازالت تقدر قيمة  الحدث وتوليه الاهتمام  وكذلك بعض الخبراء والمختصين، الذين لخصوا في اغلبهم الوضع كالتالي: كل ما تحقق على مستوى حرية التعبير والصحافة والديمقراطية والتداول السلمي على السلطة  اصبح مهددًا اكثر من اي وقت مضى، نتيجة الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية، التي زادتها ازمة كوفيد-19 تأزما، يُضاف اليها في الاشهر الاخيرة ازمة سياسية بين قيادات البلاد، خاصة  بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس نواب، ازمة  تشلّ مؤسسات  الدولة وتنذر بإمكانية الانهيار الاقتصادي التام  وفقدان تونس  لدعم المانحين، بعد ان غابت المبادرة وشحّ الاستثمار وتعطلت عجلة الانتاج بسبب السياسات الاقتصادية العقيمة وكثرة الاحتجاجات والاعتصامات في عديد الولايات، اضافة الى المشهد السياسي العبثي. 

الديمقراطية وحدها لاتكفي

لاجدال في ان الكثير تحقق منذ الثورة، انتخابات دورية وحرة تشرف عليها هيئة مستقلة، مؤشرات حرية ايجابية عموما مقارنة بالدول العربية الاخرى، وكذا بالنسبة لهامش الديمقراطية الذي لامثيل له في المنطقة، حسب “الايكونوميست”، اعلام انفتح على تعدد الآراء بعد عقود من الانغلاق والرقابة الخانقة، وهو يخضع الان  لهيئة مستقلة تحاول جاهدة محاصرة الفوضى والانفلات وتأثيرات اللوبيات المالية والسياسية، دستور جديد يحمل قواعد الدولة المدنية ومبادئ المواطنة وحرية المعتقد والضمير والفصل بين السلطات والمساواة التامة بيت المواطنات والمواطنين، رغم الغموض والهنّات في بعض فصوله، قوانين تحاكي بلدان عريقة في الديمقراطية: قانون لمناهضة العنصرية واخر لمناهضة كل اشكال  العنف ضد النساء…

وربما الأهم صمود البلاد امام كل الهزات والحروب التي عرفتها المنطقة بعد ما سمّي ب”الربيع العربي” من حروب أهلية وتطرف وعودة للديكتاتورية، وذلك رغم العمليات الارهابية والاغتيالات السياسية التي عرفتها بلادنا والاوضاع الاقليمية الصعبة، خاصة مع الحرب الاهلية في ليبيا، التي كانت من اهم بؤر الارهاب، تدريبًا وتصديرًا للعناصر المتطرفة.

وضع ينذر بالمخاطر

ودون ان نسقط في فخ تقديس الثورات التي يرى بعض المتفائلين انها  تحمل مفتاح “الفردوس الدنيوي” و”تخلق المعجزات” فان هناك خيبة امل كبيرة من مرارة عقد من الزمن ضاع في المهاترات السياسية والحزبية وغابت خلالها اهم مطالب الثورة الاجتماعية، من شغل وتوازن جهوي واستثمار في القطاعات الحيوية، فزادت الاوضاع المعيشية سوءا بسبب التضخم وارتفاع الأسعار وتنامي الاحتكار والتوريد العشوائي نظرًا  لغياب المراقبة وتراخي أجهزة الدولة، وزاد خرق الاختلال الجهوي إتساعًا بسبب غياب البرامج التنموية والبيروقراطية الادارية وضعف الحوكمة وتضاعفت نسب البطالة، خاصة ضمن الشباب الحامل للشهادات العليا  وتسبب ضعف أجهزة الدولة في انتعاش الاقتصاد الموازي الذي حكّم قبضته على السوق، حيث يشهد نموًا مفزعًا يقدّر ب10٪ سنويًا ليصل إلى حوالي 50٪ من الناتج الاجمالي، حسب الخبراء مما يؤثر سلبًا على موارد الدولة  الجبائية ( الهزيلة اصلًا)، ويضاعف من الجرائم الاقتصادية الاخرى، مثل غسل الاموال وتهريب العملة…

أما عن الفساد المالي الذي كان أحد دوافع الثورة، لما عُرفت  به العائلات الحاكمة زمن حكم زين العابدين بن علي من سيطرة  على عُصب الدورة الاقتصادية عبر سن قوانين وتشريعات تحمي مصالحها الحيوية وتجني منها الارباح وتخنق عبرها المنافسة في القطاع الخاص، فانه قد تضاعف بعد الثورة، مما زاد من اليأس في إمكانية التغيير والاصلاح وبدأ الشك يدب في  نجاعة كل العملية السياسية.

0 %
نسبة انكماش الاقتصاد التونسي

وعمّقت جائحة كوفيد-19 من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والمالية، فقد انكمش الاقتصاد التونسي بنسبة تصل إلى 8.8٪ سنة 2020، وهي من أعلى نسب الانكماش عالميًا، وارتفعت نسبة الدين من 72٪ من الناتج المحلي إلى حوالي 90٪ ووصلت نسبة البطالة الى حدود 17.4٪ خلال الثلاثي الرابع من سنة 2020، مقابل 15.2٪ سنة 2019، وكان للأزمة تأثير على مستوى الفقر وتفاوته بين الجهات، إذ بينما لا يتجاوز رسميًا 15٪ وطنيًا، فانه يصل الى حدود 30 و40٪ في الجهات الداخلية.

عودة الاحتجاجات
التنسيقيات لا تخضع لتنظيمات تقليدية مثل النقابات أو الاحزاب ، بل هي نمط جديد من التنظيم السريع الذي يلتقي فيه شباب حول هدف أو اهداف معينة ، ويدعي السلطة للتفاوض حول مطالب حياتية  واضحة ، مثل تنسيقية الكامور في تطاوين وتنسيقية اصحاب الشهائد العليا..

كل هذه الأوضاع لا يمكن ان تؤدي إلا إلى مزيد الاحتقان والغضب لدى الشباب الذي فقد في اغلبه الأمل في امكانية اصلاح اوضاع البلاد وزاد نفوره من  طبقة سياسية يرى انها لا تحمل همومه ولا تعير مطالبه الملحة في الشغل والحياة الكريمة اي اهتمام، لذلك تصاعدت الحركات الاجتماعية في السنوات الاخيرة، لتصل إلى ما بين 8000 و9000 تحركًا سنويًا، مع صعود التنسيقيات التي استهدفت تعطيل انتاج الفسفاط والنفط والغاز في عدد من المدن التونسية، مستغلة في ذلك ضعف الدولة وهشاشة الاوضاع السياسية وتردد الطبقة الحاكمة وانقلابها على اتفاقاتها السابقة مع الجهات والنشطاء…

وحتى شباب الاحياء الفقيرة في احواز تونس العاصمة فانه لم يترك الذكرى العاشرة للثورة تمر دون ان يحتفل على طريقته، إذ رأى ان الاغلاق التام الذي فرضته السلطة لمدة اربعة ايام من 14 إلى 17 يناير 2021 لم يكن القصد منه مقاومة جائحة كوفيد-19، بل كان بغاية منع التونسيين الغاضبين من أوضاعهم المزرية من الاحتجاج، فخرج إلى الشارع يحتج، ليلًا ، في تحدي لمنع الجولان المفروض….

شبح عودة الدولة البوليسية؟

في غياب حلول لقضايا التنمية والتشغيل وجمود الفعل السياسي، لم يبق امام الحكومة التونسية التي فقدت الكثير من صدقيتها الا استعمال الذراع الأمني، في إعادة مخيفة لزمن كان فيه البوليس عصا بن علي الغليظة الذي يجابه بها الاحتجاجات والتجمعات وحتى انتقادات معارضيه، اليوم اضافة إلى استعداد السلطة للرد بقوة، هناك النقابات الامنية، التي، اضافت الى مطلبها بتحسين الاوضاع المادية لمنظوريها ، استعدادها اكثر من مرة لتبرير التجاوزات والانتهاكات واستعمال القوة دون وجه حق، مستعملة دائمًا التهديد برفض الاوامر والاعتصام، كما استعملت صفحاتها لإطلاق حملات تشويه ضد النشطاء، وهددت بردود فعل إنتقامية منهم.

لذا لم يتأخر رد الفعل الأمني، فقد أوقف أكثر من 1500 شخص بينهم مئات الاطفال، حسب تقرير الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان الذي قدمته خلال ندوة صحفية عقدتها يوم 4 فبراير (فيفري) 2021 بمقر النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، كما أشار التقرير إلى الإيقافات العشوائية ومداهمة المنازل بالقوة، التي قال انها خلفت صدمات نفسية واضرار مادية، واستعمال الغاز المسيل للدموع بكثافة مما تسبب في وفاة الشاب هيكل الراشدي، اضافة إلى التهديد بالاغتصاب والتصفية الجسدية للموقوفين،

مجلة فورين بوليسي الامريكية هي ايضًا حذرت من شبح عودة الدكتاتورية في تونس وذلك في مقال تحت عنوان  “شبح بن علي مازال يلاحق تونس” اشارت فيه إلى ما حدث خلال المسيرات الليلية التي قادها شباب الاحياء الفقيرة، قائلة  انه بعد عقد من الثورة، فان المشاهد التي عاشتها شوارع تونس بدت وكأنها تكرار لما عاشته تونس اثناء الثورة واكدت ان البلاد التي تعتبر “نموذجا للديمقراطية في العالم العربي، بدأ ينزلق مرة اخرى عائدًا إلى الدولة البوليسية”

ثالثة الاثافي: أزمة سياسية خانقة

اضافة إلى الأوضاع الاقتصادية والمالية التي زادت من تعقيدها جائحة كوفيد 19 وتداعياتها، وكذلك نفاد صبر الشباب والجهات في امكانية تغيير الأوضاع نحو الافضل بعد عشر سنوات عجاف، تأتي ازمة سياسية خانقة من أسبابها  الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية والتشريعية حول الصلاحيات وعدم استعداد اي منهما للتنازل من أجل تسيير دواليب الدولة، وذلك دون  مراعاة الوضع الدقيق الذي تعيشه البلاد.

إلا ان تدهور الوضع السياسي يجد جذوره في انتخابات 2019 التشريعية والرئاسية، فقد فاجأت نتائجها أغلب المحللين السياسيين  لأنها شكلت منعرجًا جديدًا قوامه الرفض للاحزاب السياسية القائمة والحديث عن اعادة الاعتبار لمبادئ الثورة وشعاراتها، وهذا كان ربما احد اسرار نجاح الرئيس قيس سعيد غير المنتمي المفاجئ، حيث جعل من شعار الثورة “الشعب يريد” عنوانًا لكل معاركه مع الاحزاب، خلال الحملة وبعدها، وكذلك مع الديمقراطية التمثيلية التي تعطي الاحزاب السياسية الدور الرئيسي في ادارة شؤون البلاد، فهو يعتبرها بيروقراطية وفاسدة واحيانا “متامرة”على مصالح البلاد ولا تخدم مصالح الشعب، لذا وجب تجاوزها وتعويضها بديمقراطية “مجالسية” تنطلق من “القاعدة” إلى القمة، أي من المحلي إلى الجهوي وصولًا إلى التمثيل الوطني، ويستغل قيس سعيد غياب المحكمة الدستورية، التي يُفترض ان تحسم في النزاعات الدستورية، ليكون صاحب التأويل الوحيد للدستور وصاحب القول الفصل في فصوله الغامضة، والأهم ان يوسع من صلاحياته المحدودة…

في المقابل، هناك حركة النهضة، الحزب الذي خسر الكثير منذ انتخابات 2011 إلى الان، وخسارته ليست فقط في فقدانه الكثير من مخزونه الانتخابي من انتخابات إلى اخرى بل في تحديات جديدة فرضتها تهرئة الحكم وسوء ادارة الشأن العام.

فالصراعات الداخلية التي اججها التحضير لما بعد راشد الغنوشي، الرئيس التاريخي، اربكت  الحركة حيث  استقالت قيادات تاريخية التصق وجودها بالحركة واصبح اداء الشيخ، سواء كان داخل حزبه أو على رأس مجلس نواب الشعب محل تساؤل وتشكيك،

كما ان اثارة الماضي العنيف للحركة وعمليات القتل عبر شهادات من داخل الحركة وغياب النقد الذاتي عن كل اخطاء الماضي قد اثار حفيظة العديد من التونسيين بمن فيهم اولئك الذين كانوا من اشد المتعاطفين معها.

لذلك فان السيد راشد الغنوشي، يعتقد أنه الأقدر سياسيًا في البلاد بعد وفاة صديقه الباجي قايد السبسي، قد رأى في رئيس الجمهورية الحالي منافسًا عنيدًا، يميل إلى التحدي والمناكفة، وهو بذلك يكون تهديدًا لمستقبل الحركة ولمستقبل الغنوشي  السياسي.

لذلك فكلاهما يدافع عن موقعه الخاص وكلاهما يبحث عن توسيع مربّع نفوذه، ولا أحد منهما يفكر في تقاسم السلطة أو يظهر اكتراثًا بالأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد، فقيس سعيد يسعى إلى المحافظة على شعبيته التي اكتسبها خلال حملته الانتخابية، وان يحقق بعض ما وعد به ناخبيه، أما السيد راشد الغنوشي فانه يحاول التمسك بقواعد اللعبة السياسية بعد ان أحس بان زمام المبادرة قد بدأ يُفتك منه، وبعد ان بدأ حزبه يترنح تحت وقع الضربات الموجعة التي يكيلها إليه خصومه، وخاصة رئيسة الحزب الدستوري الحر، مما يشي بان الانتخابات القادمة ستكون مصيرية للحزب ولرئيسه الذي فقد الكثير  من الكاريزما والثقة وحتى الدهاء السياسي أمام كثرة الهفوات والاخطاء، مما جعل امكانية سحب الثقة من رئاسته للبرلمان أمرًا ممكنًا …  

في واقع هذا الصراع الشخصي المدمر وأمام برلمان يعيش كل يوم مهازل وعراك وحتى أعمال عنف بين الفرقاء السياسيين، لا يكاد يُسمع نداء الخبراء والمحللين والخائفين على مصير البلاد والحريصين على ديمقراطيتها الفتية، فلا صوت يعلو فوق صراخ السياسيين…

تمثلات سياسية جديدة

خسرت الاحزاب التقليدية الانتخابات الاخيرة لان وجودها لمدة خمس سنوات كان غير فاعل، اذ اثبتت انها غير قادرة على الدفاع عن مبادئ الثورة وقيم الجمهورية ولم تكن مجدية في مواجهة التيار الاسلامي ولم تحمل مشروعًا وطنيًا يلبي طموحات الناخبين وخاصة الشباب والجهات المهمشة، فكان رد الفعل مدويًا عبر انتخاب تيارات واحزاب واشخاص، تحمل افكارًا شعبوية، لا ماضي سياسي لأغلبها، لكنها تستجيب لما وصل له الناخب التونسي من يأس بعد تجارب مريرة مع الاحزاب التقليدية.

فالرئيس قيس سعيد، الذي لازال يحتفظ بالمركز الاول في سبر الاراء رغم التراجع النسبي في شعبيته، هو أحد هؤلاء المتسللينللسلطة مستعملًا أدوات غير تقليدية، وهو يحمل مزيج من عديد المتناقضات تجعل مواقفه، في اغلبها غامضة وعائمة: فهو يتمسّك بنص الدستور، لكنه لا يعترف بمبدأ المساواة، يقدّس القوانين الوضعية ويستشهد غالبا بالنص القرآني، كمرجع مقدس وملهم، ينتقد المنظومة القديمة، ويعيّن مديرًا أمن سابق سفيرًا في إحدى الدول الاوروبية، متسببًا في أزمة ديبلوماسية، يختار رئيس حكومة من محيطه القريب ثم ينقلب عليه عندما يأخذ هذا الاخير مسافة منه، يدافع عن السيادة الوطنية ويطرح المشاكل الداخلية امام السفراء الاجانب

لكن الرئيس يتمتع بخصلتينحافظت على شعبيته وجعلته مرشح بعض القوى اليسارية الشعبوية واليمينة والقومية وحتى الوسطية في نفس الآن: استحضاره الدائم للشعب، في خطبه وكل وسائل اتصاله، دون ان يكون هناك تصورات حقيقية لما يجب انجازه لصالح هذا الشعب، وعداوة تكاد تكون مرضية لحركة النهضة، رغم انه يشترك معها في الرؤى المحافظة، في خصوص المساواة في الارث وعقوبة الاعدام ورفض الاعتراف بالأقليات الجنسية واستحضار الموروث الديني

والحقيقة انه بعد سنوات طويلة انتظر فيها الشعب نهاية العبث السياسي والتردد والصراعات الهامشية، قفزت إلى السطح تمثلات مختلفة تبدو مقنعة بخطابها الشعبوي والتبسيطي، منها من يواصل الاستثمار في الاسلام السياسي، على غرار النهضة وتوابعها، ومنها من ينجح في دغدغة مشاعر الحنين إلى الماضي القريب، رغم قتامته وبؤسه، مثل الحزب الدستوري الحر، ومنها من يخالف كل هذا ليأتي خطابًا اخلاقويًا عائمًا مثل السيد قيس سعيد، خطاب يجد صداه عند من سئموا عجز النخب واخفاقاتها،،، وفي خضم كل هذا، يدخل الانتقال الديمقراطي الهش في نفق لا ندري اذا ما سيكون الخروج منه ممكنًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *