عادة ما يأتي ذكر الرأي العام مقترنًا بمصطلح الإعلام، والسبب في ذلك هو الدور المؤثر لوسائل اﻹعلام على اختلاف تصنيفاتها ما بين تقليدية أو رقمية في تشكيل اتجاهات الرأي العام، مع اﻷخذ في الاعتبار علاقة السُلطة بوسائل اﻹعلام من ناحية وعلاقتها بالرأي العام من ناحية أخرى.
وإذا كان الباحثون قد أقروا بأهمية الرأي العام ودوره فقد اختلفوا في تعريفه. هذا التباين في تعريف الرأي العام ينبُع من اختلاف طبيعة تخصص كل منهم.
وثمَّة تعريفات كثيرة جدًا للرأي العام، وتكاد كل هذه التعريفات تجمع على أن التعبير عن الرأي العام من ناحية ومحاولة تغييره وتوجيهه والتأثير فيه أو حتى تكوين رأي عام من جديد، من ناحية أخرى لن يتم إلا عن طريق الإقناع الذي يتطلب التواصل بكل ما يستلزمه من مناقشة مختلف اﻵراء وفحصها، ونقد اﻷفكار المعارضة، مع الاستعداد لقبولها إن ثبتت صحتها. ففرض الرأي أو الفكر عن طريق القهر واﻹملاء ومطالبة اﻵخرين باعتناقه واﻷخذ به بغير اقتناع منهم لا يعني أبدًا تكوين رأي عام بالمعنى الدقيق للكلمة، أي أن حرية الفكر والتعبير وإبداء الرأي هو اﻷساس الذي يقوم عليه الاتجاه العام في المجتمع الذي يمثل الحد اﻷدنى من الاتفاق حول موضوع معين، أو قضية معينة.
عندما نتحدث عن دور وسائل اﻹعلام في تشكيل اتجاهات الرأي العام، لا يمكن تجاهل عدة أمور لفهم تأثير وسائل الإعلام سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا على الرأي العام، وأحد أهم تلك اﻷمور هو سياق علاقة السلطة بوسائل اﻹعلام وهو التخوف الذي أثاره المقررين الخواص لحُرية التعبير في الإعلان المشترك بمناسبة الذكرى السنوية العاشرة بعنوان «التحديات العشرة الرئيسية لحُرية التعبير في العقد المقبل»، وفي مُقدمة تلك التحديات تأتي آليات سيطرة الحكومة على وسائل اﻹعلام، فحسب الإعلان تعد السيطرة من القيود التي ما فَتِئْتُ تحد، على مر السنين من حُرية التعبير تُشكل مُشكلة خطيرة. وتتخذ تلك السيطرة أشكالًا عديدة، إلا أننا نشعر بالقل بصفة خاصة إزاء ممارسة النفوذ السياسي أو السيطرة السياسية على وسائل اﻹعلام العامة بحيث تستخدم كأدوات تنطق باسم الحكومة بدلًا من أن تكون هيئات مستقلة تعمل من أجل الصالح العام.
لذا تتناول هنا حُرية الفكر والتعبير عن الرأي كمدخل أو مظلة لحماية حُرية اﻹعلام وأهمية أن يكون حُر وغير مُقيد للقيام بدوره في تقديم اﻷخبار واﻵراء واﻷفكار للمواطن، كذلك الحق في الحصول على المعلومات وتداولها باعتباره حقًا ضروريًا لخدمة الرأي العام ومساعدته في الاختيار والمشاركة، وأخيرًا نحاول اﻹجابة على سؤال دور وسائل الإعلام المصرية تضليل أم تأثير الرأي العام؟
حُرية الرأي والتعبير كمِظَلَّمة لحماية حُرية اﻹعلام والحصول على المعلومات وتداولها
إن الحق في حُرية الرأي والتعبير يتكون من ثلاثة عناصر مُختلفة حسبما تنص المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (أ) الحق في اعتناق آراء دون مضايقة، (ب) الحق في التماس المعلومات وتلقيها والحق في تيسير الحصول عليها، (ج) الحق في نقل جميع أنواع المعلومات واﻷفكار دون أي اعتبار للحدود، شفاهًة أو كتابًة أو في شكل مطبوع أو في قالب فني أو بأي وسيلة أخرى يختارها المرء.
وتؤكد مجموعة كبيرة من السوابق القضائية، وتقارير المكلفين بإجراءات خاصة، وقرارات صادرة عن اﻷمم المتحدة والنظم اﻹقليمية لحقوق اﻹنسان أن حُرية التعبير «جوهرية للتمتع بسائر حقوق اﻹنسان والحريات، ودعامة أساسية ﻹقامة مجتمع ديمقراطي ولتعزيز الديمقراطية».
فالحق في حُرية الرأي والتعبير هو أكثر من أي حق آخر رمز لترابط جميع حقوق اﻹنسان وعدم قابليتها للتجزئة. وعلى هذا اﻷساس، يُعتبر التمتع الفعال بهذا الحق مؤشرًا مهمًا على حماية حقوق اﻹنسان والحُريات اﻷساسية اﻷخرى.
وعلاوة على ذلك وعلى الرغم من كون الحق في حُرية الرأي والتعبير حقًا فرديًا بأوسع معنى التمتع به، فهو يُعتبر أيضًا حقًا جماعيًا إذ يمنح فئات المجتمع القدرة على أن تلتمس وتتلقى مختلف أنواع المعلومات من مجموعة متنوعة من المصادر وتعبر عن آرائها الجماعية.
باﻹضافة إلى النص على الحق في حُرية التعبير وحُرية تداول المعلومات، نصت النظم القانونية والدولية أيضًا على أن الصحافة الحُرة غير المُقيدة هي شرط ضروري لضمان تلك الحُريات، فقد قررت المحكمة اﻷوروبية لحقوق اﻹنسان على سبيل المثال أن اﻹعلام يلعب دورًا حيويًا كمرصد عام وعليه مسئولية نقل المعلومات واﻷفكار التي تهم الرأي العام والتي يحق للرأي العام الحصول عليها، كذلك تمد الصحافة الرأي العام بأفضل السبل لاكتشاف وتشكيل الرأي بشأن أفكار ومواقف القيادات السياسية، وتعمل على تعزيز جدال سياسي مفتوح وحُر، الذي يمثل جوهر مفهوم الديمقراطية.
فإذا لم يعرف الناس ما يحدث في مجتمعهم، وإذا كانت أعمال أولئك الذين يحكمونهم مَخفِيَّة، لا يمكنهم المشاركة فعليًا في شؤون ذلك المجتمع. وليس الاطلاع على المعلومات حاجةً للناس فقط، إنّه شرط أساسي من شروط الحكومة الصالحة. تحتاج الحكومات السيئة إلى السريّة في أعمالها للبقاء، فهي تسمح بتعميق عدم الكفاءة والإسراف وازدهار الفساد.
وفي مُقدمة تقريره لعام 2015 يُشير المُقرر الخاص المعني بحماية وتعزيز حُرية الرأي والتعبير في إطار حديثة عن المسائل التي تهم الرأي العام، إلى أن اﻹفصاح أو الكشف عن اﻷسرار يتطلب عادة ثلاثة عناصر، وهي: شخص لديه الاستعداد والقدرة لكشف المستور، وموصل للمعلومات أو منبر اتصال لنشر تلك المعلومات، ونظام قانوني وثقافة سياسية تحميها حماية فعالة. ودون هذه التوليفة – المصدر، والنشر، والحماية – فإن ما هو سري يظل على اﻷغلب كذلك.
إعلام مُستقِل حُر وغير مُقيد
يُمكن تصور حُرية وسائل اﻹعلام على أنها حُرية النشر والتوزيع للمضامين على المنابر اﻹعلامية. وهذا شرط مُسبق لكثير من المنظمات وكذلك أي فرد يرغب في الوصول إلى الجمهور، وهذا أيضًا أمر جوهري لمؤسسات اﻹعلام اﻹخباري والمؤسسات اﻷخرى التي تُمارس الصحافة، ﻷن ما ينشرونه يُؤثر على السُلطة. غير أن أي قيود على حُرية وسائل اﻹعلام يمكن أن تُؤثر على جميع الجهات الفاعلة التي تستخدم هذا البعد العام للحق في حُرية التعبير. ثم إن حماية حُرية وسائل اﻹعلام وتعزيزها أمر أساسي لتحقيق مجتمع أكثر ديمقراطية.
ودور الإعلام هو نشر الحقائق واﻵراء عن طريق الوسائل الإعلامية. لكن هدف هذا النشر تزويد الناس بالمعلومات الصحيحة الصادقة. وذلك بغرض معاونتهم ودفعهم إلى تكوين الرأي السليم إزاء مشكلة ما أو مسألة عامة، إن هدف اﻹعلام هو نقل الصورة بأمانة وليس إنشاء هذه الصورة، لأن عملية إنشاء تلك الصورة هو من عمل المواطن.
قد يختلف البعض على أولًا: هل الانتقال لنظام ديمقراطي يساعد على نشأة إعلام مُستقل وحُر؟ أم نشأة إعلام مُستقل وحُر سيساعد على حدوث التحول الديمقراطي؟ لكن من الصعب أن يختلف أحد على أن استقلالية اﻹعلام ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالديمقراطية ومبادئها، وبقدرة اﻹعلام على أداء وظيفته الاجتماعية اﻷولى وهي الرقابة الذاتية للمجتمع.
وكلما كان اﻹعلام أكثر استقلالًا، كلما كانت تغطيته أكثر انضباطًا، وأشمل، وأكثر تمثيلًا للمجتمع بكافة أطيافه وغير مُنحازة لطرف على حساب اﻵخر، ومن ثم يساعد ذلك على تحقيق أداءً مهنيًا أفضل ويضمن الحفاظ على حقوق اﻹنسان اﻷساسية مثل الحق في التعبير والتنظيم والمعرفة ومن ثم المُشاركة الفعَّالة في الحياة العامة.
سعت سوديشا بال في دراسة بحثية لها بعنوان «حُرية اﻹعلام وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي» لفحص تأثير انعدام استقلالية اﻹعلام وعدم توافر مناخ حُر له على الاستقرار السياسي والاجتماعي في المجتمع. وقد قامت بقياس تأثير اﻹعلام على الاستقرار السياسي والاجتماعي بسبعة مؤشرات منها، الاحتقان اﻹثني، التوتر الداخلي بسبب وجود حروب أهلية أو احتمالية حدوث انقلابات عسكرية أو حوادث إرهابية أو فوضى أهلية، ارتفاع معدل الجريمة والفوضى وعدم توافر نظام قضائي عادل يضبط النظام الاجتماعي ويُلزم المواطنين بالقانون، تدخل الجيش في السياسة والحكم، واستقرار الحكومة وقدرتها على البقاء في السلطة ومدى كفاءتها وفاعليتها في تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية.
حيث أكدت النتائج التي وصلت إليها بال – إحصائيًا – أن هناك علاقة عكسية بين حُرية واستقلالية اﻹعلام وبين أربعة من تلك المؤشرات السابق ذكرها. فلو كان هناك مناخ حُر للإعلام ﻷثَّر ذلك إيجابيًا على الاستقرار السياسي والاجتماعي اللذين يؤثران بدورهما على الاستثمار والنمو الاقتصادي. واستنتجت أن اﻹعلام المستقل – الذي لا تسيطر عليه الدولة وجماعات المصالح والذي يعمل على إتاحة المعلومات بشكل مهني وتعزيز حق المواطنين في المعرفة والتعبير عن آراءهم – يعمل على تحسين وضع المسئولية والمحاسبة الواقع على عاتق الحكومة ﻷنه عليها ضغطًا داخليًا وخارجيًا للتحسين من أدائها ومواجهة قصورها.
فلا غني لأي مُجتمع عن الصحافة أو غيرها من وسائط اﻹعلام التي تكون حُرة وغير خاضعة للرقابة وتعمل دون عراقيل وذلك لضمان حُرية الرأي والتعبير والتمتع بالحقوق اﻷخرى، وتُشكل الصحافة ووسائط اﻹعلام اﻷخرى حجر الزاوية لمجتمع تسوده الديمقراطية.