
يحتدم التطاحن العسكري والأيديولوجي على الساحة السياسية في ليبيا في ظل العديد من الخروقات الحقوقية والقانونية ما بين أطراف الصراع الحالي، فما بين الفجوات الموجودة حاليًا لمستقبل هذا البلد تبرز ضفة متوهجة بالصراعات القبلية والسياسية والمالية وضفة أخرى يتوقع منها انحدار المشهد إلى ما هو أسوء.
طبيعة الإعلام في ظل الصراعات المُشتعلة غالبًا ما تكون طبيعة فاعلة ومساهمة في هذا النوع من الصراع وليست مفعولًا عليها – حيث إن وسائل الإعلام تلعب دورًا رئيسيًا في توجيه هذه الحرب إلى إحدى القطبين – قطب أول موجب حيث الاستقرار والتوجه إلى صناديق الاقتراع ومرحلة الانتقال السلمي عن طريق الانتخابات وتأسيس مجلس تشريعي مُوحد ودستور يتفق عليه كل الليبيون، وإما نحو قطب سالب حيث الفراغ الأمني والتوجس السياسي والشرخ الاجتماعي ودخول البلاد في دوامة الحروب اللامتناهية كما هو الوضع الآن بعد تسع سنوات من الثورة – وكلتا الحالتين تُسيطر عليهما الحوكمة الإعلامية والتي تتكون من أدوات الإعلام التقليدية أو مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت هيمنتها هيمنة كبيرة وعظمى.

يمكننا أن نُقسِّم الإعلام الليبي وفقًا للمعيار الزمني إلى ثلاث مراحل أساسية:
المرحلة الأولى :
المرحلة الأولى وهي مرحلة ما قبل التحوُّل الديمقراطي2011 حيث كانت جميع وسائل الإعلام مرتبطة بالإعلام العمومي الحكومي بشكل كامل والذي يُعد إعلامًا ذو قالب المرسل فقط – فلا دور للمتلقي أو الجمهور في صناعة المحتوى أو المادة المقدمة، فهذا النوع من الإعلام الأحادي يتسم بانعدام البرامج الحوارية والانتقادية او السكيتشات السياسية الساخرة أو حتى تقديم محتوى ينافي السياسة الإعلامية المرسومة مسبقًا من قبل نظام القذافي الشمولي والذي اعتُبر الإعلام فيه أداة مسيَّرة من قبله ولا يستطيع أحد الخروج عن هذا المسار.
بعد أن استولى القذافي على السلطة في انقلاب في عام1969 ، أصبح المحتوى الإعلامي مُسيَّسًا بدرجة كبيرة لدعم النظام الجديد. ومع ذلك، على الرغم من ظهور المزيد من المحتوى السياسي المُسيس، كان يخضع لسيطرة الدولة على النحو المنصوص عليه في كتاب القذافي الأخضر حول الفلسفة السياسية نُشر في عام 1975)) وقد تحقق ذلك من خلال ربط جميع المنظمات العامة، بما في ذلك وسائل الإعلام، بـ”اللجان الشعبية» وفقًا للكتاب الأخضر- فوسيلة الإعلام (الجماهيرية) هي الوسيلة الوحيدة الناقلة لما يدور من أوضاع داخل البلاد أو خارجها، حيث كانت الصوت الوحيد الذي يُردد ما يُطلب منه وبالتالي كانت هي المرّوج لأفكار وأخبار محددة تساهم في زيادة انغلاق المجتمع عن الواقع الموجود آنذاك، فكانت امتدادًا لسلطة الدولة تحت ذريعة الإصلاح – كما أنه في ظل حكومات دكتاتورية كحكومة القذافي، لا يوجد قوانين أو تشريعات معينة خاصة بالإعلام لاسيما تلك التي تحد من حُرية التعبير كونها تُعتبر قضايا تشهير أو تحريض وتفرقة، فكافة القوانين الليبية تُلزم الصحفي أو الإعلامي الرضوخ إلى سياسة الأمر الواقع. كما أن القانون الليبي لم ينص على حفظه لحق ممارسة الصحافة أو العمل الإعلامي بكل حُرية – حيث يتناسى صناع القرار في دولة كليبيا الخوض في جانب الحُريات الفردية أو المهنية أو الفكرية فهذه تُعتبر التهديد الأول والأخير بالنسبة لهم.
في السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات مورست العديد من التضييقات على وسائل الإعلام بسبب الانهيار الاقتصادي وتقليل الميزانية المُخصصة لدعم الإعلام العمومي، حيث أخذت الأوضاع السياسية المحلية مُقدمة الأخبار والمحتوى الإعلامي ولا صوت يعلو على صوت أحادية الحكومة الديكتاتوري رغم القول السائد للقذافي ضمن كتابه الأخضر وهو (الصحافة أو الإعلام هي وسيلة تعبير المجتمع وليست وسيلة تعبير للشخص الطبيعي أو المعنوي، إذن منطقيًا وديمقراطيًا لا يمكن أن تكون ملكًا لأي منهما) (القذافي 1984 – ص 68) فاستمرت هذه التضييقات حتى أوائل التسعينيات بسبب العقوبات التي فُرضت على ليبيا بسبب قضية طائرة لوكيربي والتي على إثرها حظر على ليبيا استيراد الورق والوسائل التكنولوجية الحديثة لتواكب وسائل إعلام عربية وعالمية وهذا الذي زاد من بقائها داخل إطار مغلق غير نفاذ.
كما أن استخدام خطاب الكراهية لدى الإعلام الليبي حتى التسعينيات كان خطابًا موجهًا لحكومات عدوة ودول أجنبية غير صديقة فكانت صفات الشتم والنعت بالإمبريالية والجوسسة لدول كأمريكا وبريطانيا هي محور أي محتوى تليفزيوني أو إذاعي مقدم في تلك الفترة – كما شهدت أيضًا عروضًا لبعض عمليات التصفية والإعدام المعلنة على التليفزيون مما أسمتهم الحكومة وامتداداتها الإعلامية بالكلاب الضالة، وهذا يؤكد أن تلك الفترة هي الأعنف والأكثر تحريضًا في تاريخ الإعلام الليبي.
ولكن مع بداية القرن الواحد والعشرين – قام سيف الإسلام في2006 بتأسيس صحيفتي «أويا» و»قورينا» المنبثقة عن «مجموعة الغد الإعلامية» وكذلك «قناة الليبية» بسبب الانتقاد الدولي لسياسة والده التعسفية تُجاه حُرية التعبير والصحافة – بالتالي كانت هذه مبادرة الإصلاح المزعومة والتي كانت فرصة كبرى للصحفيين الجدد للانخراط بالعمل الصحفي مُقتصرين على الرقابة الصحفية التي تنقد شخص القذافي، ولكن لم يختلف كثيرًا أسلوب هذه الصحف عن سابقتها من ناحية نقص الموضوعية وتسييس المواد الإعلامية.
المرحلة الثانية :
أما المرحلة الثانية وهي أحداث الثورة في سنة 2011 وهي نقطة تحول كُبرى في تاريخ ليبيا والإعلام الليبي – فظهرت العديد من القنوات الخاصة أثناء وبعد الثورة منها التي انطلقت من مدينة بنغازي بتراخيص مُنحت بسلاسة من المجلس الانتقالي آنذاك والذي لم يضع معايير مُعينة تضبط مهام وآلية عمل هذه القنوات – وأيضًا انطلقت قنوات خاصة آخرى والتي دُعِّمت بشكل مباشر من دول عربية مُعينة كان لها دور في الإطاحة بحكم القذافي وإنهاء فترة رئاسته ومن بين هذه الدول قطر والإمارات وتركيا، كما أن هذه القنوات ساهمت في الترويج لأفكار ثورجية معينة ساهمت في تضليل المُتلقي عن السياق العام من خلال بث محتوى كاذب أو مبالغ فيه وأحيانًا خطاب مضاد يفتقد للقيمة العلمية أو الخبرية كالنعت بمسميات تحقيرية لشخصيات عامة أو سياسية ناهيك عن وضع حيثيات محددة شأنها تزييف الواقع المُعاش والأخبار الأصلية وغيرها من حالات اللامهنية الإعلامية.
اتسمت هذه المرحلة بخطاب كراهية مباشر ساهم في تحديد الفروقات القبلية والمناطقية بين العديد من المدن الليبية، فما بين مؤيد ومعارض للثورة برزت العديد من المسميات والنعوت الكارهة لكلا الطرفين والتي كانت بداية الشرخ الاجتماعي الأول – لمرحلة ما بعد الثورة – حيث بثت مرات عديدة على هذه القنوات الخاصة لمصطلحات: طحلب، جرذان، أزلام وعبيد، عائدون، متآمرين،.. إلخ. كان هذا النوع من الخطاب هو الفتيلة الأولى للتفرقة بين الليبيين ووصفهم بأوصاف تحدد مدى انتماءاتهم وولاءاتهم السياسية الاجتماعية، وهذا اضطر الكثيرين لاختيار خطاب مضاد يضمن لهم تواجدًا اجتماعيًا وأداة إعلامية لدفع الإقصاء الواقع عليهم. كما أن موجة القنوات الخاصة التي افتتحت في تلك الفترة القصيرة جعلت من المتلقي غير قادر على إدراك التوصيف الصحيح لمهنية الإعلام التي كانت غائبة عنه لعقود طويلة والتي يصعُب عليه تحديدها أثناء نشوة إنهاء حكم القذافي، بالتالي، فإن تلك القنوات كانت هي السبيل الوحيد لنقل وتبادل المعلومات والأخبار التي يرغب سماعها بغض النظر عن مدى صحتها من عدمه.

مع بداية الأحداث المتسارعة للأوضاع أصبحت القنوات الليبية المُستحدثة هي السلعة الوحيدة الموجودة والمقدمة لمشاهديها أو وروادها – فمن خلال الانطلاقات الأولى لقناة «ليبيا الأحرار» التي قُدمت كهدية للشعب الليبي من قبل دولة قطر بدافع تحفيز التحوُّل الديمقراطي في المنطقة والتي قدمت محتوى يدعم الثورة في بدايتها وتذبذبت توجهاتها لاحقًا حسب تغير إدارتها وأهدافها من فترة إلى أخرى وهي التي ساهمت في تشكيل أصحاب المصالح ذوي الانتماءات الإسلامية كالإخوان المسلمين سواء كأحزاب أو أفراد أو جمعيات، كذلك بعض القنوات التي بُثت من دول أخرى كانت هي المصدر الوحيد لكل سلع الكراهية والخطاب المعادي ولغة التشكيك في الآخرين، كما سمحت لنفسها باستقطاب عشرات من الأبواق الإعلامية التي ساهمت في تأجيج الوضع بشكل عام وإحداث البروباجندا المطلوبة.
المرحلة الثالثة :
أما المرحلة الثالثة والتي جاءت بعد 2014 والتي تغيرت فيها أطراف الصراع الإعلامي من أشكال صغرى متعددة إلى أقطاب كبرى واضحة مما جعل وسائل الإعلام تلعب بشكل أوضح وهوية مباشرة دون إخفاء نفسها وراء مسميات خوارزمية معقدة – فأصبح الخطاب المُوجَّه ليس للساسة فقط أو حكومة معينة بل كانت هذه المنصات تدعم أمراء حرب وتشكيلات مُسلحة للغزو على مدن ومناطق معينة – حيث كان الخطاب أكثر حدة وتحريضًا، فمن ناحية ما أصبح لدى هذه المنصات سُبل تمويل أجنبية تضخ لها بشكل مستمر كونها تدعم طرفًا واضحًا في تلك الحرب، كما أن موقفها أصبح مدعومًا من قاعدة جماهيرية لا بأس بها كونها تمثل أراءهم ووجهات نظرهم.
ما تميزت به هذه الفترة هي سرعة وتنوع خطاب الكراهية بين ما هو تغطيات إخبارية مكذوبة وأشرطة أخبار مليئة بالمغالطات النصية والمعلوماتية، بالإضافة إلى أن تناول بعض المواضيع غالبًا ما يكون بشكل وقتي وصريح دون عمل مراجعات أو مونتاج لتلك المواد المُحضرة مسبقًا، بل العكس، معظم القنوات تحاول إبراز أسوء ما لديها من أسلحة إعلامية في تلك الفترة لتثبت فقط صحة الطرف المساند من قبلها، وهذا ما جعل تلك السنة هي مرحلة مفصلية في بداية حروب أهلية ظلت لسنوات ويتوقع منها الاستمرار لما هو أبعد من ذلك. كما أن الطبيعة العدوانية التي خلفتها وسائل الإعلام بما يعرف لدى الليبيين (سنة حرب المطار) أخذت في التوسع لدى الكثيرين من مُقدمي الأخبار والبرامج اليوم فهي أصبحت المعيار الأساسي الذي يبدأون منه لشجب أو مناهضة مدينة أو فئة أو عنصر ما.
وعلى مر هذه السنوات والمراحل فإن الإعلام الليبي تطبّع بأشكال وأدوات هي الأخطر في المنطقة إعلاميًا من حيث تبني العنف اللفظي والتحريض على القتل والغزو ونشب الحروب بين المتنازعين، بالإضافة إلى اللغة الهجومية التي ساهمت في تأخير الوصول إلى مرحلة تناقل السلطة سلميًا بين الحكومات والمراكز القيادية في الدولة.
ورغم إدراك الجميع لخطورة هذا النوع من الخطاب على العملية السياسية والظروف الاقتصادية بشكل عام فإن هذه الوسائل الإعلامية تأخذ كل يوم شعبية متزايدة ومصادر تمويل مُتعددة وغير مُنقطعة بل إنها أصبحت (تتكاثر) وتتجدد بطرق متنوعة كقناة 218 التي أخذت على عاتقها مُهمة إخبارية كاملة من حيث تخصيص قناة لهذا الشأن والتي تستقي معظم أخبارها من صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي تفتقد في بعض الأحيان إلى مصدر ومصداقية الخبر, غير أن محاولات القناة للنفاد إلى المعلومة أو الولوج إلى الخبر في غالبه ما يكون سريعًا وعاجلًا ولكنه يفتقد إلى الأهمية أو التوقيت الصحيح. أما قنوات كقناة الحدث التي تدعم عسكرة الدولة دون الالتفات إلى طموحات الليبيين في نيل ديمقراطيتهم التي ناضلوا من أجلها طيلة هذه السنوات، تحاول من خلال خطابها المُحرض على تكميم الأفواه المنتقدة أو الداعمة لطرف مضاد، فقد شوهدت العديد من المرات التي يقمع فيها المشاركون في الحلقات المباشرة للبرامج أو التغطيات من الحديث بشكل مفتوح وصريح وهذا ما جعل ميول القناة واضحة للكثير من المتابعين والمراقبين الإعلاميين.
ورغم تكرر حالات خطاب الكراهية واللُغة التحريضية وحالات التشهير بشكل عام فإنه لم تُسنْ أي قوانين أو قرارات تحد من هذا الأمر على مر الوزارات المتواردة والهيئات المختصة – وهذا بالطبع سيحول دون إنهاء هذه المعضلة التي قد تتسبب في نشوب حروب آخرى كانت قد لا يكون لها وجود في حال تم تطبيق رادعٍ مادي أو عقوبة معينة من شأنها أن تقلل هذا الخطاب المسموم.
نهايةً, جل الانقسامات على الأرض هي امتداد لانقسامات إعلامية أولية عملت بشكل غير حيادي وفقًا لمصادر تمويلها المالي والجهة أو المنطقة التي تبُث منها والتيار السياسي الذي تناصره – سواء أكان ليبراليًا أو إسلاميًا أو غيره.. فالوقوف وراء إصلاح الإعلام بشكل جدي هو أولى خطوات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي أيضًا – لأنه بتوقف ضخ السموم يتوقف هيجان تلك الكيانات والأجسام المسلحة والسياسية.