أوراقإصداراتالدولتونسمنتدى دعم

الاعلام التونسي من سلطة النظام إلى سلطة الايديولوجيا ورأس المال

وليد الماجري
صحفي ومدر اإلعالم ْ في مجالي واالتصال.

«نرسل لهم طاقمنا الصحفي لتصوير عائلاتهم وتشويههم أمام جيرانهم.. ونُطلق حملة ثلب وتشويه واسعة النطاق.. نقول انّهم خونة وعملاء للأجنبي.. نقول انّهم باعوا الوطن.. انّهم أعداء الوطن.. ثمّ نعطي الميكروفون الى بعض المواطنين البسطاء ونلقّنُهم مثل هذا الكلام ونسجّلهم.. ويتولّى صحفّيونا في البلاطو ذبحهم اعلاميا فيصدّق الرأي العام كلّ الثلب والتشويهات التي قلناها».
كان هذا ملخّص اجتماع هيئة تحرير قناة «نسمة» الخاصّة منذ نحو سنتين برئاسة نبيل القروي مدير عام القناة، المرشّح الحالي للرئاسة ورئيس حزب «قلب تونس»، في إطار التحضير لاطلاق حملة تشويه غير مسبوقة ضدّ قيادات منظّمة «أنا يقظ» على خلفية نشر المنظّمة تحقيقا حول شبهات التهرّب الضريبي والفساد المالي لشركات الأخوين قروي.

هذه الواقعة ليست الأولى من نوعها وربّما لن تكون الأخيرة، غير أنّها تُعتبر نقطة فارقة في الاعلام التونسي بل وحالة فريدة من نوعها تستدعي إخضاعها للدرس والتحليل قصد فهم البيئة الاعلامية التونسية في حقبة ما بعد الثورة، والوقوف عند مسارات تشكّل الرأي العام في تونس وتقنيات التوجيه الإعلامي المبتكرة، والتي باتت تنهل من التكنولوجيا الحديثة والسّرد الرقمي وعوالم الماركوتينغ من أجل صناعة عرض فرجوي مبهر «شو show « يسهّل عمليّة هضم الأكاذيب ويتيح الاستيلاء على أدوات صناعة الرأي العام للسيطرة عليه من أجل توجيهه وفق ما تقتضيه المصالح المالية أو السياسية أو الأيديولوجية الضيّقة لوسيلة الإعلام أو الكيانات التي تقف وراءها وتتحكّم فيها كما يتحكّم اللّاعب الخفي في الدّمى الراقصة.

من قُمقم النظام إلى قُمقم المصالح واللوبيات :

لا يمكن فهمُ منظومة الإعلام في تونس ومدى قدرتها على التحكّم في الرأي العام وتوجيهه خلال فترة الانتقال الديمقراطي ما لم نتمكّن، في البداية وقبل كل شيء، من تفكيك هذه المنظومة والوقوف على خصائصها قبل الثورة وبعدها، فضلًا عن عرض لمحة تاريخية عن تشكّل المشهد الإعلامي بعامّه وخاصّه وملابسات فسح المجال للخواصّ للاستثمار في هذا القطاع الحسّاس الذي لطالما مثّل حجر الزاوية في استراتيجيات التعبئة والدمغجة والتضليل التي سار عليها النظام السابق في شتّى مراحل تطوّره منذ الاستقلال في خمسينات القرن الماضي والى حدود سقوط أركان حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي منذ ما يربو عن الثماني سنوات.

خلال فترتيْ حكم الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي كانت وسائل الإعلام أداة بيد السلطة وركيزة أساسية من ركائز الديكتاتورية حيث لعب التلفزيون، بشكل خاص، وبقيّة المحامل الأخرى من راديوهات عمومية وصحف ومجلّات، دورا مفصليا في تبييض الجرائم السياسية من ناحية والنّفخ في صور عدد كبير من الفاسدين وفي مقدّمتهم أصهار بن علي وعائلته وحاشيته من ناحية ثانية، فضلا عن التحكّم المطلق في الرأي العام بواسطة المراقبة الكليّة المباشرة التي مارستها أجهزة السلطة على العدد القليل من وسائل الاعلام الناشطة والتي كان أغلبها يدور في فلك الإعلام العمومي.
حاول نظام بن علي منذ التسعينات أن ينوّع العرض الإعلامي كي يقلّص من تأثير وسائل الإعلام الأجنبية التي كان بعضها ينتقد سياساته.

هذه الاستراتيجية دفعت بالمقرّبين من النظام لتصدّر المشهد الإعلامي «الجديد» حيث طفقوا يشترون أو ينشئون وسائل إعلام سمعية ومرئية أو مكتوبة بتسهيلات وصلت في بعض الأحيان، الى حدّ تسخير بعض البنوك العمومية لتمويل هذه المشروعات دون ضمانات تذكر. وقد تمّت مصادرة العديد من هذه المؤسسات بعد الثورة لتصبح تحت إشراف الدّولة (نصيب صخر الماطري في دار الصباح، وبلحسن الطرابلسي في كاكتوس برود وراديو موزاييك، وسيرين بن علي في شمس آف آم).
كانت السلطة تراقب محتوى وسائل الإعلام وتوظّفه لتوجيه الرأي العام عبر ما كان يسمّى بالوكالة التونسية للاتّصال الخارجي التي تأسّست مطلع التسعينات لتكون الذراع الدعائية لوزارة الاتصال ومن ورائها منظومةُ الحكم.

ظلّت القيادات الإعلامية في المؤسسات العمومية وكذلك الصّحف الخاصّة خاضعة لتوجيهات تلك الوكالة التي كانت بدورها تتلقّى أوامرها بشكل مباشر من قصر قرطاج تحت إشراف عبد الوهاب عبد الله الذراع القويّة لبن علي الذي كان يلقّب بـ»جزّار الإعلام»، خاصّة خلال فترات الانتخابات التي تتعطّل فيها الصحافة كليّا وتتحوّل الى مجرّد بوق للسلطة تنشر الأكاذيب وتروّج للانجازات المزعومة وتشوّه الخصوم والمعارضين.
باشرت وكالة الاتصال الخارجي مهامّها على مدى عقدين من الزّمن (تعطّلت في 2011 وتمّ حلّها نهائيا في 2012) متّبعة سياسة العصا والجزرة. كانت تجزل العطاء لكلّ المؤسسات الاعلامية والصحفيّين والصحفيات الذين يقدّمون فروض الطاعة والولاء للسلطة وينفّذون كلّ اجنداتها وينخرطون في توجّهها دون أدنى نقاش، من خلال التحكّم في صندوق الإعلانات والدّعم العمومي.
في المقابل كانت الوكالة تلوّح بالعصا الغليظة في وجه كلّ من تسوّل له نفسه مخالفة الخطّ المرسوم مسبقًا. وقد راح ضحيّة ذلك عدد كبير من الاعلاميين الذّين امّا لُفّقت لهم التّهم جزافًا فوجدوا أنفسهم في زنازين النظام، وامّا تمّ طردهم من وظائفهم وتجويعهم وإغلاق أبواب العمل أمامهم دون أن يغفل النظام عن التنكيل بأهلهم وذويهم.
وبناء على ذلك فقد سيطرت على الساحة الاعلامية ثقافةُ الزّبونية والتمعّش من وكالة الاتصال الخارجي امّا طمعًا في العطاء الجزيل أو اتّقاء لشرور النظام. فتراجعت بذلك الحريّات العامّة وانحدرت حرية التعبير والوعي السياسي والمشاركة المجتمعية في الشأن العام الى أدنى مستوياتها.
مع قدوم الإعصار الذي عصف بأركان حكم بن علي مطلع 2011، كان لابدّ من التخلّي نهائيًا عن وزارة الاتّصال وذراعها الدعائيّة الوكالةُ التونسية للاتّصال الخارجي ومن ثمّ إطلاق الحريّات في مجال الصحافة والنشر والتعبير بما في ذلك تحرير إسناد التراخيص ورفع القيود عن ملكية وسائل الإعلام الخاصة.

خلال السنتين الأوّليين اللتين أعقبتا سقوط حكم بن علي، سجّلت الساحة الإعلامية حالة من الدّيناميكية غير المسبوقة اتّسمت بظهور العشرات من العناوين الصحفية الجديدة فضلًا عن عدد متزايد من القنوات الاذاعية والتلفزية ومواقع الانترنت.

هذه الطفرة العددية كرّست تنوّعًا غير مسبوق وتعدّدية فعلية في الرؤى والتصوّرات والخطوط التحريرية، غير أنّها في الآن ذاته وجدت نفسها تتخبّط في حالة من الفوضى جرّاء:

جملة هذه الثغرات حوّلت عددًا من وسائل الإعلام خلال سنتيْ 2011 و 2012 الى فريسة سهلة بالنسبة الى لوبيّات المال والسياسة التي سرعان ما استحوذت على أغلب منابر الاعلام الخاصّة وأغدقت عليها العطاء وسيطرت على خطوطها التحريرية ووجّهتها بشكل فاضح امّا لخدمة شقّ الاسلاميين (قنوات الزيتونة والزيتونة هداية، تي آن آن، المتوسّط، صراحة آف آم، الانسان الخ …) وأمّا لخدمة الشقّ المناهض للإسلاميين على غرار قناة نسمة التّي تجنّدت لمحاربة حركة النهضة ومشروع الإسلام السياسي، لتتحوّل بعد ذلك الى بوق لحملة حزب «نداء تونس» لقائده الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي، لترسو في النهاية في ميناء حزب «قلب تونس» لصاحبه نبيل القروي مالك قناة نسمة ذاتها.

ساهم الانقسام الجذري الذي سيطر على المشهد الإعلامي السمعي والمرئي وحالة الاصطفاف ذات الخلفية الايديولوجية ولكن أيضًا المصلحية في تضليل الرأي العام وتوظيفه في أتون معارك أيديولوجية طاحنة. وبالتوازي مع ذلك، فقد برز عدد من الصحف والمواقع الالكترونية التي يقف وراء تمويلها عدد من رجال الأعمال الفاسدين أو لوبيات الظلّ على غرار شفيق الجراية وكمال اللطيّف.
هذه العناوين، وفي مقدّمتها صحف «الثورة نيوز» و»الضمير» و»الصدى» و»وقائع» والقائمة تطول، كانت منابر مجنّدة لتضليل الرأي العام وتبييض الفاسدين وابتزاز رجال الأعمال وتشويه الخصوم السياسيين والاعتداء اليومي على الحقوقيين ورموز المجتمع المدني.

وقد أثّر المحتوى الإعلامي المبثوث من قبل إعلام ما بعد الثورة، وعلى وجه التحديد الإعلام الخاص، بشكل سلبي جدّا في تشكيل الرأي العام وتوجيه اهتمام التونسيين نحو الصراعات الايديولوجية وتغذية النعرات الجهوية والمذهبية وبثّ سموم صدام الهويّات المفتعل، كلّ ذلك على حساب الانتقال الديمقراطي والدفاع عن حقوق الانسان وترسيخ ثقافة مناهضة التعذيب والإفلات من العقاب صلب الأجهزة التنفيذية للدولة.
في المقابل، تميّزت بعض العناوين الصحفية والاعلامية بكثير من الجدّية في طرح المواضيع التي تهمّ التونسيين خلال الفترة الانتقالية. وقد ساهمت موجة التدوين التفاعلي وصحافة المواطن والصحافة الجمعياتية (موقع نواة، موقع جدل، موقع انكفاضة، قناة الحوار التونسي في نسخة الطاهر بن حسين، موقع بوندي بلوغ، منظمة برّ الأمان، منظّمة أنا يقظ، منظمة البوصلة الخ) بشكل كبير في كسر الحصار المضروب على الرأي العام من قبل الإعلام التجاري الذي تقوده قناة الحوار التونسي وقناة نسمة اللّتين كانتا الأداة الرئيسية لإذكاء نار المعارك الايديولوجية والصراعات الحزبية وتبييض الفاسدين وتضليل الرأي العام.

احتلّت مواقع الصحافة البديلة المذكورة أعلاه خلال فترة وجيزة مساحة مهمّة في المشهد الإعلامي والاتصالي وأضحت أداة مثلى لتعديل الرأي العام من خلال اخباره بشكل جيّد وموضوعي وتقديم المعلومة ذات المستوى العالي من المصداقية وتوجيهه نحو المعارك الحقيقية المتمثلة في العدالة الانتقالية وعودة التعذيب داخل مراكز الإيقاف والسجون وتفشّي آفة الفساد وسيطرة اللوبيات ومجموعات الاحتكار على مقدّرات الشعب ونهب قوت يومه.
انّ السبب الأساسي الذي جعل جملة هذه المنابر بمنأى عن التوظيف هو استقلاليتها الاقتصادية التي أتاحت لها الإفلات من قبضة رجال الاعمال وسلطة المستشهرين وأجندات الدولة الراعية للإعلام. غير أنّه من المجحف عدم الاشارة الى أنّ الاعلام العمومي كان، رغم كلّ هنّاته ونقائصه الكثيرة، قد لعب دورا مفصليا في تقديم معلومة تتوفّر على الحدّ الأدنى من المصداقية، فضلًا عن السعي إلى تنقية المناخ السياسي والشأن العام عمومًا من بذور الحقد والكراهية وتصفية الحسابات، من خلال تقديم مادّة اعلامية متوازنة.

وقد ساهم بثّ القناة الوطنية العمومية الثانية لأشغال البرلمان الأوّل بعد الثورة (المجلس الوطني التأسيسي) في اطلاع الرأي العام على كيفية ادارة الشأن العام داخل البرلمان واتاحة الفرصة له للتعرّف على كواليس صناعة القوانين واصطفاف الكتل النيابية خلال التصويت الخ.

من يملك وسائل الاعلام؟

يحظى التلفزيون في تونس باهتمام خاص من قبل المالكين نظرا لكونه يخدم غايات سياسية ويستقطب أكثر من غيره أدفاق المستشهرين. ويعتبر التلفزيون وسيلة الإعلام الأكثر شعبية في تونس، حيث يمتلك نحو 98٪ من الأسر جهازًا بالمنزل. ويرتكز 83٪ من التونسيين على هذه الوسيلة لمتابعة الأخبار. كما أنّ 61٪ من التونسيين يعتبرون أنّ المعلومات التي يبثّها التلفزيون هي معلومات موثوق فيها وفق أرقام المعهد الوطني للإحصاء.
بدأ كسر احتكار الدولة للإعلام المرئي مطلع سنوات الألفين. وكانت قناة «حنبعل» التي أطلقها أحد رجال الأعمال المقربين من نظام بن علي (العربي نصرة) سنة 2005 أوّل قناة تلفزيونية خاصة ترى النّور في تونس تلتها قناة نسمة لمالكها الرئيسي نبيل القروي التي انطلقت في البثّ التجريبي بتاريخ 23 مارس 2007 بعد أن قام بتدشينها وزير الاتصال آنذاك رافع دخيل.
وبالرغم من هذا الانفتاح على القطاع الخاص الّا أنّ توزيع الرخص كان قائمًا على معايير مبهمة واعتباطية مبنية بالأساس على التقرب أو القرب من النظام، أو على محتوى البرامج التي كانت تغضّ البصر على حقيقة الواقع السياسي بالبلاد وفق ما تؤكده مخرجات «مشروع ملكية وسائل الإعلام في تونس» (مشروع بحثي من انجاز منظمة مراسلون بلا حدود وجمعية الخط التونسية).
تم إطلاق قناة المعارضة الوحيدة «الحوار التونسي» لمالكها الطاهر بن حسين آنذاك، في عام 2003 من الخارج نظرا لاستحالة حصولها على ترخيص داخل تونس. وقد كان التونسيون يتوجهون إلى القنوات العربية والدولية على غرار «الجزيرة» و»العربية» والقنوات الفرنسية بحثا عن محتوى إعلامي مستقل لا تسيطر عليه منظومة الحكم الديكتاتورية في ذلك الوقت.

ساهمت الثورة في كسر احتكار أفراد من عائلة بن علي وأصهاره ومقربين من نظامه للمشهد الإعلامي إذ تعدّدت القنوات التلفزيونية وتنوّعت بعد توزيع تراخيص جديدة. اليوم، يحتوي المشهد الإعلامي المرئي على قناتين تلفازيتين عموميتين وحوالي 10 قنوات خاصة (رقم في تغيّر مستمر) بعضها لا ينشط بشكل منتظم بسبب صعوبات مالية.
ونظرا لما تحظى به من نسب المتابعة المرتفعة مقارنة ببقية المحامل الاعلامية، فقد أصبحت القنوات التلفزيونية مقصدًا محبّذًا لفئة من القادة السياسيين. وأصبح عدد من القنوات التلفزيونية في تونس مرتبطًا بشكل مباشر أو غير مباشر بسياسيين أو بأحزاب سياسية بالرغم من وجود أرضية تشريعية تحجّر هذه الظاهرة.
في هذا السياق، ظهرت مجموعة من القنوات المقرّبة من الاسلاميين في حين لا يخفي مسؤولو ومالكو عدد آخر من القنوات ميولاتهم السياسية التي تمّت ترجمتها في عديد الحالات الى توظيف للمحتوى الإعلامي من أجل حصد مكاسب سياسية ضيّقة أو دعم جهات بعينها ما جعل هذه المنابر تتحوّل الى عُلب للدعاية السياسية والحزبية أثناء الاستحقاقات الانتخابية. 

نبيل القروي مالك قناة نسمة مثلًا، كان يجاهر بانتمائه لقيادة حزب نداء تونس رغم أنّ قانون «الهايكا» يحجّر الجمع بين الصفتين (القيادة السياسية والاستثمار في الإعلام السمعي والمرئي). وقد غادرَ الحزبَ ليس لاصلاح خطئه القانوني بل لتأسيس مشروع سياسي آخر اتّضحت ملامحه مؤخرًا حاملًا عنوان حزب «قلب تونس»، ضاربًا عرض الحائط بكلّ القضايا والشكايات التي تلاحقه على خلفية وجود شبهات قوية للتهرّب من الضرائب فضلا عن توظيف منبره الإعلامي لتشويه الخصوم السياسيين والايديولوجيين.

أسامة بن سالم، مؤسس قناة «الزيتونة» و»الزيتونة هداية»، لم يكن هو الآخر مستقلًا حزبيًا وسياسيًا بل كان قياديًا وموظفا ساميًا لدى حزب النهضة بالاضافة الى مهامّ سياسية أخرى. وقد كانت قناة «تي آن آن» المحسوبة على النهضة مرتبطة بشبكة شركات دولية تحتمي بملاذات ضريبية لاخفاء هويّات مالكيها وطمس مصادر تمويلها.
من جانبه كان العربي نصرة، مؤسس قناة حنبعل، قد وظّف قناته طيلة سنوات للدعاية والترويج المكثّف لصورته قبل أن يفوّت في أسهمه في القناة استعدادا للترشّح لرئاسيات 2014.
و بالتوازي مع ذلك، اقتحم رجل الأعمال ورئيس الإتحاد الوطني الحر سليم الرياحي مجال الإعلام من بوّابة راديو كلمة ومن ثمّ قناة التونسية (الحوار التونسي لاحقًا) بهدف دعم حضوره السياسي ومواجهة شبهات الفساد وتبييض الأموال التي كانت تلاحقه وتشوّش على طموحاته السياسية. قناة الجنوبية لمالكها الحالي رجل الأعمال والسياسي محمد العياشي العجرودي مؤسس حزب حركة التونسي للحرية والكرامة لم تشذّ عن هذه القاعدة أيضًا.

محطّات الراديو الخاصة كانت هي الأخرى قبلة للتوظيف والاستثمار السياسي قبل الثورة وبعدها. فراديو «شمس آف آم» لصاحبته سيرين بن علي ومن ورائها زوجها رجل الأعمال مروان المبروك كان مثالًا صارخًا على تغلغل العائلة الحاكمة في الإعلام. 

وكذلك الحال بالنسبة الى راديو «موزاييك آف آم» الذي كان بلحسن الطرابلسي يملك فيه 13 % . 

ارتباط عدد من القنوات الخاصة بسياسيين و بأحزاب سياسية رغم وجود قانون يحضر ذلك

نبيل القروي

logo

العربي نصرة

unnamed

اسامة بن سالم

unnamed-1

بعد مصادرة حصّة الطرابلسي ومن ثمّ التفويت فيها، حلّ رجل الأعمال لزهر سطا محلّ بلحسن الطرابلسي وحاز حصّته في موزاييك.
لزهر سطا الذي تطارده قضايا وشبهات فساد (كان شريكًا لبلحسن الطرابلسي في شركة اسمنت قرطاج)، اختار بعد الثورة خوض تجربة الاستثمار في الإعلام. ويتجلّى ذلك أساسًا من خلال امتلاكه أيضا لـ 8 بالمائة من أسهم اذاعة جوهر آف آم.

بعض الاذاعات الناشئة الأخرى والتي تكتسي بُعدًا جهويًا محليًا وجهويًا مازالت مصادر تمويلها غير واضحة، حتّى أنّ خطوطها التحريرية كانت تتغيّر كلّما اقتربت الاستحقاقات الانتخابية أو تغيّرت تركيبة المستشهرين والمساهمين في رأس المال ما يرجّح توظيف أغلبها لخدمة أجندات من يدفع أكثر.
على الطّرف الآخر من الإعلام السمعي والمرئي تعتبر الصحافة المكتوبة الأقل «استهلاكًا» في تونس رغم أنّ 38 بالمائة من التونسيين يؤكدون صحة المعلومات التي تروّجها وسائل الإعلام المكتوبة وفق أرقام المعهد الوطني للإحصاء.
أغلب مالكي الجرائد هم عبارة عن شركات عائلية أغلبها لا ينشط في مجالات اخرى باستثناء طبع الجرائد. وقد تطوّر قطاع الصحافة المكتوبة بعد الثورة ليصل عدد الصحف إلى 228 دورية، لكن بعد ذلك وقعت حالة من الفرز، فتوقفت عديد الصحف بسبب قلّة الموارد المالية أو لعلاقتها بالنظام القديم وفق ما يبيّنه «مشروع ملكية وسائل الإعلام بتونس».
اليوم، اضمحلّت عشرات العناوين من السوق ولم يبق الّا قرابة 50 دورية. فمنذ أن تمّ التخلّي عن وزارة الاتصال وذراعها الدّعائية الوكالة التونسية للاتصال الخارجي فقدت الدوريات القديمة الجزء الرئيسي من مداخيلها القارّة وهو الدّعم العمومي الذي كان يمنح في شكل هبات ومساعدات واعلانات لقاء تقديم فروض الطاعة والولاء للسلطة وتبييض فسادها ولجم الأفواه عن تجاوزاتها وجرائمها.

سقَط سيّد .. وخُلق أسياد جُدد

انّ المتأمّل في المشهد الإعلامي الذي سبق قيام ثورة 17 ديسمبر-14 جانفي، لن يجد حرجًا كبيرًا في التصريح بأنّ المؤسسات الإعلامية الناشطة آنذاك، بقطاعيْها العام والخاص، لم تكن سوى جزءًا من منظومة البروباغندا المُلحَقة بمنظومة الحكم أو المنبثقة عنها، إذا ما استثنينا بعض العناوين الحزبية المعارضة على غرار صحف «الموقف» و»الطريق الجديد» و»مواطنون» بالاضافة الى قناة «الحوار التونسي» لمالكها الطاهر بن حسين وراديو 6 واذاعة «كلمة» التي كانت تحت إشراف سهام بن سدرين. 

كان المشهد الإعلامي، آنذاك، مجرّد انعكاس لحالة التداخل بين السياسي والإعلامي والمالي، التي كانت تسود البلاد. ولم ينجُ من شبح التوظيف سوى بعض العناوين المعارضة التي ذكرناها أعلاه والتي لم يكن لها تأثير كبير في الرأي العام نظرا للتضييق على نشرها من قبل الديكتاتورية.

بعد الثورة، سقطت «عصا» الدّيكتاتورية بلا رجعة وسقطت معها «جزَرَة» النظام وهباته السخيّة، فطفقت المنابر القديمة المحسوبة على النظام السابق بالاضافة الى السّواد الأعظم من المنابر الجديدة، تبحثُ عن «سيّد» جديد يواصل منحها نصيبها من «الجَزَر».
هذا السيّد الجديد كان في أوقات كثيرة -خاصّة خلال الاستحقاقات الانتخابية- يأخذ شكل السياسي السخيّ، غير أنّه كان في أغلب الأوقات يأخذ شكل رجل الأعمال الفاسد أو الذي تطارده شبهات الفساد، والذّي عادة ما كان الذراع المالية لتيارات سياسية وحزبية تدفع به نحو الواجهة لشراء ذمم الاعلام والاعلاميين خدمة لمصالحها السياسية مقابل توفير «الأمان» أو فلنقل «صكّ الغفران» له كي يواصل عبثه في تفصّ تامّ من المحاسبة والعقاب وما شفيق الجراية وسليم الرياحي ونبيل القروي الّا مثالًا جيّدًا على ذلك.

انّ المكسب الأساسي في تونس الثورة، باجماع المراقبين للشأن العام، هو حرية التعبير بشكل عام وحرية الصحافة بشكل خاص. وقد فهمت النخبة التونسية مبكّرًا أنّ حريّة التعبير ان لم تحمِها مؤسسات قوية ودائمة فانّها ستتراجع مع الوقت أو ستنقلب إلى فوضى في أحسن الأحوال. وبناء على ذلك فقد تمّ تضمين حرية التعبير والإبداع في الدستور فضلًا عن إنشاء الهيئة المستقلة للإعلام السمعي البصري، وهي الهيكل العمومي الذي أنيطت بعهدته مهمّة تعديل مؤسسات الإعلام السمعي البصري ومنح التراخيص ومعاقبة المخالفين.
اليوم تجد الهيئة نفسها شبه عاجزة عن أداء مهامّها بعد أن تمرّدت بعض وسائل الإعلام وفي مقدمتها قناة نسمة لمالكها نبيل القروي ذي الطموحات السياسية على قرارات الهيئة مستقوية في ذلك ب»حصانة» حزبية مُنحت لها لقاء تقديم لخدمات اتّصالية لها أثناء الحملات الانتخابية السابقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *