أوراقإصداراتالدولليبيا

مؤتمر برلين: توافق بين الليبيين أم إعادة للتوازن بين الغربيين؟

جمع تعددت المبادرات الساعية لحل الأزمة الليبية طيلة تسع سنوات متتالية. وقد بدأت خاصة مع ‏مؤتمر الصخيرات (17 ديسمبر/كانون الأول 2015) الذي سعى إلى بناء الإطار السياسي ‏والمؤسساتي للإنتقال في ليبيا. فيما فشل اتفاق باريس (29 ماي/ايار 2018) في التمهيد لتبني ‏دستور ليبي وإطلاق العملية الانتخابية وبناء المؤسسات العسكرية والأمنية الموحدة. لم يختلف ‏مصير مؤتمر باليرمو (12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) عن سابقه، حيث بقيت مخرجاته ‏في حدود الخلاصات التي لم تلق الإجماع الليبي المشترك، خاصة مع مقاطعة المشير خليفة ‏حفتر له. وانتهى اتفاق أبو ظبي (27 و28 فيفري/ فبراير 2019) إلى نفس النتيجة عندما ‏فرضت الجماعات المسلحة على أرض الواقع صوتها على مخرجات المؤتمر. وعندما كان ‏مؤتمر موسكو (12 و13 جانفي/ يناير 2020) بصدد تنزيل نتائجه عمليا، بدأ الحديث عن ‏مؤتمر برلين، في سعي أوروبي لإعادة دور الإتحاد الذي تقلص أمام الحركية الروسية ‏والتركية. لا يغيب عن الأذهان أن تركيا لعبت كل أوراقها عبر توقيع مذكرة تفاهم حدودي يوم ‏‏27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 مع حكومة الوفاق، بطعم استراتيجي اقتصادي.‏

مؤتمر برلين كل من روسيا، الصين، أمريكا، فرنسا، إيطاليا، بريطانيا، تركيا، ‏مصر، الامارات، الجزائر، رئاسة الاتحاد الأفريقي، رئاسة المجلس الأوروبي، ‏رئاسة الاتحاد الأوروبي والأمين العام للأمم المتحدة. غابت تونس عن المؤتمر بعد ‏أن أعلنت الخارجية التونسية عن رفض الدعوة التي تأخرت خاصة أن ألمانيا قد ‏أعلنت عنه منذ أشهر دون تحديد موعده. من المحتمل أن يكون الموقف الألماني من ‏تونس مرتبط بقضية اللاجئين التي تمثل هاجسا رئيسيا لميركل، منذ انتخابات ‏‏2017 بسبب الخلاف الحاد بين الأحزاب الألمانية.‏

تمثل ليبيا، إلى جانب تركيا، بوابتي دخول اللاجئين الرئيسيتين إلى ألمانيا. وكانت ‏تونس في وقت سابق قد أكدت على الالتزام بالمعايير الدولية في قضايا اللاجئين مع ‏رفض أن تكون مقصدا نهائيا لهم. كما أن التزامها بالحياد في الشأن الليبي، خلافا ‏للجزائر التي ضغط الجانب التركي لضمان حضورها، وإلى جانب عدم الاستقرار ‏السياسي في البلاد، يجعلان من الحضور التونسي ليس ذا أولوية بالنسبة لألمانيا، ‏رغم العلاقات الجيدة التي تربطها بتونس.‏

غابت المغرب بدورها عن مؤتمر برلين رغم دورها الرئيسي خلال فترات عدة في ‏المساعي الدولية والإقليمية حول ليبيا. أكدت لذلك الخارجية المغربية استغرابها عدم ‏تلقيها دعوة للحضور متسائلة عن المعايير والدوافع التي تم على أساسها اختيار الدول ‏المشاركة.‏

يعزز معطى غياب دول الإقليم عن المؤتمر أو التأخر في دعوتهم، بالإضافة إلى ‏غيابهم عن الأعمال التحضيرية للمؤتمر، فكرة أن المؤتمر يجمع الأطراف الدولية، ‏الغربية بالإضافة إلى تركيا، بهدف تقريب وجهات النظر وإعادة توازن ما يحفظ ‏لأوروبا بالأساس دورها.‏

لا بد من الإشارة إلى أن فشل المفاوضات وجولاتها وعقم المؤتمرات الدولية، يرجع ‏أيضا إلى جو عدم الثقة بين الأطراف الليبية. لا ينفصل ذلك عن إرث الدولة ‏الإستبدادية التي جعلت من تعبير الليبيين عن اختلافهم تفجُريا وصراعيا. بالإضافة ‏إلى أن حال الإنقسام جعل من الكيانات النافية لكيان الدولة والوحدة ‏‎(Non State ‎Actors)‎‏ مؤثرة إلى حد بعيد في التطورات السياسية. من هنا عدم تردد أي طرف ‏عن انتزاع أصغر الانتصارات العسكرية الممكنة، لأنها تضمن وزنا تفاوضيا أكبر.‏

بخلاف الإرث التاريخي للنضال ضد الإستعمار ودولة الإستقلال، لم يُتح لليبيين ‏التماهي في هوية وطنية مشتركة إلا عبر ثورة فبراير 2011، بفضل زخمها ‏العاطفي والنضالي من أجل مجتمع ودولة حديثين. ‏

سياق برلين وما حدث فيه !!‏

مند بداية الحرب على مشارف أسوار طرابلس الغرب نتيجة الهجوم، الذي قاده ‏الجنرال خليفة حفتر المتنفذ عسكريا في شرق البلاد وجنوبها، بتاريخ 4-4 -2019، ‏تحاول بعض المساعي الدولية الى ايجاد مسار يمكن من خلاله ايقاف العنف والعودة ‏بالملف الليبي الى المسار السياسي، وخاصة بعد فشل امكانية عقد المؤتمر الذي كان ‏مرتقبا في مدينة غدامس بتاريخ 16-4-2019 نتيجة ما سمي بطوفان الكرامة. جاء ‏المؤتمر المذكور في سياق مقترح بعثة الأمم المتحدة في ليبيا كمسار جديد لتجميع ‏الأطراف الليبية على ارض ليبية قصد إيجاد صيغة توافقية تنهي حالة الانقسام التي ‏تمر بها البلاد.‏

خلافا لذلك، تصاعد التوتر العسكري تدريجيا من حرب بالوكالة إلى تهديد بالتدخل ‏المباشر. سعى كل طرف إلى تسليح حليفه الميداني بمختلف أنواع الأسلحة التي ‏تضمن توازنا استراتيجيا بين الأطراف المتحاربة. حرصت الإمارات ومصر على ‏الحفاظ على نسق الغارات الجوية، في حين قامت تركيا بتزويد حكومة الوفاق ‏بالطائرات المسيرة “درون”. كما تم تسجيل حضور سوداني وروسي مع المشير ‏حفتر، فيما لا يزال المقاتلون من سوريا يصلون إلى ليبيا من تركيا.‏

في مرحلة متقدمة، تصاعد التوتر بعد توقيع مذكرة التفاهم التركية الليبية، حيث سعت تركيا إلى فرض آثارها عبر التهديد بالتدخل ‏العسكري المباشر. استلزم ذلك ردا مصريا صريحا عبر تنفيذ مناورات عسكرية ‏بالجيوش الثلاث “قادر 2020”. تسبب هذا التوتر المتصاعد محليا ودوليا في إعادة ‏تحريك المبادرات الدولية قصد تجنب أية مواجهات مباشرة بين الدول المتدخلة. ‏

كانت المبادرة الروسية لجمع الأطراف الليبية في موسكو، مضافا لها النشاط التركي، ‏سواء عبر مذكرة التفاهم لترسيم الحدود البحرية أو عبر اعتزام تركيا التدخل ‏عسكريا، مؤشرات على خروج الملف الليبي من أيدي الأوروبيين، خاصة أن ‏الحضور الروسي-التركي، بالتعاون مع حلفائهما، كان الأكثر تأثيرا في مجريات ‏الصراع، منذ معارك طرابلس.‏

وفي سياق متصل وبعد اجتماع اسطنبول الأربعاء الموافق 8جانفي/يناير 2020 بين ‏الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تمت الدعوة ‏إلى وقف إطلاق النار في ليبيا اعتبارا من الأحد الموافق ل 12جانفي/يناير 2020.‏

وعلى تمام الساعة 12 ليلا يوم الاحد (12 جانفي/ يناير 2020) ، أعلن طرفا ‏الصراع في ليبيا وقف الأعمال القتالية في ليبيا استجابة الى الدعوى التركية الروسية ‏دون ان تكون هذه الهدنة مربوطة بشروط وعلى الفور وخلال هذا الاسبوع استقبلت ‏موسكو  وفدين يمثلان طرفي الصراع في ليبيا حيث قدم الجنرال خليفة حفتر مع ‏عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي وجاء فائز السراج رئيس حكومة الوفاق ومعه ‏خالد المشري رئيس المجلس الاعلى للدولة، وذلك للتوقيع على وثيقة ايقاف اطلاق ‏النار بشكل رسمي الا ان الواضح ان الجنرال خليفة حفتر طلب مدة من اجل دراسة ‏هذا الاتفاق وهذا ما اعتبره بعض المطلعين على الشأن الليبي مراوغة من السيد ‏حفتر لكسب الوقت خاصة ان فائز السراج قام بالتوقيع على هذه الاتفاقية .‏

بيَن توقيع فائز السراج ورفض الجنرال حفتر التوقيع وطلبه لمهلة لدراسة الوثيقة ‏لعديد الأطراف عدم نية حفتر الحقيقية ايقاف هجومه العسكري على طرابلس وان ‏روسيا باتت في موقف حساس تجاه حليفها في ليبيا خاصة انه لم يرض بما أقرته هي ‏في موسكو.‏

ومن هنا استشعر الأوربيون هذا الخطر حيث شعروا ان الملف الليبي اخذ منحى اخر ‏وان التقارب التركي الروسي غالبا ما سينتج خروج ليبيا من حسابات أوروبا وهذا ما ‏جعل المستشارة الالمانية انجيلا ميركل تسرع في دعوة الأطراف الدولية المتداخلة ‏في الشأن الليبي الى الحضور الى اجتماع برلين وذلك لقطع الطريق على الروس ‏للاستفراد بالقرار في هذا الملف.‏

حضرت الدول ووضع الاتفاق الدولي بشأن ليبيا الذي أقر في برلين إطاراً لجهود ‏تحقيق السلام فيها، لكن هشاشة وقف إطلاق النار فضلاً عن الانقسامات تزيد من ‏غموض أفق تحقيق السلام فيها. كما أن صمت طرفي النزاع أي فايز السراج رئيس ‏حكومة الوفاق والجنرال خليفة حفتر زاد من عدم اليقين المحيط بمصير نتائج هذا ‏المؤتمر.‏

وفي مقابل الصمت السياسي، شهد جنوب طرابلس معارك متقطعة رغم دخول وقف ‏إطلاق النار حيز التنفيذ. وسمع كذلك دوي أسلحة ثقيلة من وسط المدينة، قبل أن ‏يسود هدوء نسبي المكان. ورغم أن السراج وحفتر وافقا على المشاركة في مؤتمر ‏برلين، إلا أنهما رفضا أن يلتقيا وجهاً لوجه، في انعكاس للهوة الكبيرة التي لا تزال ‏قائمة بين السلطتين المتخاصمتين في ليبيا.‏

وفي ختام المؤتمر الذي استمر بضع ساعات، تعهدت الدول الرئيسية المعنية بالنزاع ‏الليبي التزام حظر إرسال الأسلحة إلى ليبيا وعدم التدخل في شؤونها. وتعقيبا على ‏نتائج المؤتمر، بدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل واقعية بقولها إنه يمثل “خطوة ‏صغيرة إلى الأمام” نحو السلام.‏

مخرجات مؤتمر برلين ‏

يضم نص البيان الختامي أهم النقاط التالية:‏

  • وقف إطلاق النار وتكوين لجنة عسكرية تضم ممثلي الطرفين للعمل على ‏تطوير اتفاق التهدئة الذي بدأ منذ مدة.‏
  • حظر توريد السلاح إلى ليبيا، بناء على قرار مجلس الأمن 1970 لسنة ‏‏2011 وما تلاه من قرارات، ودعم جهود البعثة الأممية في هذا الإتجاه ‏بجميع الوسائل. كما يؤكد على ضرورة التزام جميع الأطراف بالحظر ووقف ‏إطلاق النار.‏
  • العودة إلى المسار السياسي والعمل على توحيد المؤسسات السياسية وضمان ‏وحدة ليبيا واستقلالها. بالإضافة إلى التأكيد على دور دول الجوار. والمفارقة ‏هنا هي عدم حضور تونس. في هذا الإطار، يلتزم البيان بدعم مخرجات ‏المسار السياسي الداخلي الليبي-الليبي.‏
  • إصلاح القطاع الأمني: يدعو البيان إلى ضرورة توحيد القوات الشرعية سواء ‏الشرطة أو الجيش، على أن تكون تحت قيادة سلطة مدنية ومركزية. وينطلق ‏هذا الجهد بناء على محادثات القاهرة وما عقبها.‏
  • الإصلاح المالي والإقتصادي: وهو يتعلق بالأساس بالبنك المركزي والنفط ‏والثروات الليبية.‏

من مهام اللجنة العسكرية، التي تضم عشرة أعضاء، خمسة عسكريين من كل طرف ‏هو تحديد آليات تطبيق وقف إطلاق النار ميدانيا. وطلبت المنظمة الأممية منذ عدة ‏أسابيع من طرفي النزاع تقديم أسماء ممثليهم في اللجنة، لكن لم يستجب أحد حتى ‏الآن. ومن المقرر أن تجتمع اللجنة العسكرية هذا الأسبوع بحسب الأمم المتحدة، ‏للعمل على تحويل التهدئة الحالية إلى وقف “دائم” لإطلاق النار. لكن ما يقف عقبة ‏أمام ذلك هو الإنقسام الفعلي بين الليبيين، وهو ما سعى المؤتمر إلى تقليصه من حيث ‏الأصل.‏

أقر البيان الختامي لمؤتمر برلين فيما يتعلق بالمسار السياسي، ضرورة دعم كل ‏اتفاق ناتج عن اتفاق ليبي-ليبي. الأمر الذي يجعل من كل مخرجات مؤتمر برلين ‏معلقة على ما هو بالأساس السبب الرئيسي في الصراع والسبب الرئيسي في تدويل ‏الحرب في ليبيا، ألا وهو الخلاف الداخلي الليبي. كما أن رفع مخرجات المؤتمر إلى ‏مجلس الأمن، لا يقدم الكثير بالنظر إلى أن نفس المجلس قد فشل فعليا خلال تسعة ‏أشهر في إصدار قرار يجمع عليه جميع الأطراف حول عملية خليفة حفتر للسيطرة ‏على طرابلس. 

تبقى لذلك العوائق قائمة أمام حل الأزمة الليبية بسبب واقع التوازنات العسكرية في ‏الميدان، بالإضافة إلى التوازنات الدولية التي ألقت بظلها على مؤتمر برلين وعلى ‏مجريات السعي للحوار الذي ترعاه البعثة الأممية، وتسعى لاطلاقه منذ مدة في ‏مؤتمر يجمع 13 ممثلاً عن كل طرف، فيما تختار الأمم المتحدة 13 آخرين، يمثلون ‏خصوصاً المجتمع المدني الليبي.‏

يقول أستاذ العلاقات الدولية الليبي خالد المنتصر لوكالة فرانس برس “على الورق، ‏نجحت قمة برلين، وتناولت كل تفاصيل الأزمة الليبية وأسبابها. لكن آليات تطبيق ‏نتائج القمة ليست واضحة بعد”. وذكر محلل ليبي في تصريح لقناة “ليبيا الأحرار” ‏المحلية أن مؤتمر برلين لم يهدف أصلا الى التوفيق بين الليبيين، بل “كان أساساً من ‏أجل تحقيق توافق بين الغربيين”، أو بالأحرى إلى إعادة التوازن بين الأطراف ‏المتدخلة في الشأن الليبي.‏

المأمول من مؤتمر برلين: ‏

يبدو ان الدول المتدخلة في ليبيا قد استشعرت خطورة الوضع الذي تنجر له البلاد. ‏بالنظر إلى أن ليبيا تتربع على موقع جغرافي قريب من أوربا وعلى مساحة جغرافية ‏كبيرة متصلة بعمق القارة الأفريقية اضافة الى كونها تملك الكثير من الموارد ‏الطبيعية، فهي تمثل بؤرة توتر قصوى ممكنة، أكثر مما هي عليه إلى الآن، خاصة ‏إذا ما انقسمت ليبيا فعلا. سعى مؤتمر برلين إلى خلق إطار تحاول من خلاله ألمانيا، ‏ومن وراءها أوروبا، تقريب وجهات النظر حول المصالح التى تريدها الدول ‏المتداخلة في الشأن الليبي، وخاصة، لتقرب الطرفين الإيطالي-الفرنسي الذين جعلا ‏الملف الليبي يذهب باتجاه تركيا وموسكو.‏

كانت الظروف الحافة بالمؤتمر صعبة ودقيقة للغاية، كما عرف نقائص عديدة، ‏خاصة منها خرق القواعد التوجيهية للوساطة الناجعة التي صدرت عن الأمين العام ‏للأمم المتحدة بان كي مون سنة 2012. تنص هذه القواعد على شمولية إجراءات ‏الوساطة للجميع كشرط ضروري لنجاح أية مفاوضات دولية. على الرغم من ذلك، ‏على الأطراف الليبية أن تغتنم الفرصة، من أجل الدفع بالمسار السياسي الداخلي، ‏وهو ما علق عليه المؤتمر نفسه كل تقدم وجهد دولي في هذا الإتجاه. لعل المؤتمر قد ‏خفف نسبيا من الشد بين الأطراف الدولية، إلا أنه مرشح للعودة في كل لحظة، إلا إذا ‏انطلق الحوار الليبي-الليبي فعليا.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *