تمهيد:
تُعد المراحل الانتقالية عادة النموذج المثالي لانتشار الفساد في أجهزة الدولة نظرًا لحالة عدم الاستقرار السياسي والذي ينتُج عنه ضعف أغلب مؤسسات الدولة خاصة المعنية بالرقابة والمحاسبة والتي ينعكس عليها هشاشة الوضع السياسي والأمني للبلاد.
في ليبيا من بعد الثورة عام 2011م وتغيير النظام السياسي في البلاد عانت ليبيا من أزمة سياسية حادة نتج عنها انقسام مؤسسي وازدواج حكومي وهو سبب بشكل مباشر في ضعف مؤسسات الدولة وعدم قدرتها على المحاسبة والرقابة خاصة في ظل تنامي نفوذ بعض المجموعات المُسلحة التي تُسيطر على أغلب أجهزة الدولة بل هي في أحيان أخرى جزء من الدولة شكليًا لكن ليس للدولة أي سلطان عليها.
فمنذ سنة 2011م مرت ليبيا بأكثر من حكومة وسُلطة تشريعية، وكان لها أول مجلس تشريعي توافقي وهو المجلس الوطني الانتقالي والذي أَشرف على أول انتخابات تشريعية في البلاد والتي نتُج عنها انتخابات المؤتمر الوطني العام في يوليو 2012م، الذي شكَّل الحكومة المؤقتة، بعدها وفي ظل جدل حول انتهاء ولاية المؤتمر الوطني العام تم انتخاب مجلس النواب في يونيو 2014م، وبعد انطلاق عملية «فجر ليبيا» في غرب البلاد وعملية «الكرامة» في شرق البلاد انقسمت السلطة فعليًا، حيث أصبح هناك حكومتين واحدة في الشرق تتبع البرلمان وأخرى في الغرب تتبع المؤتمر الوطني العام وبعد الاتفاق السياسي في ديسمبر 2015م، تغيَّر المشهد السياسي قليلًا حيث ولدت حكومة ثالثة وهي المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق في طرابلس وتغير اسم المؤتمر الوطني العام إلى مجلس الدولة واستمر مجلس النواب وحكومته المؤقتة في الشرق واختفت حكومة الإنقاذ في الغرب.
ونتج عن هذه الأزمة السياسية الحادة والتي تبعتها نزاعات عسكرية حالة فريدة من ازدواجية المؤسسات الرئيسية في البلاد، مثل مصرف ليبيا المركزي والرقابة الإدارية والمؤسسة الوطنية للنفط، إلا أن نفوذ هذه المؤسسات وصلاحياتها مُرتبطة بشكل مباشر بالنطاق الجغرافي والمكاني للحكومة التابعة لها لا تستطيع أن تتعداه وإن كانت مؤسسات العاصمة أكثر قوة ونفوذ باعتبارها الأقدم والأعرق.
ديوان المُحاسبة الإنشاء والصلاحية والاختصاص:
يُعد ديوان المُحاسبة الجهاز الأعلى للرقابة المالية والمحاسبة في الدولة، وهو هيئة مهنية مُستقلة مُحايدة، تتمتع بالشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة، ويتبع السلطة التشريعية مباشرة، وهو عضو في المنظمات الدولية والأفريقية والعربية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة.
نشأة الديوان والتسلسل التاريخي للتشريعات المُنظمة لعمله:
بعد استقلال ليبيا سنة 1951م، وبداية بناء مؤسسات الدولة أُنشئ ديوان المحاسبة الليبي لأول مرة بموجب القانون رقم 31 لسنة 1955م، وقد مر خلال عُمره بتغييرات تشريعية مختلفة ناتجة عن التغييرات الهيكلية وتغير أنظمة الحكم وتوجهاتها نتج عنها تغيير أهدافه واختصاصاته وتبعيته حسب الحالة، ومن أهم هذه التغييرات ما يلي:
حُقبة فترة حُكم النظام الملكي من العام 1952 إلى العام 1969م
- أُنشئ ديوان المحاسبة الليبي بموجب القانون رقم 31 لسنة 1955م.
- صُدور القانون رقم 22 لسنة 1962م بتعديل القانون رقم 31 لسنة 1955م.
- صُدور مرسوم ملكي بتنظيم ديوان المحاسبة بالقانون رقم 22 لسنة 1966م.
حُقبة فترة حُكم النظام السابق من العام 1969 إلى العام 2011م
- تم تعديل قانون ديوان المُحاسبة بالقانون رقم 79 لسنة 1975م.
- دمج ديوان المُحاسبة والرقابة الإدارية وجهاز المتابعة في جهاز واحد تحت مُسمى الجهاز الشعبي للمتابعة بموجب القانون رقم 16 لسنة 1986م.
- إلغاء الجهاز الشعبي للمتابعة وإنشاء جهاز التفتيش والرقابة الشعبية بموجب القانون رقم 11 لسنة 1996م.
- تعديل قانون جهاز التفتيش والرقابة الشعبية بموجب القانون رقم 30 لسنة 2000م.
- إلغاء دمج الأجهزة الرقابية بالقانون رقم 13 لسنة 2003م، بتقرير بعض الأحكام في شأن التفتيش والرقابة الشعبية، والذي تم بموجبه توزيع الاختصاصات الرقابية بين جهازي الرقابة المالية والفنية، والتفتيش والرقابة الشعبية.
- إلغاء جهاز الرقابة المالية والفنية وأيلولة اختصاصات مراجعة العقود والدفعات والتحقيق إلى جهاز التفتيش والرقابة الشعبية، وباقي اختصاصاتها لجهاز المُراجعة المالية المُنشأ بموجب قرار مؤتمر الشعب العام رقم 5 لسنة 2006م.
- إصدار القانون رقم 2 لسنة 2007 بشأن إعادة تنظيم جهاز التفتيش والرقابة الشعبية لتمارس دور جهاز الرقابة الشعبية السابق متضمنًا اختصاصات الرقابة على الآداء المالي والرقابة السابقة على العقود والتحقيق.
- إصدار القانون رقم 3 لسنة 2007 بشأن المراجعة المالية ليُمارس دور جهاز المراجعة المالية.
الفترة ما بعد ثورة فبراير 2011م
- بتاريخ 14/8/2011 أصّدر المجلس الانتقالي المؤقت القرار رقم 119 لسنة 2011م، ويقضي بإنشاء ديوان المحاسبة الليبي للمرة الثانية عن طريق دمج الأجهزة الرقابية المُتمثلة في جهازي التفتيش والرقابة الشعبية والمراجعة المالية في الديوان، كما تم من خلال هذا القرار إعادة العمل بالقانون رقم 11 لسنة 1996 من جديد وإلغاء قانوني الأجهزة الرقابية رقمي (2، 3) لسنة 2007م.
- بتاريخ 1 أغسطس 2013م أصدر المؤتمر الوطني العام القانون رقم (19) لسنة 2013م بإعادة تنظيم ديوان المحاسبة، وبموجبه فصلت عنه اختصاصات الرقابة الإدارية والمظالم والتحقيق والتي أُنشئ لها هيئة جديدة بموجب القانون رقم 20 لسنة 2013م.
- بتاريخ 4 أكتوبر 2013 مصدر القانون رقم 24 لسنة 2013م بتعديل القانون رقم 19 لسنة 2013م، وبموجبه تم سحب اختصاص المراجعة المُسبقة على المستخلصات الناتجة عن العقود التي تخضع للرقابة قبل التعاقد.
الاختصاصات
بموجب القانون رقم (19) لسنة 2013م بإعادة تنظيم ديوان المحاسبة، تم إعادة تنظيم الديوان وفصلت عنه اختصاصات الرقابة الإدارية والمظالم والتحقيق والتي أُنشئ لها هيئة جديدة بموجب القانون رقم 20 لسنة 2013م.
وفي محاولة لتنظيم العمل وتوحيد الاختصاص تم إسناد اختصاص الرقابة المالية والمشروعية للديوان من خلال فحص ومراجعة الحسابات والقوائم المالية والعمليات الفنية الأخرى للجهات الخاضعة لرقابته، والتأكد من تطبيق القوانين والقرارات واللوائح المالية ذات العلاقة بالوحدة محل الرقابة أو المراجعة، بالإضافة إلى اختصاصات أخرى احترازية لصون المال العام منها: (تطبيق الضوابط الرقابية التي تضمن تحصيلًا للإيرادات العامة واكتشاف أي قصور أو تراخٍ في تحصيلها، أو التي تمنع حدوث أي تجاوزات أو مخالفات عنـد الصرف، منع التصرف في حسابات الجهات الخاضعة لرقابته إذا ما ثبت له أن هناك تصرفات ألحقت ضررًا بالمال العام، ويجوز له وضعها تحت الفحص والمُراجعة المُصاحبة إلى حين زوال الأسباب ورفع الضرر، وغيرها من المهام الرقابية الأخرى)، وكذلك تطبيقًا للقانون تبنّى ديوان المحاسبة الليبي اختصاص رقابة الأداء المالي الذي أوصت به المعايير الدولية إلى جانب الرقابة النظامية ورقابة الالتزام، وهذا الاختصاص يقوم على تشخيص الوضع القائم للمؤسسة ومقارنة النتائج بالأهداف والإمكانيات للوصول إلى تقييم الكفاءة والفاعلية والاقتصاد في إدارة المؤسسة واستعمال الأموال العامة.
كما نص القانون على ضرورة الأخذ بملاحظات وتوصيات الديوان في إصلاح أوجه الخلل والقصور في إدارة المال العام، وفي حال ارتقت المُلاحظة المُتكشفة من أعمال الفحص والمراجعة إلى حالة سوء إدارة أو تقصير نتج عنه إهدار للمال العام أو مخالفات مالية أو جرائم جنائية، فيتم إعداد ملفات بها وإحالتها إلى جهات الاختصاص لاستكمال إجراءات التحقيق.
تقرير الديوان لسنة 2017م:
ورغم أن ديوان المحاسبة تأثر مثله مثل غيره بحالة الانقسام السياسي، حيث أنشأت الحكومة المؤقتة ديوان ثاني للمحاسبة في شرق البلاد سنة 2015م، إلا أن ديوان المحاسبة الرئيسي هو الكائن في غرب البلاد باعتباره هو الأساسي والأقدم والأكثر خبرة وكفاءة إضافة لتوفر كل الأرشيف القديم لديه جعل منه أكثر نجاعة وقوة وتأثير حتى لو كان غير قادر على بسط نفوذه في عدة مناطق.
وكعادته كل سنة فقد دأب ديوان المحاسبة على إصدار تقاريره السنوية كل عام منذ عام 2012م، حيث يقوم بتقييم عمل مؤسسات وإدارات الدولة ماليًا ويُبدي ملاحظاته على المخالفات ويطالب بتسويتها وفقًا لأحكام القانون 19 لسنة 2013، بشأن إعادة تنظيم ديوان المحاسبة.
التقرير الأخير لسنة 2017م، والصادر الأيام الماضية لافتًا ومؤثرًا حيث وقع التقرير في 1000 صفحة وقد وثَّق تجاوزات مالية وعمليات تلاعب وهدر للمال العام بشكل كبير، وقد كان لهذا التقرير صدى إعلامي كبير، حيث أفردت له البرامج السياسية في القنوات التليفزيونية مساحات واسعة للنقاش والتحليل كما تبادل أخباره النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة كونه تناول بعض المصاريف الباهظة لبعض المسؤولين مثل تكاليف الإقامة في الفنادق وسعر استئجار طائرات خاصة وتغيير أثاث مكتبي وشراء سيارات وهواتف وغير ذلك من المصاريف الكبيرة، التي استفزت الناس وأدت لردة فعل كبيرة وصلت لحد السخرية والاستهزاء منهم وانتشرت العديد من الرسومات الساخرة على المسؤولين الواردة أسماؤهم في التقرير.
وبالفعل فإن التقرير تناول عدة مسائل مهمة وأوضح بعض النقاط المهمة التي تعكس مستوى الفساد والنهب في الدولة مثل مسألة الاعتمادات المصرفية والتي حدثت فيها تجاوزات عدة وغابت فيها معايير العدالة وتكافؤ الفرص في منح الموافقات حيث تكررت أسماء شركات بعينها مما يعني وجود فساد ومحاباة. ومن أبرز الأمثلة تورط مدير إدارة الرقابة على المصارف والنقد بمصرف ليبيا المركزي واستغلال منصبه في القيام بتصرفات تندرج تحت الوساطة والمحسوبية والمحاباة ومخالفة التشريعات والنظم المالية والمصرفية وتجاوزه لصلاحياته وسلطاته بالإضافة إلى تعارضها مع طبيعة عمله الرقابية وتُفقده الاستقلالية تجاه بعض المصارف التي يطلب منها بموجب مكاتبات رسمية تنفيذ اعتمادات لصالح شركات محددة بالمخالفة خصوصًا بعد ما تبين أن فواتير النقل المُرفق بملفاتها مزورة مما يُشير إلى أن الاعتمادات استعملت في تهريب الأموال للخارج.
وقد شمل التقرير أغلب الأجهزة والمؤسسات في الدولة حيث تحدث على عدة نقاط منها المبالغة في عدد البعثات الدبلوماسية والازدواجية في صرف الرواتب، وانحرافات دعم العملية التعليمية، وفساد المتابعة المالية لبعض البعثات الدبلوماسية في الخارج وغيرها.
ومن أمثلة الفساد في المؤسسات بحسب ما ورد في التقرير قيام المؤسسة الليبية للاستثمار بعدد من التجاوزات الخطيرة والتي تُخالف القوانين من بينها عدم إعدادها لميزانيات مُجمعة خلال السنوات المالية السابقة وحتى عام 2016، فضلًا عن عدم قيامها بإجراء أي مصادقات للأرصدة المدينة والدائنة للتأكد من الأرصدة الظاهرة نهاية هذا العام الأمر الذي يعني بأن الأرقام الواردة ما هي إلا تعبيرًا عن وجهة نظر المؤسسة فحسب. وكشف أيضًا عن عجزه رصد وفحص حسابات المؤسسة عن عام 2017 نظر القصور مالي في المؤسسة بإدخال القيود اليومية المُتعلقة بالسنة المالية عام 2017 في المنظومة وكذلك مذكرات تسوية المصارف.
وعن الأموال الليبية المُجمدة بالخارج بين ديوان المحاسبة أن هذه الأموال بلغت قيمتها 33 مليار دولار ما بين ودائع وأسهم وسندات ومحافظ وصناديق استثمارية، فيما بلغت خسائر التجميد مبلغ يتجاوز 43 مليون دولار سنويًا نتيجة لدفع الفوائد السالبة للمصارف المودعة فيها أموال المؤسسة الليبية، كما ورد في التقرير بأن رواتب الموظفين والمزايا الأخرى كالتأمين الصحي ومصاريف الدراسة وبدل الهاتف والنقل والسكن إلى موافقة رئيس مجلس إدارة المؤسسة دون وجود لوائح مُنظمة لنشاط الشركة، فضلًا عن تقاضي بعض الأشخاص لرواتبهم دون تواجدهم بالمقر في مالطا.
وتناول التقرير مختلف القطاعات العامة التي اتهمها بإبرام اتفاقيات تعويض للمقاولين لا يستحقونها، وتغريم الدولة مبالغ طائلة، فضلًا عن التنازل عن الإدارة لصالح الشريك الأجنبي، إلى جانب التحايل والتلاعب في عقود التأمين الطبي، والتوسع في إبرام العقود وتكليفات العمل المباشرة، دون دراسة جدوى تلك التعاقدات، ومن بين القطاعات التي فصل التقرير فيها، هي وزارة الخارجية والاتصال الدولي، وتناول بالتفصيل، بعض السفارات والقنصليات في دول شهدت أكثر من غيرها عمليات وصفها التقرير بالتجاوزات والفساد.
وسجل تقرير ديوان المحاسبة عدة ملاحظات على الآداء المالي في قطاع الخارجية، تركزت حول ضعف نظام الرقابة الداخلية المُطبَّق بالوزارة، وأبرز عدة نقاط جاءت كالتالي:
- التعاقد بطريقة التكليف المباشر مع بعض الشركات، التي نفذت أعمال مقاولات ودون إجراء مفاضلة ومناقصة بين عدد من الشركات.
- القيام بتسليم بعض الصكوك لأشخاص غير مستفيدين، في مخالفة لنصوص القوانين الحاكمة لمثل هذه الإجراءات.
- تسجيل حالات خلل في المعاملات الخاصة بعلاوات سفر الموظفين وما رافقها، وعدم تحديد الغرض من بعض المهام الموفدين من أجلها.
كما شمل التقرير تجاوزات في الإجراءات وتطبيق النظم واللوائح في السفارات والقنصليات والبعثات الدبلوماسية، حيث أشار إلى جملة من الملاحظات من بينها:
- عدم إنهاء فترة إيفاد عدد من الموظفين الذين انتهت فترة عملهم بالخارج وفقًا للفترات المحددة قانونيًا، إضافة إلى عدم قيام الوزارة باتخاذ الإجراءات اللازمة في الموظفين الذين بلغوا سن التقاعد.
- قصور وزارة الخارجية في متابعة الحسابات المصرفية التي تُديرها البعثات الدبلوماسية بالخارج والأرصدة الدفترية وتقرير مصروفاتها.
كما تناول التقرير تزايد أعداد الموظفين والعاملين بالخارج بشكل مبالغ فيه، وما ترتبت عنه من مصروفات ومخصصات مالية كبيرة، لاسيما في ظل رفع قيمة الرواتب والأجور.
وخصص تقرير ديوان المحاسبة مساحات خاصة بعدد من السفارات والقنصليات التي سجل ملاحظات على آدائها المالي وأثبت عدد من التجاوزات التي تم ارتكابها فيها، وتمثلت معظم المخالفات في عدم التقيُّد بالنظم واللوائح، إضافة إلى هدر مبالغ مالية كبيرة في غير أبوابها، ولصالح أشخاص بعضهم مسؤولون في تلك السفارات، وآخرون لا يمُتون لها بأي صلة، وبلغت تقديرات التقرير لتلك المبالغ بمئات ملايين الدولارات، جاءت في رأس قائمة السفارات التي أفسح لها التقرير مجالًا تفصيليًا سفارات وقنصليات ليبيا في كل من تونس ومصر وعدد من الدول الأخرى.
وبعيدًا عما جاء به التقرير من مخالفات وتجاوزات عديدة تستحق الوقوف عندها، إلا أن نشر التقرير في هذا التوقيت، والتركيز على الجانب الإعلامي في نشر تفاصيله دون اتخاذ خطوات قانونية فتح الباب للعديد من التساؤلات خاصة بعد أن خضع التقرير لحملة إعلامية واستغلته عدة أطراف سياسية ووظفته سياسيًا لمصلحتها.
تقرير الديوان بعيون ناقدة:
بقراءة موضوعية للتقرير نجد أن هناك بعض الملاحظات المهنية المُتعلقة بالصياغة والأسلوب وأبرزها الملاحظة الرئيسية على التقرير استخدامه لبعض المصطلحات المسيَّسة مثل عبارة الحكومة المركزية في طرابلس، رغم أن القانون ألزم الديوان أن يكتب تقريره بلُغة مهنية محايدة موضوعية. بل استخدم في الصفحة 15 مصطلح «حكومات طرابلس والبيضاء»، وهي مصطلحات لم ترد في أي تشريع يستند عليه الديوان، بما في ذلك الاتفاق السياسي الذي أحال عليه في أكثر من مناسبة.
كما لوحظ الإيحاء بأن قيمة الهدر المالي بلغ 277 مليار دينار خلال خمس سنوات دون تفصيل، حيث جمع آداء عدة حكومات من العام 2012 إلى 2017م في رقم واحد.
بينما قام مُعد التقرير بتفصيل مصاريف الحكومة المؤقتة في البيضاء الذي أكد في مقدمة تقريره أنها خارج نطاقه، إذ ذكر أن الحكومة المؤقتة أنفقت 21.148 مليار دينار في ثلاث سنوات، منها 13.420 مليار دينار رواتب، و1.539 مليار دينار على الدعم، وما تبقى نحو 6 مليارات دينار موزعة على ثلاث سنوات.
تساؤلات قانونية:
السؤال الأبرز عن الصفة الرسمية للسيد «خالد شكشك» رئيس ديوان المحاسبة والذي تم عزله من مجلس النواب سنة 2014م وصدور حكم قضائي ضده لكن تم التمديد له من «المؤتمر الوطني العام» سنة 2014م أثناء ازدواجية السلطة التشريعية.
ولو تجاوزنا مسألة صفة رئيس الديوان، وانتقلنا لنقاط قانونية أخرى أكثر دقة، تتعلق بصلاحية الديوان واختصاصاته، وأولها عدم تقديم الديوان للسلطة التشريعية متمثلة في مجلس النواب وفقًا لما نص عليه قانون إنشائه وهو القانون رقم 19 لسنة 2013م، حيث تنص المادة رقم 62 على أن “يُقدَّم التقرير للسلطة التشريعية ومجلس الوزراء خلال ثلاثة أشهر من انتهاء السنة المالية”أي بحلول 30 مارس من كل عام، فلماذا أخَّر الديوان تقريره ستين يومًا؟
والتساؤل الثاني لماذا وقف الديوان عاجزًا أمام هذا الكم من التجاوزات المالية والمحاسبية ولم يتخذ الإجراءات المنصوص عليها قانونًا فمثلًا حددت المادة 19 وفقًا لأحكام القانون 19 لسنة 2013م إجراءات مصاحبة للإحالة على جهة الاختصاص، إذ يتوجب على الديوان في حال اكتشاف خلل، أن يوصي بإيقاف متقلدي المناصب عن الاستمرار في مناصبهم، وتقدير الضرر والأموال المُهدرة».
وأيضًا منحت المواد رقم 50 ورقم 51 ورقم 56 للديوان حق “إيقاف كل من ثبُت تورطه في فساد عن العمل، وكذلك تجميد حسابات أي جهة ثبُت إهدارها للمال العام، وأن يأمر بالحجز الإداري على أمواله لمن تسبب في إهدار المال العام».
وأخيرًا فإن ديوان المحاسبة وفقًا لأحكام القانون 19 لسنة 2013م متى تبين له وجود مخالفات إدارية فإنه يُحيل الأوراق بشأنها لهيئة الرقابة الإدارية ومتى تبين أن الوقائع تُشكل جريمة جنائية يُحيل بشأنها الأوراق للنائب العام أو الادعاء العسكري بحسب الاختصاص، مع العلم أن للديوان صلاحية الاستدلال والإيقاف المؤقت فقط مع التنويه أن لعضو الديوان المختص سلطة الاستدلال في كل الأحوال.
وهذه التساؤلات تتكرر كل عام ومع صدور كل تقرير، لأنه لم يتخذ حتى الآن أي إجراء للمحاسبة والعقاب على ارتكاب هذه التجاوزات والمخالفات.
ولا يُعد ديوان المحاسبة الجهة الوحيدة التي ضبطت حالات الفساد في الحكومة بل إن تقرير لجنة الخبراء التابع لمجلس الأمن رصد العديد من الإجراءات المخالفة التي اتخذتها الحكومة في تقريرها الأخير.
وحتى الصحافة لها دور بارز في ضبط هذه المخالفات والتجاوزات المالية التي تُعد مؤشرًا خطيرًا لحالة الفساد المُستشرية حيث نشر موقع «إنكيفادا» تقريرًا استقصائيًا بيَّن فيه حالات التلاعب في المستندات الخاصة بالاعتمادات المستندية وعملية تدوير الأموال بين ليبيا وتونس لتهريبها حيث أصبحت الساحة المالية التونسية شبه غارقة في التدفّقات المالية المتأتّية من ليبيا عبر اعتمادات مستندية مفتعلة للتغطية على عمليات مُعقّدة ومُركّبة الهدف منها المضاربة وتبييض الأموال.
ردود الأفعال الرسمية:
وتوالت ردود الأفعال الرسمية على التقرير كان أبرزها تدخل المجلس الأعلى للقضاء وإصدار تعليماته للنائب العام وبشكل عاجل دراسة تقرير ديوان المحاسبة بكل عناية ودقة وإحالة من يثبُت تورطه في المخالفات المالية إلى القضاء، حيث طلب المجلس الاتصال الفوري والمباشر بديوان المحاسبة لطلب إرفاق محاضر الاستدلالات التي قام بها الديوان مع كافة الوثائق والمستندات والأدلة المؤيدة لتلك الاتهامات والوقائع.
ومن جهة أخرى أكد المستشار الإعلامي لرئاسة مجلس النواب، “فتحي المريمي” أن رئيس المجلس المستشار “عقيلة صالح” كلَّف أشرف الدرسي المستشار القانوني لرئاسة المجلس النواب بتقديم بلاغ إلى النائب العام، من أجل فتح التحقيقات القانونية اللازمة حول المخالفات والتجاوزات المالية التي وردت في التقرير وضرورة محاسبة كل مخالف ومتجاوز وسارق للمال العام وفق القوانين والتشريعات النافذة بالخصوص.
وحتى السلطة التنفيذية مُمثَّلة في وزارة المالية بحكومة الوفاق الوطني، شكَّلت لجنة فنيّة تضم وكيلا لوزارة ومديري الإدارات المعنية، لدراسة تقرير ديوان المحاسبة للعام المالي 2017، والتحقق بما ورد به واستخلاص النتائج الفنية.
وأشارت الوزارة، في بيان لها، إلى أنّها «ستقوم بمتابعة كافة الملاحظات والعمل على تصحيحها واتخاذ الإجراءات اللازمة حيال التوصيات»، مُرحبة في الوقت نفسه بقيام الأجهزة الرقابية بدورها في «المتابعة والتصحيح واكتشاف الأخطاء واستدراكها وضمان عدم تكرارها».
ودعت الوزارة إلى «ضرورة معاقبة المخالفين إن ثبت تورطهم»، مطالبة ديوان المحاسبة بإخطار الجهات الحكومية بملاحظاته ونتائج مراجعته وتلقي الردود من تلك الجهات، لافتة إلى أنه في حال التأكد من وقوع مخالفات تُمثل جُنحًا أو جنايات وجب عليه إحالة الأشخاص المرتكبين لها للتحقيق وعرض تلك الجرائم أمام القضاء.
من جهة أخرى نددت عدة أطراف بتقرير الديوان وتخلل ذلك اتهامات ومبررات. فالحكومة المؤقتة، اتهمت على لسان الناطق الرسمي باسمها، «حاتم العريبي” رئيس ديوان المحاسبة «خالد شكشك»، بأنه ينتحل صفة رئيس ديوان المحاسبة ويُمارس سلطة الأمر الواقع خاصة أن مجلس النواب أعفاه من مهامه في جلسة رسمية بنصاب قانوني. وأكد «العريبي» في بيان له، أن كُلما ذكر من أرقام قد صرفت وأوردها التقرير المعروض ليس للحكومة المؤقتة أي علاقة بها لا من قريب أو من بعيد، لافتًا إلى أن الحكومة المؤقتة منذ نيلها ثقة مجلس النواب في العام 2014 وهي تعمل من خلال الاقتراض القانوني عبر المصرف المركزي الشرعي بمدينة البيضاء.
نظرة إيجابية:
وأخيرًا إذا أردنا أن ننظر للجانب الممتلئ من الكأس فإننا نستطيع أن نتفاءل بهذا التقرير الذي يعكس جانبًا إيجابيًا مُهمًا وهو قيام مؤسسة ليبية بواجبها الرقابي والوظيفي حتى لو شاب عملها بعض الخلل.
حيث إن استمرار مؤسسات الدولة بالقيام بواجبها الرقابي رغم الانقسام السياسي والازدواج الحكومي والانفلات الأمني في مثل هذه الظروف التي تُشكل عوائق مُعقدة أمام أي جهات رقابية أو تنفيذية، للقيام بواجباتها الوظيفية إلا أن انتظام صدور تقرير ديوان المحاسبة سنويًا حتى ولو لم تقع فعليًا إجراءات عقابية للمخالفين فإنه يظل عاملًا توثيقيًا مهمًا للمخالفات والتجاوزات المالية وسيتمكن القضاء الليبي يومًا ما من محاسبة المخالفين استنادًا لهذه التقارير بعد مراجعتها والتأكد مما ورد بها من معلومات.