
المُقدمة:
يُعرف الفساد لغةً ضد الصلاح، والفساد أخذ المال ظُلمًا أو الإتلاف والعطب والجدب والقحط قال تعالي: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» وهو إلحاق الضرر حيث قال تعالى: «وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا».
بينما ينصرف الفساد في الاصطلاح القانوني لعمل مُشين يقوم به الموظف العمومي، وهناك دعوة حديثة لشمول العمل المُشين للموظف في القطاع الخاص، والمقصود بالعمل المُشين الذي يقوم به الموظف تحديدًا هو استغلال وظيفته لتحقيق مكسب شخصي مخالف للقانون ومن باب أولى مخالف لمعايير السلوك الأخلاقي.
ولعل تعريف «المنظمة الدولية للشفافية» و»منظمة الأمم المتحدة» أكثر دقة وشمولًا حيث اتفقتا على أن الفساد هو «إساءة استعمال السُلطة لمن اؤتمن عليها للحصول على مكاسب شخصية ويُضير المصلحة العامة».
ولا نُجانب الصواب إذا قلنا إن الفساد في ليبيا صار ظاهرة، ويكفي للتدليل على هذه المقولة الإحالة إلى مرتبة ليبيا المتقدمة في قوائم الدول الأكثر فسادًا في العالم حسب «مؤشرات منظمة الشفافية الدولية»، أو نُحيل إلى تقارير «ديوان المحاسبة الليبي»، ويكفي أيضًا النظر إلى أوضاعها السياسية والاقتصادية لنتيقن بأن مظاهر الفساد تتجلى للناظر.
والفساد يُمكن أن يُصنف صنوفًا كثيرة بحسب الضرر الناجم هو يُقسم إلى فساد جسيم وآخر بسيط، ومن حيث السلوك المُرتكب يُقسم إلى فساد إيجابي وآخر سلبى، ومن حيث مرتكب الفساد يُقسم إلى فساد تشريعي وفساد إداري وفساد قضائي، ومن حيث المجال الذي يتم فيه الفساد نجد الفساد الأكاديمي والفساد الإعلامي والفساد الاستثماري والفساد المصرفي والفساد البيئي وإلخ، ومن حيث النطاق المكاني للفساد يمكننا أن نرصد فسادًا محليًا وفسادًا دوليًا، فبعض الشركات متعددة الجنسيات وغيرها من الكيانات الاقتصادية المؤثرة عالميًا قد امتدت إليها عوامل الفساد ومظاهره بل إننا قد نستعمل وصف الفساد الدولي على بعض أفعال الدول والمنظمات الدولية تجاه كثير من الدول النامية وذلك بالتدخل المباشر أو غير المباشر في شؤونها الداخلية وفرض سياسات عليها من أجل وضع الأسباب الكفيلة باستغلال مواردها وتعميق تبعيتها وتفتيتها!
غير أن صور الفساد المُستحدثة والخطيرة في ليبيا هي:
الفساد المُنظَّم: فقد تنامت العصابات التي تُمارس تنظيم عملية الهجرة غير الشرعية، فقد ذُكر في تقرير الخبراء التابع للأمم المتحدة المُنشئ بقرار 1973 لعام 2011م، في سبتمبر 2018م الموجَّه إلى رئيسة مجلس الأمن أن الجماعات المُسلحة تستمد فوائد كبيرة من الاتجار بالأشخاص وتهريب المُهاجرين اللذين يؤججان عدم الاستقرار ويقوضان الاقتصاد الرسمي حيث تُنظم الشبكات الإجرامية قوافل للمهاجرين وتستخدم الاستغلال الجنسي لتوليد إيرادات كبيرة.
الفساد المُسلح: فقد كثُرت الوقائع التي تمارسها الميليشيات المُسلحة بشأن الفساد الاقتصادي، فعلى سبيل التدليل نقول إن فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة المنشئ بقرار 1973 لعام 2011م، قد أفاد في تقريره الأخير عام سبتمبر 2018م الموجَّه إلى رئيسة مجلس الأمن بأن «المؤسسة الليبية للاستثمار» و»المؤسسة الوطنية للنفط» و»مصرف ليبيا المركزي» تُعد أهدافًا للتهديدات والهجمات من المجموعات المُسلحة مما أثر على أداء القطاعين النفطي والمالي في الدولة، حيث قام أعضاء بعض الجماعات المُسلحة العاملة اسميًا تحت إشراف وزارة الداخلية بالوفاق، باختطاف وتعذيب وقتل موظفين في مؤسسات سيادية بما فيها «الوطنية للنفط» و»الليبية للاستثمار».
الفساد المقنن: وهو صدور قوانين وقرارات تتقدم في صدورها المصلحة الخاصة على العامة ولعل الفساد القانوني صورة من صور الفساد السياسي ومن المؤكد أن جرائم الفساد السياسي تظل عاملًا من العوامل المساعدة على انتشار كافة أنماط جرائم الفساد الأخرى ولعل كثيرًا من المحللين يجزمون بالعلاقة الطردية بين النظم السياسية المعتدلة المؤيدة للعدالة الاجتماعية، وانخفاض معدلات الفساد، حيث وسائل الإعلام الحرة والمساءلة القانونية يتم تطبيقها على نحو متوازن وعادل بين كافة المواطنين، وحيث عدم سيطرة فئة على الثروة نتيجة استغلال السلطة من أجل الكسب المادي.
ومن الخطير أن نرصد جرائم عديدة لا تَقِل خطوة هي من الجرائم المرتبطة بالفساد ارتباطًا لا يقبل التجزئة ومنها غسل الأموال والتزوير وحرق وإتلاف الوثائق والبيانات والمستندات بل والمقار أيضًا.
وبالتأكيد لسنا في حاجة للتدليل على أهمية مُكافحة الفساد ومحاولة القضاء عليه حيث إنه يُمثل حجر عثرة حقيقي في سبيل بناء دولة ومُعرقلة لمساعي العدالة ولمساعي المصالحة لأنه يقوِّض مؤسسات الديمُقراطية وسيادة القانون ويخِل بالقيم الأخلاقية ويعرض التنمية المستدامة للخطر والقضاء عليه هو الوسيلة المُثلى للمضي قدمًا نحو مستقبل واعد بدولة القانون والمؤسسات.
ومن هنا جاءت أسئلة البحث عن كيفية مُكافحة الفساد، والتي استلزمت القيام بتقييم السياسة القانونية الليبية لنعرف العديد من الأسئلة بشأنها:
- ما الثغرات الإجرائية في النظام المالي أو الإداري التي تُسهِّل الفساد على مرتكبيه؟
- ما مدى ملاءمة سلطات الأجهزة الرقابية مع حجم الفساد المنتشر اليوم وضرورة كبحه، وكيف يؤثر عدم تعاون الجهات المراقبة في فاعلية الأجهزة الرقابية؟
- الملاحقة القضائية للفساد أين هي من اهتمامات وقدرات الجهات القضائية؟
- ما دور السلطة التشريعية في ردع الفساد ومحاربته؟
هذه الأسئلة ليست من باب الترف الأكاديمي، بل لأجل الوصول إلى استراتيجية مُثلى مبنية على رؤية واضحة تساهم في القضاء على الفساد.
خطة البحث تتلخص في المطلبين الآتيين:
- المطلب الأول: تقييم السياسة الموضوعية لمُكافحة الفساد، وفيه نعرض السياسة التجريمية المتبعة من المُشرع الليبي لصور الفساد والمعاملة الجزائية لمرتكب هذه الصور، بعد أن نسبقهم بعرض سريع لعوامل انتشار الفساد في ليبيا.
- المطلب الثاني: تقييم السياسة الإجرائية لمُكافحة الفساد، وفيه نعرض لآليات مُكافحة الفساد، سواء منها: آليات الوقاية أو المساءلة أو الردع.
المطلب الأول: السياسة الموضوعية لمُكافحة الفساد
الفرع الأول: مواجهة عوامل الفساد
ما العوامل المُحركة والجاذبة للفساد في القطاعات المختلفة في ليبيا؟
عوامل سياسية
عدم الاستقرار السياسي وتطوره السيئ إلى انقسام سياسي وتناحر النخب السياسية تُعد من العوامل التي ساهمت في انتشار الفساد في ليبيا، ولعل الصلاح السياسي بما يُفرزه من مؤسسات دولة تحترم القانون سيكون كفيلًا بالحد من الفساد وتحجيم نطاقه ومداه.
عوامل اقتصادية
الاعتماد على النفط كمورد وحيد للدولة الليبية والاعتماد على الدولة في كل القطاعات الخدمية وصرف رواتب وظيفية لكل الليبيين بما يُشبه الحصة في العائد الاقتصادي، وغياب القطاع الخاص المحلي والأجنبي الذي كان يُفترض أن يُنافس حول الجودة والفاعلية كل ذلك من العوامل المؤثرة في زيادة نمو الفساد.
عوامل اجتماعية
النمط الاستهلاكي هو نمط مرصود على الأسرة الليبية، وهذا النمط متى تظافر مع عوامل اقتصادية صعبة سيؤدي بعض النفوس لتوسل الفساد للحفاظ على مستوى معيشي اجتماعي معين، خاصة أنه لا يوجد وصم بالعار لمن يُعرف عنه أنه من الفاسدين بل يتسابقون لمدحه والتجاور معه ويتفاخرون بمصاهرته!، في وسط اجتماعي يكون فيه الذم المجتمعي لمن لا يُقدم على الوساطة والمحسوبية لقريبه أو صديقه أو أكثر من الذم لمن يُخالف القواعد القانونية يجعل المواطن الموظف يستمري الفساد.
عوامل ثقافية
الثقافة الريعية والاتكالية وثقافة مال الحكومة ولعل بعض الشبهات الدينية تُعزز الاعتداء على المال العام لوجود شُبهة تملك عام! كما أن ثقافة الشطارة وثقافة الغنيمة وعديد من القيم السلبية التي تُعبر عن اختلال في المنظومة القيمية للمجتمع الليبي.
ومعلومًا أن الفساد يتنامى في حالة تدني العامل الثقافي في المجتمع فهو يزدهر في غياب العامل الثقافي لدى الموظف والمواطن صاحب الخدمة بل حتى المسؤول عن المراقبة، ولعل المنظومة الإدارية ذات قيم ثقافة سيئة ومنها الروتين والتسويف والاستعلاء والتجهيل، ولا توجد ثقافة إدارية ليبية تقضي بأن الدولة مُلتزمة بأن تؤدي للمواطن من خلال مرافقها العامة خدماته على النحو الواجب وفي وقت معقول ودونما مقابل باستثناء المفروض قانونًا من ضرائب أو رسوم.
عوامل قانونية
إلغاء قوانين سابقة دون دراسة واستحداث قوانين حديثة دون فلسفة تشريعية وتباين في السياسات التشريعية للسلطات المتعاقبة بما يُشبه الموجات العنيفة والمتضادة في نوع من العبث تشريعي خلق بيئة مناسبة للفساد، ناهيك عن ضعف فاعلية إنفاذ القانون، ناهيك عن صدور أحكام قضائية تحت قبضة ميليشيات مُسلحة، ناهيك عن إقصاء للإكفاء وبالتالي تصدَّر المشهد من لا يعرفون شيئًا عن القانون وبالتالي استخدم القانون كأداة خطيرة في يد من لا يحسن استخدامها.
ولعل من المهم الإشارة إلى خلو القوانين من تجريم لسلوكات تُساعد على الفساد، فمثلًا لا يوجد حظر فعال ودقيق للعمل في القطاع الخاص للموظف العام خاصة إذا كان العمل له صلة مباشرة بالوظيفة العمومية، ولا حظر على العمل الخاص ذو العلاقة لمتقلدي المناصب الكبرى بعد تركهم المنصب.
الفرع الثاني: تجريم صور الفساد
تتعدد القوانين الليبية المعنية بمُكافحة للفساد ومنها:
- قانون العقوبات العام والقوانين الخاصة المُكملة له لعل أهمها
- قانون الجرائم الاقتصادية رقم 2 لسنة 79م.
- قانون غسل الأموال رقم 2 لسنة 2005م.
- قانون إساءة الوظيفة رقم 22 لسنة 85م.
- قانون الوساطة والمحسوبية رقم 5 لسنة 85م.
- قانون من أين لك هذا رقم 3 لسنة 86م.
- قانون التطهير رقم 10 لسنة 94م.
- قانون 5 لسنة 2010م بشأن المُصادقة على اتفاقية مُكافحة الفساد.
- قانون الإرهاب رقم 3 لسنة 2014م: فهو ينص في المادة الثانية منه على أن من الصور الإرهابية «السلوك الذي من شأنه الإضرار بالنظم المالية أو البنكية أو بالاقتصاد الوطني…»
كذلك القوانين المصرفية مثلًا:
- قانون رقم 1 لسنة 2005م بشأن المصارف.
- قانون رقم 46 لسنة 2012م المُعدل له.
صور الفساد مُتعددة ولعل من الممكن إجمالها في كل مساس بالمال العام بشكل مباشر أو غير مباشر، بأي وسيلة، وبأي قصد، ومن أي إقليم كان، ومن أي جاني.
ويمكننا التقيُّد بما جاء في اختصاصات هيئة مُكافحة الفساد حيث تقضي باختصاصها في:
- الجرائم ضد الإدارة العامة.
- الجرائم المُخِلَّة بالثقة العامة.
- جرائم غسل الأموال.
- الجرائم الاقتصادية بما فيها الرِشوة.
- جرائم إساءة استعمال الوظيفة أو المهنة.
- قانون الوساطة والمحسوبية.
- قانون من أين لك هذا.
- قانون التطهير.
- مُخالفة قواعد العقود الإدارية والمناقصات والمزايدات.
- المخالفات الإدارية والمالية التي يرتكبها الموظفون العامون.
وعلى سبيل التقييم لهذه السياسة الجنائية الليبية نقارنها بصور التجريم المنصوص عليها في «اتفاقية الأمم المتحدة لمُكافحة الفساد»، تلك الاتفاقية التي اعتبرت من «جرائم الفساد: الرشوة»حتى في مجال القطاع الخاص والمتاجرة بالنفوذ والاختلاس والتبديد حتى في القطاع الخاص، وإساءة استغلال الموظف العمومي وظائفه أو مهام منصبه، وإثرائه غير المشروع، وغسل العائدات الإجرامية.
ويتضح أن الاتفاقية توسَّعت في التجريم أكثر من القانون الليبي الذي لم يدخل في دائرة التجريم أفعال الموظف في القطاع الخاص.
يهمنا التعقيب بشأن جريمة الرشوة، المنصوص عليها في قانون الجرائم الاقتصادية حيث إنها قد نصت عليها «اتفاقية الأمم المتحدة لمُكافحة الجريمة المُنظمة عبر الوطنية» في المادة الثامنة منها والتي دعت الدول الأعضاء إلى تجريم صور السلوك المختلفة للرشوة من الموظفين العموميين والقائمين بالخدمة العامة وشملت تلك الصور الوعد بالرشوة أو عرضها أو منحها لأي من هؤلاء، سواء لصالحه أو لصالح هيئة أو شخص آخر مقابل قيامه بفعل أو الامتناع عن فعل في نطاق مهامه الرسمية، وشملت أيضًا صورة طلب الرِشّْوة والاشتراك في أي من صورها، ولعل من المميز في تلك الاتفاقية اهتمامها بدعوة الدول إلى تجريم صور الرِشّْوة إذا ارتكبها موظف عمومي أجنبي أو موظف مدني دولي وهو ما يُعد خطوة مهمة في مجال تجريم الرِشّْوة الدولية، ومن المميز أيضًا نص البند 2 من المادة 3 من الاتفاقية على اعتبار جريمة الرِشّْوة جريمة عبر وطنية إذا ارتكبت في دولة ما وكانت لها آثار شديدة في دولة أخرى.
وللرشوة صور كثيرة عصية عن الحصر، فهي قد تكون بتقديم الهدايا المالية والعينية والمعنوية وقد تكون علاقة جنسية أو وظيفة أو أي منفعة تُحقق مصلحة شخصية.
الفرع الثالث: سَنْ الجزاءات في مواجهة الفساد
- جزاءات سالبة للحياة: الإعدام لكل من خرَّب عمدًا بأي وسيلة المنشآت النفطية أو إحدى ملحقاتها «مادة 4 من قانون الجرائم الاقتصادية»
- جزاءات سالبة للحُرية: المؤبد والسجن والحبس عقوبات مُقررة في العديد من القوانين المُتعلقة بالفساد.
- جزاءات سالبة للأموال: غرامات عادية تصل إلى خمسين ألفًا في «قانون المصارف»، وغرامات نسبية، مثلًا غرامة ألف دينار ولا تزيد على قيمة الضرر وبالتعويض عن الأضرار الناجمة بالمال العام أو المصلحة العامة «مادة 9 من قانون الجرائم الاقتصادية».
- جزاءات تبعية: الحرمان من الحقوق المدنية، نشر الحكم، عدم الصلاحية للشهادة أمام القضاء.
- جزاءات تكميلية: الغرامة التي تُعادل ضِعف ما هرب أو أختلس أو طلب أو قبل أو وعد به أو عرض عليه أو حصل عليه أو أٌرغم غيره على إعطائه ومصادرة أو رد المبالغ التي حصل عليها بسبب ارتكاب بعض جرائم الفساد «مادة 35 من قانون الجرائم الاقتصادية».
- جزاءات احترازية: المصادرة في بعض الحالات المشروطة، التجميد والحجز والتحفظ، قفل المصرف المركزي لحساب المصرف المُخالف، سحب الترخيص وغلق المُنشأة بالنسبة للأشخاص الاعتبارية.
المطلب الثاني: السياسة الإجرائية لمُكافحة الفساد
الفرع الأول: آليات وقائية
كان من أبرز مُخرجات الجهود الدولية في مجال مُكافحة الفساد أن وضعت يدها على مكامن الخلل التي تؤدي للفساد ومنها مثالًا: عدم وجود أجهزة حكومية تتولى الرقابة وتتلقى شكاوى المتضررين من الفساد، عدم وجود آليات اجتماعية داخلية تُطبق إدارة جودة الخدمات، تزايد التعقيدات الإدارية في جميع مستويات الأداء الحكومي، سوء استخدام السلطة التقديرية وعدم الوثوق في سلامة تفسير وتطبيق الأنظمة والقوانين في نطاق القطاع العام، عدم توفير نُظم الرقابة الداخلية التي تكفل الشفافية والتحكم والمساءلة في رسم وتنفيذ السياسات العامة ضعف آليات المشاركة السياسية ورقابة المجتمع الرامية إلى مُكافحة الفساد، ضعف تحفيز موظفي القطاع العام على مُكافحة الفساد، عدم وجود فرص لمشاركة الموظفين العموميين في صناعة القرارات التي تنفرد بها القيادات الإدارية العليا. ضعف وسائل الإعلام وعدم اهتمامها بتسليط الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة، عدم توفير المعلومات الخاصة بمشاريع التنمية ومصادر تمويلها والجهات المُكلفة بالإشراف عليها.
ولعلنا لا نُجانب الصواب إذا قُلنا إن أغلب هذه المظاهر موجودة في ليبيا سواء منها ما يخص مشاكل الإدارة أو ما يخص الإعلام أو ما يتعلق بمشاريع التنمية إضافة لمشاريع الإعمار.
ولعل من المُناسب أن نذكر بعض الآليات المُختلفة لعلها تُسهم في الوقاية من الفساد:
- إرادة سياسية تضع رؤية واستراتيجية بشأن مُكافحة الفساد.
- إصلاح مؤسسات الدولة وإصلاح المنظومة الإدارية والمالية بالكامل.
- توحيد مؤسسات الدولة الليبية خاصة السيادية والمالية.
- إعمال معايير الجودة في مؤسسات الدولة.
- الاهتمام بالقطاع الخاص لأن له دور ولو غير مباشر.
- إعادة هيكلية الجهات الرقابية لجعلها أكثر فاعلية باعتماد استقلالها بزيادة حوافزها بتعيين الأكفاء فيها.
- اعتماد مبدأ الشفافية في جهات العمل ومؤسسات الدولة.
- تقوية الوازع الديني والاهتمام بالتعليم وبرامج توعية في التعليم بمراحله كافة.
- تهيئة الوسط المجتمعي لنبذ الفساد من خلال الخُطب والدروس الدينية ومن خلال وسائل الإعلام.
الفرع الثاني: آليات مساءلة
تعامل الجهات القضائية مع الصور الإجرامية للفساد محفوف بالمصاعب وذلك يرجع لعوامل كثيرة لعل أهمها ما تتميز به جرائم الفساد من خصائص تتعلق بجانيها وبضحيتها وبظروف ارتكابها، فالجاني في جرائم الفساد موظف عمومي يرتكبها مستفيدًا من سلطاته الفعلية وامتيازاته القانونية بما يُمكِّنه من توفير غطاء لجريمته، وبالتالي هي تُعد من جرائم الكتمان أو ما يُعرف بجرائم الرقم الأسود.
كما أن جرائم الفساد ضحيتها ليس شخصًا طبيعيًا بل تقع في الغالب على شخص اعتباري مما يُضعف أحيانًا من الحافز الفردي على الملاحقة لغياب الأذى المباشر الناشئ عن الجريمة ويُلقي بالعبء كله على جهات الرقابة والتقصي.
ولذلك يجب تفعيل النظام الإجرائي للملاحقة القضائية وتحديثه، لا سيما فيما يتعلق بكيفية ضبط ومصادرة عائدات الفساد، وفي هذا الشأن نسرد بعض صور آليات المساءلة الليبية.
أولاً: التعاون المحلي بين الجهات المُختصة، ومن هذه الجهات:
- وحدة المعلومات المالية بالمصرف المركزي ووحداتها الفرعية التابعة لها بالمصارف العاملة في الدولة والمنشأة بموجب المادة 9 من القانون رقم 2 لسنة 2005م، بشأن مُكافحة غسل الأموال.
- قانون 63 لسنة 2012م، هيئة مُكافحة الفساد، تم إلغاؤه بالقانون الذي يليه.
- قانون 11 لسنة 2014م، الهيئة الوطنية لمُكافحة الفساد أوقفت عن العمل بموجب قرار رئيس هذه الهيئة رقم (119) لسنة 2017م، بشأن إيقاف بعض الموظفين بالهيئة الوطنية لمُكافحة الفساد، عن العمل، احتياطيًا لمصلحة التحقيق.
- هيئة الرقابة الإدارية قانون 20 لسنة 2013م.
- ديوان المحاسبة المُعاد تنظيمه بالقانون رقم 19 لسنة 2013م والمُعدل بالقانون رقم 24 لسنة 2013م.
ولعل من المهم أن نذكر أن القانون في المادة الثالثة منه، لا يمنح ديوان المحاسبة سُلطة الرقابة على القطاع الخاص إلا إذا كانت الدولة تُساهم في رأس مال الشركة بنسبة 25% على الأقل، أو أن تكون الشركة قد أخذت قرضًا من الدولة واشترط في عقد القرض إخضاعها لديوان المحاسبة.
كما أن القانون لا يُجيز لديوان المحاسبة الرقابة على مجلس النواب وذلك حسب بيان رسمي للديوان مدينة البيضاء بتاريخ: 17 أكتوبر 2018م، بل إنه يسلب منه كل اختصاصات التحقيق، فنص القانون يُلزمه في المادة 27 منه بإحالة الواقعة للرقابة الإدارية أو النيابة العامة، إذا ما تبين مُخالفة إدارية أو جنائية، وقد حدث ذلك حيث بلغ إجمالي ما تم إحالته لهيئة الرقابة الإدارية (239) قضية بينما بلغ إجمالي ما تم إحالته للنيابة العامة (42) قضية وهناك عدد (25) قضية قيد الإحالة لسلطات التحقيق.
أما عن قانون إنشاء هيئة مُكافحة الفساد رقم 11 لسنة 2014م، فمن المهم الحديث عن عدة نقاط، إحداها النص في المادة 26 على عدم تساقط جرائم الفساد بالتقادم، والأخرى بشأن النص م 22 على حماية الشهود والخبراء والمُبلغين عن جرائم الفساد، والأخيرة عن منح موظفي الهيئة صفة مأموري الضبط القضائي ومنحهم بنص المادة 5 منه صلاحية الاطلاع على الدفاتر المشتبه به كما لهم الحصول على المعلومات والاستعانة بالخبراء ولهم حق الاطلاع على كافة المستندات حتى ولو كانت سرية ولهم حق استدعاء من يرون لزومًا لسماع أقواله.
وقد أكد قانون العفو رقم 6 لسنة 2015م، في مادته الثالثة بأن «جرائم الفساد بكل أنواعه لا تخضع لقانون العفو العام».
ثانياً: التعاون الدولي بين الجهات المختصة:
ومن بينها التبادل الدولي للمعلومات والاعتراف بحجية أحكام وأوامر القضاء الأجنبي حسب الاتفاقيات الدولية وتبني مفهوم جديد للولاية القضائية يتجاوز مبدأ الإقليمية.
الفرع الثالث: آليات الردع
يُقصد بآليات الردع كيفية تنفيذ الجزاءات، ومراقبة تنفيذها من قبل السلطات القضائية ولعل من المفيد التأكيد على أهمية المتابعة الحقيقية الفعالة لجزاء المصادرة، ومن الجيد التوسُّع في العقوبات المالية دون العقوبات السالبة للحرية لأنها أوجع من حيث معاملتها للجاني، بعكس المقصود من الجريمة ألا وهو إثراء الذمة المالية له، ومن جهة أخرى نرى في الجزاءات التبعية خاصة نشر الحكم وسيلة رادعة للجاني ولغيره ممن تسُّول له نفسه الاعتداء على الأموال العامة للدولة.
ومن التدابير الردعية أن يعلم الجاني أن جريمته لن تسقط بالتقادم ولذلك نُشيد بموقف قانون العفو 6 لسنة 2015م، الصادر عن «مجلس النواب» حيث استثنى جرائم الفساد من العفو العام.
ونؤكد أن «قانون العدالة الانتقالية رقم 29 لسنة 2013م»، حين نصَّ على ركيزة الإصلاح المؤسسي كان يجدر به الإشارة إلى مُكافحة الفساد.
ونرى أنه من المهم جدًا النص في الدستور أن جرائم الفساد لا عفو ولا تقادم، وبهذا الصدد يجب التنويه إلى نص مهم جدًا في مسودة 2016م، لمشروع الدستور الليبي وهو مادة 207 حيث نصت على أنه: «على الجهات بالدولة مراجعة عقود الاستثمار التي تتوافر بشأنها قرائن فساد مالي أو إداري والتي تم إبرامها خلال الفترة من 1980م، على حين نفاذ الدستور»، وقد حذف النص من المسودة الأخيرة 2017م!!، رغم أن هذه المراجعة كانت بمثابة آلية من آليات العدالة الانتقالية فلا يتصور أن تبنى دولة ليبيا جديدة دون القضاء على الفساد بصوره كافة.
الخاتمة
تُقدم الورقة جملة من النتائج والمقترحات:
النتائج:
- صور الفساد في المجتمع الليبي حاليًا تفوق الحصر والتعداد بينما صور الفساد المُجرمة قانونًا تقصر عنها كثيرًا مما يلزم التدخل التشريعي السريع.
- علة تجريم الفساد المصلحة العامة والتي من أهم تجلياتها، نزاهة الموظفين العموميين مما يُفصح عن أن العلاج لن يكون بالقانون الجنائي فقط بل يلزم رؤية شاملة لظاهرة الفساد تبدأ بمعالجة اختلالات المنظومة القيمية للمجتمع الليبي ولا تنتهي عند الإصلاح المؤسسي.
- ضعف استراتيجية مُكافحة الفساد بشتى حلقاتها الوقائية والرقابية والقضائية، وهو ما يفرض الحاجة إلى رؤية جديدة لتعزيز استراتيجية المُكافحة.
المقترحات:
- يلزم المُشرِّع الليبي تعديلًا يقضي بمد سريان قانون العقوبات الليبي على جرائم الرِشّْوة الدولية التي تقع من الموظفين العموميين الأجانب أو موظفي المؤسسات الدولية إضرارًا بمصالح ليبيا أو بمصالح أحد المواطنين الليبيين، ومد الولاية القضائية الليبية لملاحقة مرتكبي هذه الجرائم عند وقوعها في الخارج.
- يلزم النص صراحة على تجريم رِشوة الشخص الاعتباري.
- يلزم النص على سريان نص تجريم الرِشّْوة على أفعال التابعين للقطاع الخاص.
- الإصلاح المالي داخل المؤسسات المالية والشركات يكون من خلال تفعيل دور الجمعيات العمومية ومجالس الإدارة والجهات والمكاتب الرقابية.
- تحسين السياسات الإدارية وتحديث الجهاز الإداري وزيادة دخول الموظفين.
- مكنة مؤسسات المجتمع المدني بأن تُقدم شكوى وتكون صاحبة مصلحة في التبليغ عن الفساد بعد تقويتها وتوجيهها وتدريبها على رصد حالاته وكيفية التصدي المدني له.
- الاعتراف بحجية الأحكام والأوامر القضائية الصادرة من دول بينها اتفاقية تعاون قضائي أو وفقًا لقواعد المعاملة بالمثل.
- النص القانوني على التبادل الدولي للمعلومات بشأن جرائم الفساد.
- خلق وتطوير آليات للإبلاغ عن الفساد ومنها برامج لحماية الشهود والمُبلغين عن الفساد والإعفاء من العقاب لمن تورط في الفساد ثم بلغ عنه وكذلك توفير مكافآت لبعض الشهود.
- ضرورة تطبيق الأحكام الإجرائية والموضوعية الخاصة بمُكافحة غسل الأموال.
- التركيز على مُصادرة واسترداد متحصلات الفساد التي تهرب عبر الحدود مما يتطلب التعاون الدولي الفعال.
- تطوير مفهوم الولاية القضائية ذات المعيار الإقليمي خاصة مع تطور وتعقد وسائل الاتصالات الحديثة كالإنترنت وآلية التحويلات المصرفية الفورية.