
تمهيد عام
تتنزل هذه الدراسة ضمن سلسلة المقاربات القانونية والسياسية التي دأبت «دورية دعم» التي يشرف عليها مركز دعم للتحوُّل الديمُقراطي وحقوق الإنسان “دعم”، على عرضها وتتناول بالدرس والتحليل استحقاق مُكافحة الفساد وعلاقته بسياسات التحوُّل الديمُقراطي في تونس وليبيا، مع التركيز بصفة شبه مُطلقة على دور قانون المصالحة في المجال الإداري {القانون الأساسي عدد 62 لسنه 2017، مؤرخ في 24 أكتوبر 2017، منشور بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 85 بتاريخ 24 أكتوبر 2017، الصفحة 3625}، هذا القانون الذي أسال من الحبر الشيء الكثير، وتفاعل معه السواد الأعظم من الفاعلين المدنيين والسياسيين والقانونيين، ومثل طيلة ما يزيد على السنتين المحور الرئيسي لمختلف السجالات والملفات والمُقاربات التي تهتم بملف مُكافحه الفساد.
واحترامًا لأهمية الأمانة التي أناطها الساهرون على «دورية دعم» بعُهدة كاتب هذه الدراسة، وتقيُدًا منه بضوابط وأدوات التحليل العلمي والمنهجي، فإنه يرى لزامًا عليه مصارحة السيدات والساده القراء بالصعوبة الرئيسية التي اعترضته خلال كافة ردهات إنجاز هذا العمل، والمتمثلة أساسًا في واجب التقيُّد بالحياد العلمي عند تحليل قانون لطالما اعتبرته، أنا ورفيقاتي ورفاقي في حراك «ما نيش مسامح»، قانونًا «لتبييض الفساد ورسكلة الفاسدين”، ولطالما ناضلنا جميعا، إلى جانب الآلاف من مختلف الشرائح العمرية والمهنية والاجتماعية والمدنية والسياسية من الشعب التونسي، في سبيل إسقاطه.
ولكن، ورغم جسامة هذه الصعوبة، إلا أنني حاولت قدر الإمكان احترام الأمانة العلمية وإنجاز هذا العمل الذي يظل، شأنه شأن جميع الأعمال البشرية، مشوبًا بالنقصان الذي أعتذر عنه مسبقًا، ومعرضًا للنقد وهو ما أتمناه عند فتح باب التفاعل والنقاش.
مقدمة
لطالما مثَّل استحقاق القطع مع ماضي الفساد والاستبداد الذي رفعته ثورة الحُرية والكرامة هدفًا مشتركًا ومعلنًا لكافة الحكومات المتعاقبة منذ ذلك التاريخ، ولطالما اعتبره الخبراء والنشطاء المدنيون والسياسيون على حد سواء كشرط أساسي لا مندوحة عنه في سبيل الانتقال الديمُقراطي السليم والشروع المسؤول في بناء الدولة الديمُقراطية القائمة على سيادة القانون والمؤسسات وعلى احترام حقوق الإنسان والمواطن.
وفي سبيل تحقيق تلك الغاية السامية تعددت المبادرات الرسمية وغير الرسمية، التشريعية والمؤسساتية، السياسية والمواطنية المدنية، التي انكبَّت جميعها على البحث في سبل وآليات القطع السليم والناجع مع ذلك الماضي المتخن بشتى أنواع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وبمختلف أنواع جرائم الفساد التي استهدفت الأملاك العامة والخاصة وأهدرت مُقدَّرات المجموعة الوطنية دون وجه شرعي.
ورغم تعدد تلك المبادرات، إلا أنها اتفقت في معظمها على أن الوجه الأمثل لمعالجة ذلك الماضي على نحو عادل، ديمُقراطي وقاطع مع كافة ضروب التشفي والانتقام أو الإقصاء والانتقاء لا يمكن أن يكون إلا في إطار منظومة العدالة الانتقالية.
وعلى الرغم كذلك من عديد التحفظات والاحترازات والتجاذبات السياسية التي شابت أعمال المجلس الوطني التأسيسي عند تناوله لمشروع قانون العدالة الانتقالية والتي طغى عليها، بشهادة العديد من الخبراء التونسيين والدوليين والعديد من منظمات المجتمع المدني الوطني والدولي، منطق المحاصصة الحزبية، إلا أن تلك الأعمال توِّجت بالمصادقة على القانون الأساسي عدد 53 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 والمُتعلق بإنشاء العدالة الانتقالية وتنظيمها، ثم بانتخاب أعضاء الهيئة العمومية المُشرفة على ذلك التنظيم وهي «هيئة الحقيقة والكرامة»، وتسميتهم بمقتضى الأمر عدد 1872 لسنة 2014، المؤرخ في 30 ماي/مايو 2014.
وانطلقت منذ ذلك التاريخ ولاية «هيئة الحقيقة والكرامة» التي أناط القانون بعهدتها معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان منذ شهر جويلية/يوليو 1955، إلى حين صدور القانون عدد 53، والذي لم يستثن من تلك الانتهاكات الجرائم المتعلقة بـ «تزوير الانتخابات وبالفساد المالي والاعتداء على المال العام» (الفصل 8)
ولكن وبالنظر إلى الآداء المهزوز لهيئة «الحقيقة والكرامة» وتراكم الخلافات بين بعض أعضائها، وبينهم وبين بعض مؤسسات الدولة على غرار مؤسسة «رئاسة الجمهورية»، و»المحكمة الإدارية» و»إدارة القضاء العسكري» من جهة، وبالنظر إلى التغير الجسيم الذي وصَمَ المشهد السياسي الحاكم إبان الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014، والتي أفرزت عودة العديد من الوجوه السياسية المحسوبة على النظام القديم والمدعومة بنفود وأموال العديد من رجال الأعمال وموظفي الدولة الساميين الذين تعلقت بهم تتبعات قضائية وتدابير احترازية مُختلفة على غرار تحجير السفر عنهم أو تجميد أو مصادرة أموالهم.
ومن جهة ثانية، فقد تعالت بعض الأصوات وبرزت بعض المبادرات التي روَّجت لها العديد من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والإلكترونية الخاصة والمحسوبة ولو بشكل غير مباشر على رجال الأعمال المذكورين، ونادت بضرورة التعجيل بوجود حل لهم من أجل تحريرهم وتحرير أموالهم «لما فيه من جدوى إيجابية على الدورة الاقتصادية والمالية للبلاد». وبلغ الأمر ببعض الأصوات بالمطالبة الصريحة بتشريع عفو عام لفائدتهم، فكان أن أصدر رئيس الجمهورية أولى مبادراته التشريعية وفق ما يخوِّله له الدستور (وهي الوحيدة بعد قرابة السنوات الأربع من ولايته) والمتعلقة بـ«مشروع قانون المُصالحة الاقتصادية والمالية»، وكان بعد ذلك أن صادق مجلس الوزراء يوم 14 جويلية 2013، على ذلك المشروع وأحاله إلى مجلس نواب الشعب للتداول والمصادقة ولكن، في خضم كل ذلك، كان أيضًا للعديد من الفئات الشعبية متنوعة المشارب والانتماء والاهتمام، وللعديد من فعاليات وحساسيات وتنظيمات المجتمع المدني والسياسي أن نزلت للشارع في شكل تحركات مركزية وجهوية متعددة، يتقدمها ممثلات وممثلو حراك «ما نيش مسامح» رافعين لشعار مركزي لجميع تحركاتهم عنوانه «لا مُصالحه قبل المُحاسبة»، ومنددين بتلك المبادرة الرئاسية معتبرين إياها «عفوًا رئاسيًا» عن الفاسدين وتطبيعًا صريحًا مع ماضي الفساد وتبييضًا لمختلف مظاهره وممارساته، مستندين في كل ذلك إلى العديد من الدراسات والأطروحات القانونية والاقتصادية والدستورية التي صدرت عن العديد من المنظمات والخبراء والباحثين المجتمعيين حول اعتبارها مبادرة غير دستورية خارقة للقوانين الوضعية السارية وعديمة الجدوى المالية والاقتصادية، ومطالبين جميعهم في خضم كل ذلك إلى السحب الفوري لتلك المبادرة.

إلا أنه وبعد مرور قرابة السنتين من الزمن، جرت الرياح بما لا تشتهيه سُفن الرافضين لقانون المصالحة. فمع تصاعد وتيرة الضغوطات المسلطة على صاحب المبادرة التشريعية، وما رافقها من وضع اقتصادي واجتماعي مأزوم ومنذر بالانفجار، ومع اقتراب العديد من الاستحقاقات الانتخابية وعلى رأسها الانتخابات البلدية وما تتطلبه من اعتمادات مالية مهمة، عادت مبادرة رئيس الجمهورية لتطفو على السطح مجددًا، ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار العديد من الاحترازات وطلبات التنقيح المتمثلة أساسًا في:
- المبادرة أصبحت تشمل الموظفين العموميين وأشباههم على معنى المادة 82 والمادة 92 من القانون الجزائي، ولم تعُد تنسحب على رجال الأعمال وغيرهم.
- المبادرة أصبحت لا تشمل جرائم الرِشّْوة والاستيلاء على أموال عمومية، حتى وإن كان مرتكبوها موظفون عموميون أو شبههم.
الهيئة المُشرفة على تنفيذ أحكام هذه المبادرة لم تعد مختلطة وخاضعة إلى إشراف رئيسة الحكومة، وإنما أصبحت قضائية صرفة يُشرف عليها الرئيس الأول لمحكمة التعقيب ويُشارك في مداولاتها ممثل النيابة العمومية.
ورغم هذا التراجع الظاهر للسلطة التنفيذية في مضمون مبادرتها التي باتت تُسمى «مشروع قانون المُصالحة في المجال الإداري»، إلا أن ذلك لم يشفع لها عند معارضيها الذين واصلوا احتجاجاتهم المُختلفة ميدانيًا وإعلاميًا ولكن أيضًا قضائيًا أمام الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، خاصة بعد أن صادقت الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب على المشروع الجديد المرفوع إليها بواقع 115 صوتًا، فيما رفض أغلب النواب حضور عملية التصويت خلال جلسة 13 سبتمبر 2017.
وبالفعل، فقد توجَّه 38 نائبًا إلى تلك الهيئة التي أناط الدستور بعهدتها مراقبة دستورية مشاريع القوانين (ريثما يقع تركيز المحكمة الدستورية طبق الفصل 115 من الدستور). غير أن هذه الهيئة، وفي سابقة خطيرة من نوعها قررت صلب قرارها عدد 8/2017 بتاريخ 17 أكتوبر 2017، «إحالة مشروع القانون إلى رئيس الجمهورية وذلك لعدم حصول الأغلبية المطلقة لاتخاذ القرار في الغرض طبق ما يقتضيه القانون الأساسي عدد 14 لسنة 2014، المؤرخ في 18 أفريل/أبريل 2014» وأحيل بالتالي القانون على رئيس الجمهورية صاحب المبادرة بسنه!! لإمضائه يوم 24 أكتوبر 2017، وهو نفس اليوم الذي صدر فيه ونُشر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، وهو ما يدل بوضوح على التصميم الموصوف في جانب رئاسة الجمهورية من أجل حسم الجدل وتمرير القانون.
واليوم، وبعد مرور قُرابة السنة على دخول هذا القانون الأساسي حيز التنفيذ يحق لنا التساؤل حول مدى صدقية ما تضمنته وثيقة شرح الأسباب المرافقة له والتي جاء بها أن «هذا القانون يهدُف إلى القطع مع ماضي الفساد واستشراء مظاهر الاستيلاء على المال العام والمحسوبية وتخريب الإدارة»، كما يحق لنا التساؤل حول المردودية التطبيقية التي تتمثل حسب الفصل الأول منه في»تهيئة مناخ ملائم يُشجع خاصة على تحرير روح المبادرة في الإدارة وينهض بالاقتصاد الوطني ويُعزز الثقة في مؤسسات الدولة كل ذلك تحقيقًا للمُصالحة الوطنية». تمامًا مثلما يحق لنا التساؤل حول نجاعة هذا القانون على الصعيدين المالي والاقتصادي ومدى مساهمته في دفع عجلة الاقتصاد وتيسير دواليب الإدارة التونسية مثلما زعم مناصرو هذا القانون؟
وهي كلها أسئلة مشروعة أرى من الضروري على هذا الباحث التطرق إليها للإجابة على الإشكال المركزي التالي:
- هل ساهم قانون المُصالحة في المجال الإداري في فهم ظاهرة الفساد وكبح جماحها والتصدي لمختلف أشكالها أم أنه على عكس ذلك قد زاد في تفشِّيها وفي تحصين المسؤولين عنها من التتبع والعقاب؟
- هل كان قانون المُصالحة في المجال الإداري آلية من آليات القطع مع ماضي الفساد أم أنه مُطية لاستنساخ ذلك الماضي؟
وللإجابة منهجيًا عن جملة تلك التساؤلات والإشكالات، وبعيدًا عن منطق التشنج وإسقاط الأحكام المُسبقة، يجدر بنا استهلال هذا البحث باستعراض أهم المؤاخذات والمطاعن المُتعلقة باستحقاق مُكافحة الفساد )المبحث الأول) قبل التطرق، ولو بشكل سطحي، إلى أسباب دخول هذا القانون حيز التنفيذ رغم أهمية وحجم المعارضة التي شهدها) المبحث الثاني)، والتفرغ ختامًا إلى سبر نجاعة هذا القانون على مختلف المستويات )المبحث الثالث(
المبحث الأول: قانون المُصالحة في المجال الإداري: مؤاخذات بالجملة ومطاعن قضائية بالتفصيل
«أمر دُبِّر بليل» تلك هي العبارة التي وصف بها أحد النواب الرافضين للقانون في تعليقه على واقعة ختمه من طرف رئيس الجمهورية ودخوله حيز التنفيذ.
وفي واقع الأمر، لم يكن هذا التوصيف مبالغًا فيه ولا مجانبًا لواقع الأمور. فالمُتأمل في نسق حياة هذا القانون منذ أن كان مشروعًا يلاحظ انضوائه على مخالفات جوهرية للدستور. من ذلك ضربه عرض الحائط لمبدأ المساواة بين المواطنين، بأن خص هذا القانون ما يقدر بـ0.05 ٪ من الشعب التونسي بقانون يعفيهم من جرائم وقع ارتكابها من طرفهم ضد سائر المجموعة الوطنية، والحال أن 5.2 ٪ من الشعب التونسي البالغ سن الرشد هو محل تتبع جزائي، وفي بعض الأحيان الكثيرة في جرائم أقل خطورة بكثير من جرائم الاعتداء على المال العام. ومن ذلك أيضًا تجاهله لما ورد بتوطئة الدستور وبالفصل العاشر منه «بالتزام الدولة بحُسن التصرف في المال العمومي وباتخاذها التدابير اللازمة لصرفه حسب أولويات الاقتصاد الوطني والعمل على منع الفساد وكل ما من شأنه المس بالسيادة الوطنية»، ضرورة أن إقرار عدم المؤاخذة الجزائية والعفو على الموظفين العموميين وأشباههم لا يمكن إلا أن يتنزّل تحت خانة تبييض هؤلاء الموظفين، وهو ما يعني إخلال صريح في جانب الدولة بواجبها في التصدي للفساد ومكافحته.
وفي ذات السياق، تضمن القانون في فلسفته العامة وفي الإجراءات التي استحدثها ما يُمثل ضربًا صريحًا لقواعد الشفافية والنزاهة والمساءلة المنصوص عليها صلب الفصل 15 من الدستور الذي جاء به أن: «الإدارة العمومية في خدمة المواطن والصالح العام، تُنظم وتعمل وفق مبادئ الحياد والمساواة واستمرارية المرفق العام ووفق قواعد الشفافية والنزاهة والنجاعة والمساءلة»، ذلك أن العفو الذي متَّع به هذا القانون الموظفين العموميين الضالعين في ارتكاب جرائم استغلال النفوذ والوظيفة وعدم احترام التراتيب والإضرار بالإدارة من شأنه أن يُساهم في المحافظة على الممارسات غير القانونية التي كانت مُتفشِّية صُلب الإدارة التونسية في ظل النظام السابق، تمامًا مثلما من شأنه أن يُساهم في التستر على مآل الأموال العمومية المنهوبة وعلى طرق ووسائل نهبها.
إلى ذلك، وفضلًا عن هذه العيوب الدستورية الواضحة التي اعترت مختلف فصول قانون المصالحة الإدارية، فإن طريقة المُصادقة عليه من طرف المجلس النيابي كانت بدورها مُخالفة للدستور واعترتها شوائب دفعت بالبعض إلى حد الحديث عن «الفساد التشريعي» القائم على التلاعب بمفهوم النص القانوني الواضح، أو على تجاهله تمامًا، أو أيضًا على تحميله قراءة لا يحتملُها. من ذلك تعمد الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب تجاوز الشرط الدستوري الذي فرضه الفصل 114 من الدستور والفصل 42 من القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 المؤرخ في 28 أفريل 2016 والمُتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، والذي يقتضي واجب عرض مشاريع القوانين المتعلقة بتنظيم العدالة وإدارة القضاء على الجلسة العامة للمجلس الأعلى للقضاء، لإبداء رأيها في شأنها، وهو ما تعمد رئيس مجلس النواب تجاوزه لأسباب بقيت مُبهمة إلى حد الساعة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن هذا القانون كان أيضًا مخالفًا لروح ولصريح مقتضيات الاتفاقية الدولية لمُكافحه الفساد المؤرخة في 31 أكتوبر 2003، والمُصادق عليها من طرف الدولة التونسية بمقتضى القانون عدد 16 لسنة 2008 المؤرخ في 25 فيفري/ فبراير 2008، وكذلك بواسطة الأمر الرئاسي عدد 762 لسنة 2008 الصادر في 24 مارس 2008، علمًا بأن هذه الاتفاقية شأنها شأن كافة المعاهدات المُصادق عليها من طرف المجلس النيابي تحتل مرتبة أعلى من القوانين حسب صريح الفصل 20 من الدستور.
فالاتفاقية الدولية لمُكافحة الفساد تضمنت جملة من الالتزامات المحمولة على الدول الأطراف في مادة مُكافحة الفساد، ومنها خاصة ما تضمنته المادة 1 منها من واجب تدعيم التدابير الرامية إلى منع مُكافحة الفساد، وما تضمنته المادة 5 من واجب «سعي الدولة إلى إجراء تقييم دوري للصكوك القانونية والتدابير الإدارية بغيَّة تقرير مدى كفايتها لمنع الفساد ومكافحته» وواجب السعي إلى إرساء وترويج ممارسات فعالة تستهدف منع الفساد، فضلًا عن واجب سن التدابير التشريعية والإدارية المُجرمة لفعل تعمد موظف عمومي استغلال وظيفته أو موقعه بغرض الحصول على مزية غير مستحقة لصالحه أو لصالح شخص أو كيان آخر.
وتأسيسًا عليه، فمن البديهي اعتبار قانون المصالحة الإدارية غير دستوري وغير متطابق مع الاتفاقية الدولية لمكافحه الفساد، طالما أنه جاء لينزع الصِبغة الإجرامية عن أعمال فساد وليُحصِّن مُرتكبيها من المؤاخذة الجزائية.
وبالإضافة إلى هذين الصعيدين الدستوري والمعاهداتي، فإن قانون المصالحة الإدارية ينضوي أيضًا على خطورة قصوى من وجهة نظر تكريس الفساد وتبييضه عوض التصدي له ومكافحته على الصعيد القانوني، وخاصه من خلال ضربه الصريح لفلسفة ومقتضيات قانون العدالة الانتقالية الذي جاء مثلما سلف ذكره، لتصفية تركة ماضي الفساد والاستبداد، والقطع معه وضمان عدم تكراره توصلًا إلى مصالحة وطنية شاملة.
فعلى الرغم من تنصيص الفقرة 9 من الفصل 148 من الدستور على «التزام الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها»، وعلى الرغم من تشديد لجنة البندقية (اللجنة الأوروبية من أجل الديمُقراطية عبر القانون) بمناسبة التجاء «هيئة الحقيقة والكرامة» لها طلبًا لرأيها في مشروع قانون المُصالحة في المجال المالي والاقتصادي، صلب رأيها عدد 818/2015 الصادر عن الجلسة عدد 104 بتاريخ 27 أكتوبر 2013، على واجب ضمان تحقيق قانون المُصالحة للأهداف السامية لمنظومة العدالة الانتقالية (النقطة 36).
إلا أن القانون المذكور في صيغته الختامية قد تجاهل تمامًا ذلك التحصين الدستوري لمنظومة العدالة الانتقالية، تمامًا مثلما تجاهل ضابط السعي إلى تحقيق أهداف العدالة الانتقالية.
فالمنوال التونسي للعدالة الانتقالية يقوم على خمسة محطات متسلسلة ومترابطة بوثوق، وتتمثل في كشف حقيقة الانتهاكات، ثم المحاسبة والمساءلة، ثم جبر أضرار الضحايا ورد الاعتبار لهم، فإصلاح المؤسسات، وصولًا إلى المصالحة كتتويج لذلك المسار المتكامل.
ولكن وعلى نقيض ذلك تمامًا، فإن الإجراءات التي أقرها قانون المصالحة غضت الطرف تمامًا عن استحقاق كشف الحقيقة، ذلك أن ما يحمله القانون على طالب الانتفاع بأحكامه لا يتجاوز مجرد التصريح بجملة المبالغ المالية التي انتفع بها هو شخصيًا أو غيره، دون لزوم تفصيل سبل الانتفاع بها أو كيفية الحصول عليها.
كما لم يتضمن القانون ولو إشارة ضمنية إلى ضحايا الفساد من المواطنين ومن المؤسسات الخاصة وكذلك الجهات، ولم يُخصص لهم جميعًا أي آلية لجبر ضررهم ولرد الاعتبار لهم، وهو ما يؤكد على أن المنتفع بهذا القانون بصفة حصرية إنما هو المتهم بالفساد وليس الضحية، الأمر الذي يتعارض مع مختلف تجارب العدالة الانتقالية التي تُعتبر الضحية حجر زاويتها.
ومن ناحية ثالثة، وانطلاقًا مما صادق عليه الخبراء في مجال مُكافحة الفساد من اعتبار الفساد ظاهرة معقدة، ولا مناص من تفكيكها والتصدي لها دون فهمها وتحليل مختلف العوامل البشرية والإدارية والتشريعية المُساهمة في وجودها وفي ترعرعها وتفشيها، فإن هذا القانون يُعتبر تغطية لا فقط على ممارسات الفساد، وإنما أيضًا عائقًا حقيقيًا لفهم تلك الممارسات وتفكيكها وتخليص الإدارة العمومية منها ومن أسبابها. ويجوز لنا حينئذ الجزم بأنه قانون يضرب عرض الحائط الركن الأهم، في تقديرنا، من أركان العدالة الانتقالية التونسية المعناة رأسًا بمُكافحة الفساد والقطع مع ماضيه وضمان عدم تكراره، والمُتمثل في إصلاح المؤسسات. فلقد نص الفصل 14 من قانون العدالة الانتقالية على أن إصلاح المؤسسات «يهدف إلى تفكيك منظومة الفساد والقمع والاستبداد ومعالجتها بشكل يضمن عدم تكرار الانتهاكات واحترام حقوق الإنسان وإرساء دولة القانون. ويقتضي لإصلاح المؤسسات خاصة مراجعة التشريعات وغربلة مؤسسات الدولة ومرافقها ممن ثبتت مسؤولياتهم في الفساد والانتهاكات وتحديث مناهجها، وإعادة هيكلتها وتأهيل أعوانها»، وهو أمر يتعارض قطريًا مع ما جاء به قانون المُصالحة في المجال الإداري الذي عوض أن يفكك ورم الفساد الذي نخر مؤسسات الدولة وأجهزتها زاده جرعة إضافية شرعية لمزيد من التفشي، وعوض أن يفهم ميكانيزمات الفساد داخل المؤسسات توقيًا من مزيد تفشيه وتكراره تستر عليه وعلى مرتكبيه وشبكاتهم، وعوض أن يُغربل هذه الأجهزة والمؤسسات منهم كرَّمهم وحصَّنهم ضد جميع أشكال التتبع الجزائي والعقاب، وعوض أن يُطهِّر الترسانة التشريعية والترتيبية المُنظمة للإدارة العمومية من جميع القوانين المُشرعة للفساد سعى إلى تعزيزها بأحكام إضافية من شأنها أن تُزيد في تفشيه ومن شأنها أن تُعسر أكثر عملية مكافحته، تمامًا مثلما من شأنها أن تُفرغ منظومة العدالة الانتقالية في مادة مُكافحة الفساد من كل مضمون عملي وجدي، وأن تجعل من استحقاق القطع مع ماضي الفساد وضمان عدم تكراره مجرد شعار لم يُبارح بعد صفحات الدستور وفصول قانون العدالة الانتقالية إلى مستوى التطبيق والممارسة.
وهي كلها مؤاخذات ونواقص لم تخلْ منها دراسة واحدة تناولت موضوع قانون المصالحة، ولكنها، وعلى أهميتها وجديتها، لم تجد آذانًا صاغية في رحاب مجلس نواب الشعب ولم تنجح في إقناع نواب الأغلبية السياسية داخله بالتخلي عنه رغم المعارضة الشعبية الواسعة التي واجهها، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل حول الأسباب الحقيقية لمرور هذا القانون.
المبحث الثاني: أسباب مرور قانون المُصالحة رغم الإجماع على عجزه في معالجة ماضي الفساد
تتسم معظم فترات الانتقال الديمُقراطي التي تمر بها الشعوب بالهشاشة التي تنعكس سواء على آداء المؤسسات أو على آداء الفاعلين السياسيين، الأمر الذي يتطلب لتجاوزها وتفادي عودة منظومة الاستبداد السعي إلى إدارة الأمور وفق مبادئ الوفاق والوحدة والإجماع.
وهي شروط لم يقع مراعاتها تمامًا منذ انطلاق الجدل حول مشروع قانون المصالحة. ذلك أن صاحب المبادرة التشريعية المتعلقة به لم يُطلق أي حوار وطني هادف إلى قطع سليم مع ماضي الفساد والاستبداد وإلى تأسيس أسلم للدولة الديمُقراطية، ولم يجعل من مبادرته موضوع استشارة وطنية شاملة تستوعب جميع المتداخلين بما في ذلك مؤسسات الدولة وعلى رأسها «هيئة الحقيقة والكرامة» التي أناط الدستور بعهدتها إدارة منظومة العدالة الانتقالية.
وعلى أنقاض ذلك خيرت الجهة المبادرة تجاهل الانتقادات الموضوعية والاحتجاجات الشعبية الموجهة ضد مبادرته وتصدير الجدل القائم حولها إلى رحاب مجلس نواب الشعب والاحتكام إلى منطق الأغلبيات البرلمانية لاتخاذ القرار. وهي سياسة، ولئن كانت متطابقة تمامًا مع قيم الديمُقراطية وتطبيقاتها، إلا أنها لا تخدم الانتقال الديمُقراطي خصوصًا في الدول ذات التجارب الديمُقراطية الحديثة والمحدودة مثل تونس. و كان، تبعًا لذلك، و لأسباب سياسية ومصلحية صرفة، أن إنتصرت الأغلبية البرلمانية لمبادرة رئيس الجمهورية رغم يقينها بأنها تعرقل تنفيذ الإلتزام المحمول دستوريًا على الدولة بمُكافحة الفساد، ورغم قناعتها بأنه يستحسن أن تحوز هكذا مبادرات على الأغلبية المطلقة من أصوات نواب الشعب، لا أن يقع مقاطعة التصويت عليها من طرف عدد هام منهم رغم تباين إنتماءاتهم الحزبية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن قرار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين القاضي بإحالة هذا القانون المطعون في دستوريته إلى رئيس الجمهورية لإتخاذ ما يراه صالحًا في شأنه بسبب عدم حصول الأغلبية المطلقة من الأصوات بين أعضاء الهيئة، والذي يرتقي حسب بعض المتابعين إلى مرتبة العبث القضائي والتشريعي، وحسب البعض الآخر إلى جريمة إنكار العدالة، مثل ذلك القرار إختبارًا حقيقيًا لإستقلالية السلطة القضائية في تونس ومدى صمودها أمام مختلف أشكال التوظيف والتأثير السياسي.
وتبعًا لذلك، اتضح جليًا عقب إمضاء رئيس الجمهورية لقانون المصالحة رغم علمه بعدم صدوره عن إرادة برلمانية وشعبية مشتركة وجامعة، حاجة البلاد في مختلف أوجه حياتها إلى محكمة دستورية ساهرة على احترام الدستور وحُسن تطبيقه والتصدي لكافة أشكال التلاعب به أو القفز على أحكامه. واتضح جليًا أيضا أنه لا سبيل لمُكافحة الفساد في بلادنا والتصدي لكافة التشريعات والتراتيب المُكرسة له دون الإسراع باحترام الدستور وانتخاب أعضاء تلك المحكمة.
ولكن، في انتظار تحقق ذلك الرهان الذي مازال محكومًا بمنطق التجاذبات السياسية والمحاصصات الحزبية، يتجه الوقوف عند أهم النتائج التي أسفر عليها قانون المصالحة بعد قُرابة السنة من دخوله حيز التنفيذ.
المبحث الثاني: أسباب مرور قانون المُصالحة رغم الإجماع على عجزه في معالجة ماضي الفساد
1 - على المستوى القضائي
- صعوبات تطبيقية يواجها حكام التحقيق بالقطب المالي، خاصة في الملفات التي تشمل موظفين عمومين أو شبههم في نفس الوقت الذي تشمل فيه من لا تتوفر فيهم تلك الصفة.
- تباين القراءات القضائية للفصل 2 من قانون المُصالحة الذي يُحيل إلى الفصل 96 من القانون الجزائي، والذي لا يستهدف فقط الموظفين أو شبههم وإنما ينسحب على جميع من صدر عنهم فعل مُجرم مهما كانت صفته.
- تراكم طلبات الحصول على شهادات العفو أمام الوكلاء العامين لمحاكم الاستئناف، والصادرة عن غير الموظفين العموميين وشبههم مستندين في ذلك إلى مفهوم المشاركة على معنى الفصل 32 م.ج، والذي ينسحب عليه نفس الجزاء المقرر للفاعل الأصلي.
- تعدد الملفات المحفوظة لدى مكاتب التحقيق ومحاكم الحق العام قبل التوصل إلى حقيقة أفعال الفساد سند التتبع، وأحيانًا قبل التوصل بنتائج الاختبارات والأبحاث المُفضية لتلك الحقيقة.
2 - على المستوى المؤسساتي
- عودة عديدي الموظفين السابقين إلى وظائفهم مع تمتعهم بالامتيازات والترقيات التي حُرِموا منها إبان إحالتهم على القضاء.
- تنامي الشعور بالخيبة والإحباط في صفوف الموظفين ناوا بأنفسهم في العهد السابق عن التورط في أعمال فساد رغم حجم الإغراءات التي عُرضت عليهم أو حجم التهديدات التي استهدفتهم.
- تواصل احتلال الإدارة العمومية للمرتبة الأولى في قائمة أكثر مؤسسات الدولة تعرضًا للفساد قبل الأمن والإعلام والقضاء حسب مؤشرات منظمة الشفافية العالمية.
- الشلل شبه التام لعمل لجنة التحكيم والمُصالحة على مستوى هيئة الحقيقة والكرامة بسبب إحجام الضالعين في ارتكاب جرائم فساد في العهد السابق على مواصلة التعامل والتواصل معها، وبسبب رفض المكلف العام بنزاعات الدولة تمكينها من الملفات الإدارية الخاصة بهم.
3 - على المستوى الاقتصادي: انعدام الجدوى الاقتصادية
- تواصل عجز الدولة على استرجاع الأموال المنهوبة والمُهربة للخارج من طرف الرئيس السابق وعائلته والمقدرة بحوالي 22 مليار دينار.
- تراجع ملحوظ في نسب وحجم الاستثمارات الأجنبية بتونس.
- عدم توفر أرقام تُبين قيمة المبالغ المُتحصل عليها من المُتحصلين على شهادات العفو، رغم مرور قرابة السنة على دخول القانون حيز النفاذ، ورغم حديث مستشار رئيس الجمهورية سنة 2016، عن توقعات بتحقيق إيرادات تتراوح بين 500 و700 مليون.
5 - على المستوى السياسي
داخليًا
- عودة قوية لرموز النظام السابق إلى المشهد السياسي وإلى تقلُد المسؤوليات السامية.
- غزو المال السياسي الفاسد للحياة السياسية وحتى البرلمانية وتحوله إلى أهم عنصر مُحدد خلال مختلف الاستحقاقات الانتخابية.
- تحول ملف الفساد إلى ورقة سياسية بيد الحكومة وبعض الفاعلين السياسيين يحكمها منطق المُقايضة وتصفية الحسابات السياسية.
خارجيًا
- تواصل تراجع ترتيب الدولة التونسية في مجال مُكافحة الفساد حسب مؤشر النزاهة لمنظمة الشفافية الدولية.
- تواصل نفور المستثمرين الأجانب.
- اهتزاز مصداقية المسار الديمُقراطي التونسي أمام كبريات المنظمات الدولية ذات الاهتمام بالعدالة الانتقالية، وكذلك أمام لجنة البندقية.