أوراقإصداراتالدولتونسليبيامصرمنتدى دعم

مُكافحة الفساد وآثارُها على عملية التحوُّل الديمُقراطي في الوطن العربي

الفساد لُغةً: هو إساءة المعاملة، وأيّ شيءٍ ضدّ الصّلاح، فيُقال فَسَدَ الشيء، (يفسٌد) بضم السين (فسادًا) فهو (فاسِد)، و(فَسُدَ) بضم السين أيضًا فهو (فسِيد)، و(أفسده ففسد). والمفْسدة ضد المصْلحة، وفساد الشيء يعني التلف أو العطب وعدم صلاحيته. وهو أيضا البُطلان فيُقال فسد الشيء أي بطل واضمحل، ويأتي التعبير على معاني عِدة بحسب موقعه.

أمّا اصطلاحًا: فهو الاستخدام السّيئ من السُّلطة الرّسمية الممنوحة للموظفين العموميين أو المسؤلين الحكوميين، سواءً في مجال المال العام، أو النّفوذ، أو التّهاون في تطبيق القوانين والأنظمة، أي تعظيم المصلحة الشخصيّة على حساب المصلحة العامّة أو من أجل الإضرار بها. وبالطبع ليس هناك تعريف جامع مانع للفساد، وهناك العديد من التعريفات له فهو إساءة استعمال أو استغلال الوظيفة العامة من أجل المصلحة الخاصة، ويُمكن القول إنه سوء استعمال القوة العمومية للمنفعة الخاصة سواء عن طريق الرِشّْوة أو الابتزاز أو سلطة استغلال النفوذ، أو المحسوبية أو الغش أو تقديم إكراميات للتعجيل بالخدمات أو عن طريق الاختلاس.
وقد عرَّفهُ «البنك الدولي» بأنه «استغلال الوظيفة العامة للكسب الشخصي».

وكما أن الفساد مُتجذِّر بالأساس في القطاع الحكومى فإنه يتفشى أيضًا في القطاع الخاص، بل غالبًا ما يكون القطاع الخاص هو القناة لتوريط الموظفين الحكوميين أو المسئولين السياسيين والتنفيذيين في معظم حالات الفساد الحكومي التي تنطوي على إساءة استعمال المال العام أو إهداره أو التربح منه أو تسهيل العدوان عليه أو التماس خدمات للكسب الشخصي، أو إساءة استعمال السُلطة الرسمية أو النفوذ مقابل مال أو خدمات، أو إخلال بالمصلحة العامة لاكتساب امتيازات شخصية خاصة.

وللفساد صور عدة في كافة مناحى الحياة، فهو مُصلطلح ذو مفهوم مُركب له أبعاد متعددة تختلف باختلاف الزاوية التي يُنظَّر من خلالها إليه، وقد تركت اتفاقية الأمم المتحدة لمُكافحة الفساد، للدول إمكانية معالجة أشكال مختلفة منه قد تظهر مستقبلًا، وخاصة أن مصطلح الفساد فيه من المرونة ما يجعله قابلًا للتكيف بين مجتمع وآخر. لصعوبة هذا التعريف ولتشعُّب مظاهر الفساد وتغلغله في كافة مناحي الحياة اقتصرت الاتفاقية على تناول عدة صور منه مثل: [جرائم الرِشّْوة، المتاجرة بالنفوذ، اختلاس الموظف العمومي لأي أموال أو ممتلكات عُهد بها إليه بحُكم منصبه، إساءة استغلال الموظف العمومي لمهام منصبه، إثراء الموظف العمومي غير المشروع، الرِشّْوة في مجال القطاع الخاص، غسل العائدات الإجرامية ليصبح ذلك بمثابة تعريف واقعي للفساد].

فالفساد هو وباء ينهش مُقدرات الأمم، ومُستقبل الشعوب، وحقها في تنمية مستدامة وعادلة، فهو مُعوِّق لتقدم الدول في كافة الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية واللقتصادية.

لقد أيقن العالم مخاطر الفساد، ووقر في عقيدته بأنه آفة على اختلاف مظاهرها تُعد المُعوِّق الأكبر لكافة محاولات التقدم، والمُقوِّض الرئيسي لكافة دعائم التنمية، مما يجعل آثار الفساد ومخاطره أشد فتكًا وتأثيرًا من أي خلل آخر، فإنه لا يقتصر دوره المُخرب على بعض نواحي الحياة دون البعض الآخر، بل يمتد إلى شتى نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

فعلى الصعيد الاقتصادي يؤدي الفساد إلى:

  • إعاقة النمو الاقتصادي مما يُقوِّض كل مُستهدفات خطط التنمية طويلة وقصيرة الأجل.
  • إهدار موارد الدولة أو على أقل تقدير سوء استغلالها بما يعدم الفائدة المرجوه من الاستغلال الأمثل.
  • هروب الاستثمارات سواء الوطنية أو الأجنبية لغياب حوافزها.
  • الإخلال بالعدالة التوزيعية للدخول والموارد وإضعاف الفعالية الاقتصادية، وازدياد الهوة بين الفئات الغنية والفقيرة.
  • إضعاف الإيرادات العامة للدولة نتيجة التهرب من دفع الجمارك والضرائب والرسوم باستخدام الوسائل الاحتيالية والالتفاف على القوانين النافذة.
  • التأثير السلبي لسوء الإنفاق العام لموارد الدولة عن طريق إهدارها في المشاريع الكبرى بما يحرم قطاعات مهمة مثل الصحة والتعليم والخدمات من الاستفادة من هذه الموارد.
  • تدني كفاءة الاستثمارات العامة وإضعاف مستوى الجودة في البنية التحتية العامة بفعل الرشاوى التي تُدفع للتغاضي عن المواصفات القياسية المطلوبة.

وعلى الصعيد السياسي يؤدي الفساد إلى:

  • تشويه الدور المطلوب من الحكومة بشأن تنفيذ السياسة العامة للدولة وتحقيق مُستهدفات خطط التنمية.
  • انهيار وضياع هيبة دولة القانون والمؤسسات بما يعدم ثقة الأفراد فيها.
  • إضعاف كل جهود الإصلاح المعزِزَة للديمُقراطية بما يتزعزع معه الاستقرار السياسي.
  • إقصاء الشرفاء والأكفاء عن الوصول للمناصب القيادية بما يُزيد من حالة السخط بين الأفراد ونفورهم من التعاون مع مؤسسات الدولة.
  • إعاقة وتقويض كافة الجهود الرقابية على أعمال الحكومة والقطاع الخاص.

وعلى الصعيد الاجتماعي يؤدي الفساد إلى:

  • انهيار النسيج الاجتماعي وإشاعة روح الكراهية بين طبقات وفئات المجتمع نتيجة عدم العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.
  • التأثير المباشر وغير المباشر لتداعيات الفساد الاقتصادية والسياسية على استقرار الأوضاع الأمنية والسلم الاجتماعي.

ولا يوجد مجتمع خالي من الفساد بل يمكن الجزم بأنه ظاهرة عالمية، مما دفع الأمم المتحدة لإصدار اتفاقيتها لمُكافحة الفساد في أكتوبر 2003، وهو ما يُعد إقرارًا دوليًا بخطورة هذه الظاهرة، وبمدى انتشارها، وخطورة تأثيرها، للحد الذى دفع الأمم المتحدة للتحرك في سبيل التعاون الدولي بغية مكافحته، وقد سبق اتفاقية الأمم المتحدة وتلاها العديد من الاتفاقيات التي تسعى لذات الغرض، مثل:

  • اتفاقية البلدان الأمريكية لمُكافحة الفساد (عام 1996م).
  • اتفاقية مُكافحة رِشّوة الموظفين العموميين الأجانب في المعاملات التجارية الدولية (لعام 1997م).
  • اتفاقية القانون الجنائي الدولي بشأن الفساد (مجلس أوروبا عام 1999م).
  • اتفاقية الاتحاد الأفريقي لمنع الفساد ومحاربته (يوليو 2003م).
  • الاتفاقية العربية لمُكافحة الفساد (ديسمبر 2010).

ومن الجدير بالذكر أن اتفاقية الأمم المتحدة لمُكافحة الفساد، والتي نُشرت، وأُقرَّت في نهاية عام 2003م، ووقعت عليها 124 دولة من بينها 13 دولة عربية، كما صدقت عليها 25 دولة عربية منها: مصر (فبراير 2005)، الجزائر، الأردن، جيبوتي، تونس (فبراير 2008).

ورغم أن الفساد ظاهرة عالمية، ولا يوجد مجتمع يخلو منه إلا أن الفارق الجوهري بين كل هذه المجتمعات هو توافر الإرادة لمواجهته، وإدراك مخاطره، والرغبة الحقيقية في حصاره والحد من انتشاره، فهناك دول تسعى لهذه المواجهة، ودول أخرى تخلق بيئة خِصّبة لنمو الفساد وانتشاره حتى أضحى إحدى أدوات وركائز الحكم بها.

ومُكافحة الفساد يُقصد بها كافة العمليات والإجراءات والسياسات التشريعية والإدارية والأمنية والإجرائية والقضائية التي تتبناها الدولة للكشف عن الفساد، وجمع الأدلة، وتعقب المتورطين والتحقيق معهم، وتقديمهم للمحاكمة، وتنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم دون تسهيل إفلاتهم من العقاب، وحماية المال العام واسترداد ما تم الاستيلاء عليه منه.

والمُكافحة الحقيقية للفساد لا تنطلق بعد وقوع هذه الجرائم بل يسبقها دوما التحصين والوقاية، فـ«التحصين» يعني اتخاذ السُبل لجعل المجتمع والأفراد غير مُستعدين أصلًا لمقارفة الفعل المحظور، أما «الوقاية» فهي الحماية من الأذى، ومنع حدوث الجريمة قبل وقوعها، ولن يتحقق كلا الأمرين إلا بتوفير مرتكزات (المحاسبة، المساءلة، الشفافية، النزاهة).

فـ«المُحاسبة» تعني خضوع الكافة للقانون، وبخاصة الأشخاص الذين يتولون المناصب العامة مهما علت، وألا يُحصَّن أي منهم من هذه المحاسبة تحت أي زعم.

أما «المُساءلة» فهي تمكين كافة الأجهزة الرقابية سواء كانت قضائية أو تشريعية أو إدارية أو شعبية من إنفاذ القانون على كافة المسؤولين عن الوظائف العامة، وبخاصة من يشغلون قمة هذا الهرم سواء كانوا مُنتخبين أو مُعينين، حتى يتم التأكد من أن عمل هؤلاء يتفق مع القيم الديمُقراطية، ومع تعريف القانون لوظائفهم ومهامهم، وهو ما يُشكل أساسًا لاستمرار اكتسابهم للشرعية والدعم من الشعب.

و«الشفافية» تعني تهيئة وإنفاذ بيئة تشريعية تسمح من خلال الحق في المعرفة وحُرية تداول المعلومات تبيان ما تقوم به الأجهزة الحكومية، ووضوح علاقتها مع الموظفين (المنتفعين من الخدمة أو مموليها) وعلنية الإجراءات والغايات والأهداف، وهو ما ينطبق على أعمال الحكومة كما ينطبق على أعمال المؤسسات الأخرى غير الحكومية.

أما «النزاهة» فهي منظومة القيم المتعلقة بالصدق والأمانة والإخلاص والمهنية في العمل.

وبالرغم من التقارب بين مفهومي الشفافية والنزاهة إلا أن الثاني يتصل بقيم أخلاقية معنوية، بينما يتصل الأول بنظُم وإجراءات عملية. وكلا الأمرين يحتاج لبيئة مؤسسية تساعد على توافرهما.

وتكمن إحدى أهم إشكاليات مُكافحة الفساد في كيفية تحقيق الموازنة بين الحقوق الفردية من ناحية والمصلحة العامة للمجتمع من ناحية أخرى، وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في ظل مجتمع دولي مفتوح تُهيمن عليه العولمة واقتصاديات السوق الحر والشركات متعددة الجنسيات، والعابرة للدول، فكما يوجد الفساد المحلي يوجد الفساد العابر للدول، وكما توجد جرائم الفساد العشوائية والمحدودة، توجد أيضًا جرائم الفساد المنظمة والعابرة للحدود والتي قد تُهدد اقتصاديات دول ومصائر شعوب.

والفساد لا يتوقف أثره على بعض الجوانب الاقتصادية فقط، ولكن خطورته تُهدد أيضًا استقرار المجتمعات، وأمنها، مما يقوِّض مؤسسات الديمُقراطية والقيم الأخلاقية والعدالة، ويُعرِّض التنمية وسيادة القانون للخطر، ويُعوِّق كل مسارات التحول الديمُقراطي التي تسعى إليه الشعوب.

ولعل بلادنا العربية هي خير شاهد على ذلك، فعالمنا العربى يمتلك ثروات هائلة، ولكنه أقل الدول نموًا اقتصاديًا، وهو أكبر مستورد للسلاح في العالم، وقوى الاستعمار تُسيطر على أجزاء من أرضه، وتستنزف ثرواته، وتتحكم في قرارته المصيرية، ويقتتل وطننا العربي مع نفسه دون أن يواجه عدوه، فالجرائم ضد الإنسانية والمجاعة تُحاصر اليمن، والشعب السوري يُعاني واحدة من أقبح موجات اللجوء التي شهدها العالم، والسودان تم تقسيمه لدولتين، والعراق وليبيا مهددين بنفس هذا الشبح، والإرهاب والقمع والفقر يطحن الشعب المصري بين شقي الرحى، ولبنان على فوهة بركان، والسعودية والإمارات وقطر يستنزفوا مقدراتهم في صراعهم من أجل الهيمنة على النفوذ والمصالح في العالم العربي، ويتنافسوا مع سلطنة عمان بغية الهرولة نحو التطبيع العلني مع إسرائيل، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تسحق بلا رحمة شعوب الأردن وتونس والمغرب وموريتانيا والجزائر والصومال وجيبوتي.

لم يكن كل هذا وليد الصُدفة لكنه في حقيقته انعكاس لمنظومة الفساد الحاكمة لوطننا العربي، حيث يتعامل العديد من الحكام مع ثروات البلاد باعتبارها غنيمة لهم ولشلتهم الحاكمة.
يرى بعض الباحثين، أن للفساد أسباب تتراوح ما بين الأسباب الشخصية والأسباب العامة الداخلية وأسباب أخري خارجية.

وعلى الصعيد الاجتماعي يؤدي الفساد إلى:

  • سَطوة رأس المال في ظل العولمة وسياسات السوق.
  • انتشار الفقر والظروف الاجتماعية والاقتصادية السيئة والتي تؤدي إلى شُح المصادر اللازمة لخلق فرص عمل، ولأداء الخدمات العامة الموكلة إلى الدولة الأمر الذي يؤدي إلى زيادة التنافس على فرص العمل والخدمات المحدودة فضلًا عن لجوء البعض إلى الوساطة للفوز بفرص العمل أو الخدمات المتاحة.
  • بل إن هذه الظروف الاجتماعية والاقتصادية الخانقة تؤدي في بعض الأحيان إلى قيام البعض في الاتجار بالنفوذ أو استغلال الوظيفة العامة في تقديم هذه الخدمات بمقابل مادي كبير.
  • تدني رواتب العاملين في القطاع العام والحكومي هو من الأسباب التي تؤدي إلى الفساد، واتفق كثيرٌ من الباحثين على ذلك فحيث تتدني الرواتب نجد أن هناك ارتفاعًا متواصلًا في الأسعار وتكاليف المعيشة، مما يُشكل بيئة مواتية لقيام بعض العاملين الحكوميين بالبحث عن مصادر مالية أخرى، ومن بين هذه المصادر بلا شك الرِشّْوة وهي إحدى جرائم ظاهرة الفساد.
  • انتشار الجهل ونقص المعرفة بالحقوق الفردية وسيادة القيم التقليدية والروابط القائمة على النسب والقرابة وتحقيق المنفعة من خلالها.
  • عدم الالتزام بمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث في الدولة، وتغوُّل السلطة التنفيذية وفقًا لأحكام الدستور على كل من السلطتين التشريعية والقضائية الأمر الذي يؤدي إلى الإخلال بمبدأ الرقابة المتبادلة بين السلطات.
  • ضعف دور مؤسسات المجتمع المدني وهامشية هذا الدور ومحدوديته في الرقابة على الآداء الحكومي وعدم تمتعها بعضها بالحيادية في أداء عملها، أو سعى السلطة لإفقداها استقلاليتها.
  • هناك أسباب خارجية للفساد وهي التي تَنتُج عن وجود مصالح وعلاقات تجارية مع الشركاء أو منتجين من دول أخرى واستخدام وسائل غير قانونية من قِبَل الشركات للحصول على امتيازات واحتكارات داخل الدولة أو القيام عبر هذه الشبكة من المصالح والعلاقات بتصريف البضائع الفاسدة.
  • المؤسسات الاقتصادية الدولية والإقليمية التي تفرض على الشعوب منوالًا للتنمية يستنزف ثرواتها ويُعمق من دوائر الفقر والظلم الاجتماعي، فحصيلة خصخصة شركات القطاع العام التي طُبقت في مصر منذ 1996 حتى 2015 بلغت 28 مليار جنيه فقط، في حين أن حُكم التحكيم الذي صدر ضد مصر لامتناعها عن تصدير حصة غاز بلغت 2 مليار دولار أي ما يعادل 36 مليار جنيه مصري.
  • اتفاقيات التجارة الدولية والثُنائية المُجحِفة والتي تفرض التحكيم التجاري الدولي نظامًا لحل منازعات الاستثمار، وهو ما يُهدر سيادة الدول، ويُسهِّل من صدور الأحكام الباهظة ضد الدول النامية.

فالفساد مُعوِّق أساسي أيضًا للتنمية الاقتصادية لأنه يُزيد كُلفة المشاريع والصفقات ويحِدْ من دوافع الاستثمار، كما يحِدْ من دخل الدولة في التحصيل الضريبي، ويُمكِّن مقدمي الخدمة ومنفذي المشاريع من تجاهل معايير الجودة والمهنية بما يُضر بالدول واقتصادياتها، ويُسهل إجراء معاملات وعقود غير مبررة اقتصاديًا، كأن تتم بتكلفة مغالى فيها، أو دون مناقصات أو تنافسية حقيقية أو من خلال تنافسية صورية فتذهب المشاريع والأراضي ليس لمن يُقدم خدمة أفضل بتكلفة أقل ولكن لمن يدفع رشاوى وعمولات أفضل لمتخذي القرار.

إن السبب الرئيسي في انتشار الفساد بعالمنا العربي هو غياب حُكم القانون وغياب ثقافته سواء على الصعيد الشعبي أو الرسمي، فالعلاقة بين حُكم القانون والفساد علاقة عكسية، فكلما كان القانون أداة عادلة وموضوعية في تنظيم العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الحاكم والمحكوم، وطُبِّق على الكافة دون تمييز أو تحيز كلما تم حصار الفساد والحد منه، والعكس صحيح.
لذلك فالصراع بين حُكم القانون والفساد صراع أبدي وحاسم في حياة كل منهما، لكونه صراع وجود بينهما، فحُكم القانون وسيادته يخلق بيئة مواتية لمحاربة الفساد والحد منه، أما الفساد فيمتنع عن تبني تشريعات تحد من انتشاره ويعمل على إضعاف المؤسسات والسيطرة عليها لخدمة مصالحه وأهدافه.

وغنى عن البيان أن الفساد يحُول دون بناء النُظم الديمُقراطية، فحُرية تداول المعلومات والشفافية والنزاهة والمساءلة، واستقلال الجهات الرقابية والقضائية من أهم مرتكزات النظم الديمُقراطية وهي ذاتها مرتكزات لا غنى عنها في محاربة الفساد أو مواجهته.

فالنظر لمؤشر منظمة الشفافية العالمية يرصد ويوثِّق لعلاقة الدول بين الشفافية وقلة الفساد في أغلب الدول الديمُقراطية، والعكس صحيح مع أنظمة الحُكم الشمولية والمستبدة التي ينتشر فيها الفساد.

والمراقب للعالم العربي وأنظمة الحكم فيه يرى هوة بين الحاكم والمحكوم لا تنفك تزيد عمقًا واتساعًا. فمن الصعب أن نجد في دولة عربية حاكمًا يمثّل طُموحات ومصالح شعبه، ويستمد شرعية حُكمه من إرادة شعبية تجلّت من خلال مؤسسات دستورية تتوافر فيها ضمانات الحرية والنزاهة. كما يرى المراقب فوضى أمنية ودمارًا في العديد من الأقطار العربية هي نتيجة تخبط سياسي وغياب لمقوّمات ومؤسسات الدولة التي تضمن أمن الوطن، وتخلق وتُسهّل ظروف نموه وتطوره. ويُلاحظ أن مفهوم الحرية لم يتخذ له جذور، وأن العقل العلمي والثقة بقدرة الإنسان، ليس فقط على فهم مجتمعه وإنما على تطويره، قد تراجعا عما كانا عليه منذ عقود. ويلاحظ المراقب بدقة عالمًا تتوافر فيه إمكانيات اقتصادية هائلة ولكنه من أقل الدول نموًا اقتصاديًا.

إن هذا المشهد العربي للتخبط السياسي، والفوضى الأمنية، والتخلف العلمي، والركود الاقتصادي، لا يمكن أن يُشكل مناخًا للتطور والنمو، وهو انعكاس لمعوقات كثيرة أبرزها هو الفساد.

إن التطور سواء كان اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو سياسيًا يقترن تاريخيًا بتطور مفهوم الحُرية ووعي الإنسان لقدراته العقلية على فهم مجتمعه والعمل على تطويره لما فيه مصلحته. ويقيني أن أي تطور يمكن توقعه في العالم العربي لن يكون سوى انعكاس لتطور في مفهوم الحُرية المنبثقة عن ثقة بالنفس والقدرات العقلية للإنسان العربي ورغبة في مواكبة عصره في مجالات الحياة كافة.

فالديمُقراطية هي جملةٌ من الآليات والوسائل التي تُمكِّن الناس من التعبير عن إراداتهم والمشاركة في الشأن العام. كما أنها من جهة أخرى، ثقافة يكتسبها المواطنون بالممارسة ومراكمة الخبرات والتجارب. ولأن الديمُقراطية تنطوي، بطبيعتها، على البعدين المادي والمعنوي أو الرمزي، فهي تتطلب ردَحًا طويلًا من الزمن لتوافُر التربةَ القادرة على احتضانها، ورعاية تطورها واستمرارها، قبل أن تُصبح قيمةً مشتركةً بين الناس، بغض النظر عن لونهم، أو جنسهم، أو معتقداتهم، أو خلفياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

إلا أن التجارب الواقعية للديمُقراطية مع ما تحتويه من ثقافة يكتسبها أفراد المجتمع من خلال الممارسة وتراكم التجارب والخبرات، وانطلاقًا من القراءات النقدية الكثيرة للمؤشرات العالمية لقياس الديمُقراطية، ومن الترابط القائم بين البعد المعرفي والفهم والتطبيق الديمُقراطي، تؤكد بأن مسألة قياس الديمُقراطية بمفهومها الشامل وأبعادها ومؤشراتها الكمية والنوعية هي جدٌ معقدة وتتغير وفقًا لظروف البلدان المختلفة، كما أنه لا يمكن فصل نماذج التطبيقات الديمُقراطية عن الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية لأي مجتمع التي تتحكم بشكل أساسي في تركيب المؤشرات الديمُقراطية وتقييماتها لهذا المجتمع في أي بلد من البلدان.

إن التخلص من شبكات الفساد يحتاج إلى رؤية متكاملة تهدف لتفكيك مرتكزاته سواء من الناحية التشريعية أو المالية والإدارية أو من الناحية الثقافية. ووجود ديمُقراطية حقيقية تسمح بالرقابة المباشرة على الأجهزة المحلية بدءًا من أصغر موظف في المحليات وحتى المحافظ سيمنع تفشي جرائم الفساد في أجهزة الحكم المحلي بشكل خاص وأجهزة الدولة بشكل عام. كما أن التداول السلمي للسلطة لن يسمح لأي طرف بإبقاء جرائم الفساد مخفية، لأنه سيكون اليوم في الحكم وغدًا خصمه مكانه.

إن أي استراتيجية لمحاربة الفساد تتطلب استخدام وسائل شاملة تدعمها الإرادة الحقيقة للدولة في مكافحته، ومنها على النحو التالي:

  • تبني نظام ديمُقراطي يقوم على الديمُقراطية، وحقوق المواطنة، واحترام الدستور، ومبدأ الفصل المرن بين السلطات، وسيادة القانون، واستقلال القضاء، وخضوع الجميع للقانون واحترامه، والمساواة أمامه، وتنفيذ أحكامه من جميع الأطراف، نظام يقوم على المحاسبة الشفافية والمساءلة والنزاهة.
  • بناء جهاز قضائي مُستقل وقوي ونزيه، وتحريره من كل المؤثرات التي يمكن أن تُضعف عمله، والالتزام من قِبَل السلطة التنفيذية على احترام أحكامه.
  • تفعيل القوانين المتعلقة بمُكافحة الفساد على جميع المستويات، كقانون الإفصاح عن الذمم المالية لذوي المناصب العليا، وقانون الكسب غير المشروع، وقانون حرية الوصول إلى المعلومات، وتشديد الأحكام المتعلقة بمُكافحة الرِشّْوة والمحسوبية واستغلال الوظيفة العامة في قانون العقوبات.
    تطوير دور الرقابة والمساءلة للهيئات التشريعية من خلال الأدوات البرلمانية المختلفة في هذا المجال مثل الأسئلة الموجهة للوزراء وطرح المواضيع للنقاش العلني، وإجراءات التحقيق والاستجواب وطرح الثقة بالحكومات.
  • تعزيز دور هيئات الرقابة العامة كمراقب الدولة أو دواوين الرقابة المالية والإدارية أو دواوين المظالم، التي تتابع حالات سوء الإدارة في مؤسسات الدولة والتعسف في استخدام السلطة، وعدم الالتزام المالي والإداري، وغياب الشفافية في الإجراءات المتعلقة بممارسة الوظيفة العامة.
  • التركيز على البُعد الأخلاقي وبناء الإنسان في محاربة الفساد في قطاعات العمل العام والخاص، وذلك من خلال التركيز على دعوة كل الأديان إلى محاربة الفساد بأشكاله المختلفة، وكذلك من خلال قوانين الخدمة المدنية أو الأنظمة والمواثيق المتعلقة بشرف ممارسة الوظيفة [مدونات السلوك].
  • إعطاء الحرية للصحافة، وتمكينها من الوصول إلى المعلومات، ومنح الحصانة للصحفيين للقيام بدورهم في نشر المعلومات وعمل التحقيقات التي تكشف عن قضايا الفساد ومرتكبيها.
  • تنمية الدور الجماهيري في مُكافحة الفساد من خلال برامج التوعية بهذه الآفة ومخاطرها وتكلفتها الباهظة على الوطن والمواطن، وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني والجامعات والمعاهد التعليمية والمثقفين في محاربة الفساد والقيام بدور التوعية القطاعية والجماهيرية.
  • وقف العمل بكافة سياسات وتشريعات الإفلات من العقاب.
  • مراجعة كافة اتفاقيات التجارة الدولية، وتبني نماذج جديدة من اتفاقيات تُعيد التوازن بين جذب الاستثمارات وحماية حقوق الدول النامية وسيادتها على مواردها.
  • وقف العمل بقوانين الطوارئ وكافة النظم الاستثنائية أو العسكرية.
  • التعامل مع الفساد باعتباره انتهاك لحقوق الإنسان سوف يفتح آفاقًا جديدة لمكافحته والحد منه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *