إصداراتالدولدورياتليبيامنتدى دعم

دورية دعم 5: العدالة الانتقالية في تونس وليبيا .. نتائج المسارات الحالية ودورها في ارساء مصالحة وطنية وضمانات عدم التكرار

العدالة الانتقالية في مهب الثورات المُضادة: مساراتٌ مُجهضة وأخرى لم تكتمل بعدُ!

(عيش حُرية كرامة إنسانية).. (عيش حُرية عدالة اجتماعية).. (الشعب يُريد إسقاط النظام)، هكذا تم استقبال شتاء عام 2010 من قبل بعض شعوب المنطقة العربية، فيما أطلق عليه بعد ذلك الربيع العربي، في كل من تونس، مصر، ليبيا، البحرين، اليمن وسوريا. اختلفت المسارات بعد ذلك وفشل بعضُها كثورة البحرين المغدورة والمنسية، أو انحرفت عن مسارها وذهبت في اتجاه العنف والنزاع الأهلي المُسلح مع تدعيم تدخلات إقليمية ودولية لمختلف أطراف الصراع كليبيا، اليمن، وسوريا. أو وأدت بعد نجاح الثورة المضادة كما في مصر، والتي دخلت نفقًا مظلمًا من انتهاكات حقوق الإنسان تحت حُكم عسكري وبدعم خليجي وتواطئ دولي.

في نفس الوقت الذي تعلو فيه الأصوات الشعبوية ذات النزعة القومية الراديكالية وتحقق نجاحات انتخابية وصارت حاكمة في أهم بقاع وبلدان العالم متجاهلة في سياساتها الخارجية مبادئها وقيمها التي تؤسس عليها علاقتها الدولية، جاء نجاح تلك التيارات بعد أن سئمت شعوبهم من الإدارات السياسية السابقة نظرًا لتدخلاتها الخاطئة وغير المدروسة جيدًا بما أدى لفشل إدارة ملف الربيع العربي كما حدث في ليبيا، اليمن، وسوريا، وبكل تأكيد مصر.

سهام بن سدرين - رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة

ظلت تونس زهرة وحيدة في قلب الربيع صامدة بالرغم من التغيرات والتقلبات السياسية إلا أنها بقيت صامدة في التمسك ببعض أهم مبادئ ثورة الياسمين من حُريات مدنية وسياسية إلا أنها مازالت لم تحقق نجاحات واضحة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كذلك لم تقم بسياسات إصلاح وإعادة هيكلة لأهم قطاعات الدولة التي هي بحاجة لذلك كالأمن والقضاء. ولأنها الزهرة الوحيدة الباقية فبالتالي هي الدولة الوحيدة في دول الربيع العربي التي أقرت ودسترت مسارًا واضحًا للعدالة الانتقالية كان ومازال من الممكن أن يكون تجربة رائدة في الوطن العربي يقتدي بها الجميع لولا سقطات، هيئة الحقيقة والكرامة، وبعض السياسيين وأحزابهم والتي سمحت بتعطيل المسار وضربه بقوانين لم يُحسم في مدى دستوريتها بعد، وذلك نتيجة غياب المحكمة الدستورية وعدم قدرة محكمة القضاء الإداري على التصدي لتلك الرغبات الجامحة لهيئة الحقيقة والكرامة والسياسيين وأحزابهم.

بدأ مسار العدالة الانتقالية بإرادة سياسية قوية وتم دعمها من خلال الهيئة العُليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، في 18 فيفري/فبراير 2011 صدر المرسوم عدد 7 والمرسوم عدد 8 والمتعلقان بإنشاء لجنتين الأولي لجنة وطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد والتي يمتد عملها خلال فترة ما بين 7 نوفمبر 1987 وحتى 14 يناير 201، والثانية هي اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق في التجاوزات المُسجلة خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمبر 2010 إلى حين زوال موجبها. وفي اليوم الثاني أصدرت الحكومة المؤقتة الأولى بقيادة محمد الغنوشي المرسوم عدد 1 لسنة 2011 بتاريخ 19 فبراير 2011 يتعلق بالعفو العام، وتم إطلاق المساجين السياسيين من خلال هذا المرسوم المؤقت والذي جاء من وحي قانون تبناه بن علي عام 1988 للإفراج عن المساجين السياسيين وخصوصًا الإسلاميين من عهد بورقيبة، وعلى أرض الواقع معظم المستفيدين من هذا المرسوم هم منتمون إلى حركات الإسلام السياسي.

في أواخر 2011 بدأت في تونس المحاكمات المُتعلقة بعمليات القتل خلال أحداث الثورة أمام محاكم عسكرية. وتتمتع هذه المحاكم بصلاحية النظر في الجرائم التي يرتكبها العسكريون وعناصر قوات الأمن، وقد شرعت ثلاث محاكم ابتدائية عسكرية في التحقيقات، وقامت بتجميع القضايا جغرافيًا. ومن ثم المحاكمات الجماعية في محكمة تونس ومحكمة الكاف

في أواخر 2011 بدأت في تونس المحاكمات المُتعلقة بعمليات القتل خلال أحداث الثورة أمام محاكم عسكرية. وتتمتع هذه المحاكم بصلاحية النظر في الجرائم التي يرتكبها العسكريون وعناصر قوات الأمن، وقد شرعت ثلاث محاكم ابتدائية عسكرية في التحقيقات، وقامت بتجميع القضايا جغرافيًا. ومن ثم المحاكمات الجماعية في محكمة تونس ومحكمة الكاف. ومن بين المتهمين الرئيس الأسبق بن علي، ورئيس الحرس الرئاسي الأسبق، ووزيرا الداخلية السابقان، وخمسة مديرين عامين في الوزارة، وعدة قادة أمنيين من ذوي الرتب العليا والمتوسطة. وأصدرت المحكمة الابتدائية بالكاف أحكامها في 13 يونيو / جويلية 2012، ومحكمة تونس في 19 يوليو / جويلية 2012.

وفي 12 أفريل/أبريل 2014، ثبتت محكمة الاستئناف العسكرية الحكم الصادر عن المحاكم الابتدائية في الكاف وتونس والقاضي غيابيًا بسجن بن علي مدى الحياة بتهمة المشاركة في القتل. ولكنها خففت الأحكام الصادرة في حق المسؤولين السامين الآخرين على إثر إعادة التكييف القانوني للفعل من القتل العمد إلى العنف الشديد الناجم عنه الموت، وهو ما جعل الأحكام حسب المجلة الجزائية لا تتجاوز الـ3 سنوات سجنًا. نجم عن هاته الأحكام خروج المتهمين مباشرة من السجن بما أنهم قضوا الـ3 سنوات من إثر الثورة ليوم التصريح بالحكم.

هذه المستجدات كانت قد دفعت بهيئة الدفاع عن شهداء وجرحى الثورة و “التنسيقية الوطنية للعدالة الانتقالية” والتي كانت تُمثِّل الجسم الديمقراطي خلال الحوار الوطني لقانون العدالة الانتقالية، إلى الحشد والتعبئة والمُطالبة بإعادة المحاكمات من خلال داوئر متخصصة في قضايا شهداء وجرحى الثورة، وهو، على عكس ما يدَّعيه بعض الخبراء الدوليين المتابعين للمسار التونسي للعدالة الانتقالية، بأنه لو فشل مسار العدالة الانتقالية فإن الفشل تتحمله المجموعة الديمقراطية، وهي وجهة نظر بعيدة كل البعد عن الواقع الحقيقي للمسار التونسي. وذلك بالرغم من إحساس الجناح الديمقراطي بتفضيل ضحايا التيار الإسلامي عن ضحاياهم، وحالة الضيق التي انتابتهم من طريقة إقرار والتصديق على قانون العدالة الانتقالية وبعض التعديلات الخاصة بالمحاسبة والإجراءات المتعلقة بتركيبة هيئة الحقيقة والكرامة، وهي كلها انتقادات في موضعها وثبتت صحتها فيما بعد.

فقد صدر في 16 ديسمبر القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 يتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية وهو كان بمثابة الدستور المؤقت لتونس والذي نص في الفصل 24 على التزام المجلس بسن قانون أساسي للعدالة الانتقالية، وتم استحداث وزارة لحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية والتي بدورها قررت في 14 أبريل 2012 إطلاق عملية تشاورية وطنية حول العدالة الانتقالية بهدف التوصُّل إلى رؤية مُشتركة وتمت صياغة المُسودة الأولى من القانون وتقديمها إلى وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية أواخر شهر أكتوبر 2012 ، والذي تم تعديله من قبل الحكومة وسلمته للمجلس التأسيسي للمناقشة بتاريخ 22 جانفي/يناير 2013، وبقي أسير المجلس والمشاكل السياسية في البلاد إلى أن تم إدراجه في المناقشة للجنة التشريع العام، والتي استمعت إلى اللجنة الفنية المُشرفة على الحوار الوطني، وممثلين للمجتمع المدني، وخبراء دوليين، وأنهت تقريرها في 23 أوت/أغسطس 2013. وتعطل داخل مكتب رئاسة المجلس التأسيسي لتحديد موعد جلسة للنقاش، وذلك بسبب الأزمة السياسية الحادة التي كانت تشهدها البلاد ودخول السياسيين في الحوار الوطني، وقد أخذ علي الرباعي الراعي للحوار عدم وضع قانون العدالة الانتقالية على أولويات الحوار بالرغم من أنه قانون أساسي والمجلس التأسيسي مُلزم بسنَّه حسب القانون المُنظم للسلط العمومية.

وبعد صدور الكتاب الأسود للصحفيين وبعد حشد من قبل مُنظمات المجتمع المدني المحسوبة على الإسلاميين (الشبكة التونسية للعدالة الانتقالية) قام مصطفى بن جعفر بتمرير القانون إلى الجلسة العامة للمناقشة لتتم مناقشته في 3 أيام ، وفي 24 ديسمبر 2013 تم نشره في الجريدة الرسمية (الرائد الرسمي) القانون الأساسي المُتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها والذي تم تبنيه والمصادقة عليه داخل المجلس التأسيسي في الساعات الأولى من صباح يوم الأحد 15 ديسمبر 2013 بحضور 126 عضوًا فقط منهم 76 تابعين لحركة النهضة و15 عضوًا تابعين لباقي تحالف الترويكا (المؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل) وبحضور 6 أعضاء فقط للجناح الديمقراطي، والذين صوتوا جميعًا بنعم مع تحفظ لعضو واحد من حركة النهضة. ويُعتبر القانون في أغلبه نتيجة لعمل لجنة فنية أنشأتها وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية. وكان معظم أعضائها ممثلين للمجتمع المدني، إلا أن القانون الذي تم المصادقة عليه تم تعديله مرتين: مرة من قِبَل حكومة الترويكا والثانية من قِبَل المجلس التأسيسي بأغلبية الترويكا وقيادة النهضة.

بموجب هذا القانون إنشاء هيئة الحقيقة والكرامة التي تتكون من 15 عضوًا سيعملون لمدة أربع سنوات، مع إمكانية التمديد لهم بسنة واحدة. وأوكلت للهيئة مهمة تحديد مسؤوليات أجهزة الدولة أو أي أطراف أخرى في الانتهاكات الحاصلة بين 1 جويلية/يوليو 1955 و 24 ديسمبر 2014، تاريخ إدراجه بالرائد الرسمي.

تمتعت الهيئة بسلطات واسعة، هذا وقد اعترضت التنسيقية الوطنية للعدالة الانتقالية وتحسب على التيار المدني وجمعية عدالة ورد الاعتبار المحسوبة على التيار الإسلامي على بعض أسماء المرشحين لعضوية الهيئة، وكذلك على عدم جواز الطعن على نتائج لجنة الفرز، الأمر الذي وصل حد التوجه إلى المحكمة الإدارية في إطار ممارسة حق التقاضي وقدما مطلبًا في تأجيل وإيقاف تنفيذ المقرر الإداري المؤرخ في مايو 2014 والمُتعلق بإحالة المترشحين الذين وقع اختيارهم لعضوية هيئة الحقيقة والكرامة على الجلسة العامة للمجلس التأسيسي. وقد رفضت المحكمة الطلبين المقدمين معللة ذلك بأن إرادة المُشَّرع كانت واضحة وصريحة في اتجاه تحصين قرارات اللجنة الخاصة بفرز ملفات الترشح لعضوية هيئة الحقيقة والكرامة بخصوص الاعتراضات على المترشحين من الطعن بأي وجه من الوجوه ولو بدعوى تجاوز السلطة.

بات كل من انتقد آداء الهيئة بالسلب في أي من مراحل عملها يتلقى سيلًا من الاتهامات الملفقة من رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة بأنه ثورة مضادة بل وذهبت لأكثر من ذلك واتهامهم بأنهم ساهموا في تمرير قانون المصالحة الإدارية متجاهلة بذلك مواقف تلك الجمعيات ومساهمتها وموقفها الرافض وبشدة لذلك القانون ومشاركتها في كافة الائتلافات والتحركات التي كانت بغرض وقف عملية التصويت على هذا القانون في المجلس التشريعي

وفي 17 يونيو 2014 اجتمعت الهيئة بكامل أعضائها الـ15 وقد تم انتخاب السيدة سهام بن سدرين رئيسة للجنة والتي كانت قد اعترضت عليها التنسيقية الوطنية للعدالة الانتقالية، واستقال في نفس اليوم أحد أعضاء اللجنة خميس الشماري والذي كان مرشحًا هو الآخر لرئاسة اللجنة. بعد أن واجه اعتراضًا على ترشيحه هو الآخر من قِبَل جمعية عدالة ورد الاعتبار. ونتج عن رئاسة بن سدرين للهيئة ردود فعل متناقضة فالإسلاميون اعتبروه انتصارًا، في حين اعتبره جزء كبير من المحسوبين على التيار المدني الديمقراطي ضربة قاصمة لمسار العدالة الانتقالية في تونس وقرروا مقاطعة اللجنة باعتبار أن بن سدرين ساندت لجان حماية الثورة التابعة لحركة النهضة في وقت سابق، ووجدوا أن التركيبة بشكلها النهائي جاءت نتيجة الاعتماد على التمثيلية النسبية في اختيار أعضاء لجنة فرز الترشيحات لعضوية هيئة الحقيقة والكرامة المنصوص عليها بالفصل 23 من القانون، وسمحت بأن يقع انتخاب أعضاء الحقيقة والكرامة على أساس المحاصصة والموالاة، لا على أساس الكفاءة والاستقلالية والحيادية والنزاهة، وأن التركيبة النهائية للهيئة هي دليل على ضعف المسار.

قامت هيئة الحقيقة والكرامة بتسليم تقريرها النهائي لرئيس الوزراء ونشرت تقريرها النهائي على موقعها الإلكتروني والذي شهد عديدًا من التعديلات بعد نشره وتسليمه وذلك أثناء مدة التصفية لعمل الهيئة، في الواقع أن هيئة الحقيقة والكرامة كانت هي أضعف حلقات مسار العدالة الانتقالية في تونس بسبب صراعات رئيستها وصدامها مع مختلف الأطراف بما في ذلك أعضاء الهيئة نفسها ما أدى إلى استقالات عديدة وضعت الهيئة في مأزق إمكانية عدم اكتمال النصاب القانوني معظم الأوقات. وجاءت تلك الاستقالات بعد أحداث وتصرفات مؤسفة داخل الهيئة، ليتطوّر الأمر إلى صدام مع أجهزة الدولة بدءًا من قصر الرئاسة وصولًا للأرشيف الوطني. وتجاوز الصدام ليطال المجتمع المدني المحلي والدولي. وبات كل من انتقد آداء الهيئة بالسلب في أي من مراحل عملها يتلقى سيلًا من الاتهامات الملفقة من رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة بأنه ثورة مضادة بل وذهبت لأكثر من ذلك واتهامهم بأنهم ساهموا في تمرير قانون المصالحة الإدارية متجاهلة بذلك مواقف تلك الجمعيات ومساهمتها وموقفها الرافض وبشدة لذلك القانون ومشاركتها في كافة الائتلافات والتحركات التي كانت بغرض وقف عملية التصويت على هذا القانون في المجلس التشريعي، ومن ثم كانت الصدامات مع ضحايا الانتهاكات والذي يؤسس المسار ككل لاسترجاع حقوقهم وكرامتهم وتعويضهم عن ما حل بهم طيلة تلك السنوات الطويلة إلا أنهم ومن المؤسف أصبحوا الآن في مهب أن يكونوا ضحايا للمرة الثانية. وهو ما يؤكد وجهة نظر التيار العلماني الديمقراطي بأن التركيبة النهائية للهيئة كانت خير دليل على ضعف المسار.

بقيت بقية دول الربيع العربي تحاول أن تحسم أمر ثوراتها التي لم تنته بعد، ودخل بعضها في عهد جديد من الاستبداد غير المسبوق كمصر وتناحر بقيتهم فيما بينهم وبدعم خارجي كليبيا وسوريا، أو بالتدخل العسكري والأمني المباشر كما فعلت الممكلة العربية السعودية بالبحرين واليمن.

في النهاية لن تصل شعارات وصيحات شعوب الربيع العربي من دون صياغة وترسيخ مسارات قوية للعدالة الانتقالية تؤكد على إسقاط وإصلاح النظام وتُعيد الحقوق والكرامة لضحايا عهود الاستبداد وتضمن مصالحة وطنية شاملة بما يضمن عدم العودة لتلك الانتهاكات مرة أخرى

عدالة انتقالية مُرتبكة: العبر التي يجب إستخلاصها من تونس وليبيا

بعد عدة أيام من الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي بدأت في المدن البعيدة الفقيرة في تونس والتي أجبرت الديكتاتور زين العابدين بن علي على الهروب إلى منفاه، اندلعت احتجاجات واسعة في مصر، مما أدى إلى سقوط نظام حسني مبارك، وبعد عشرة أشهر من ذلك، قَتل الرجل الذي قاد ليبيا لمدة 42 عامًا وصاحب أطول فترة حكم بين القيادات السلطوية التي أَسقط حكمها في تلك الفترة بطريقة مُخزية.

ومصطلح «الربيع العربي» يدل على فترة نمو وتجديد، ولكن بدلًا من ذلك، بدأت فترة من ثورات مناهضة للدكتاتورية توعد بالتغيير السياسي والتحول الاجتماعي، وانتهت، مع استثناء وحيد، بتجدد القمع أو السقوط في هاوية النزاع المسلح. وهناك العديد من العوامل والاختلافات في السياقات التي يمكن أن تفسر لنا لماذا تقدمت عمليات العدالة الانتقاليّة في تونس بينما عُرقلت وتوقفت في أماكن أخرى بالمنطقة، بما في ذلك في ليبيا، ومناقشة تلك المسألة هنا قاصر ومُركز فقط على بعض أوجه التشابه والاختلاف في العمليتين، بما في ذلك ما دفع العمليتين للتقدم إلى الأمام وما أدى إلى عرقلة مسيرتهما.

حيث إن إسقاط الأنظمة الديكتاتورية في تونس ومصر واليمن وليبيا قد أتى انطلاقًا من شكاوى بسبب البطالة والتهميش والفساد والقمع السياسي، فإن ذلك جعل من المتوقع أن تلك الشكاوى والمظالم طويلة الأمد من شأنها في النهاية أن يتم مواجهتها إن لم تَحل بواسطة الحكومات التي تولت السلطة بعد فترات الحكم الاستبدادي.

ولكن ذلك للأسف لم يحدث، فباستثناء تونس، فإن البلدان التي خرجت من ثورات الربيع العربي، حتى تلك التي أطاحت بحكام مستبدين راسخين بالحكم لفترة طويلة، انزلقوا إلى قمع عنيف، مميت ومستمر كما هو الحال بالنسبة إلى مصر أو حروب لا تزال مشتعلة كما هو الحال بسوريا وليبيا واليمن.
وعلاوة على ذلك، فإن عدم الاستقرار، والصراع المستمر، وانتشار الأسلحة العسكرية وافتقار الحكم في ليبيا إلى المصداقية، أدى إلى تصدير عدم الاستقرار خارج نطاق الدولة الليبية وأثَّر على الدول المجاورة في المنطقة، بما في ذلك مالي والنيجر. وهناك فقرة تعبر عن ذلك المعني المتعلق بالعدالة الانتقاليّة يمكن اقتباسها في ذلك الصدد: «إن سياسات العدالة الانتقاليّة في العالم العربي، سواء في تعاريفها وأشكالها، من المرجح أن تأخذ مسارًا متميزًا عن السياسات التي سبقتها في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وأفريقيا. فكل سياق منهم مختلف، وبالتالي يتطلب مجموعة متميزة من آليات لتلبية الاحتياجات الحالية، وفي حين أن معظم أدبيات العدالة الانتقاليّة التقليدية تأتي من سياق يعتقد أن العدالة الانتقاليّة علاج لفترات ما بعد القمع والصراع.. فإن إتاحة الوقت لمناقشة، وفهم، واستيعاب العدالة الانتقاليّة يمكن أن يحدث حتى خلال فترات القمع والصراعات”.

الحرب والاحتياجات الإنسانية قبل السعي لتحقيق العدالة الانتقاليّة

تُعتبر أول نتيجة تحققت في البلدان التي حلَّت الحروب بها محل الاحتجاجات مثل سوريا واليمن هي أن الجرائم المرتبطة بالنزاع التي ترتكب في هذه الحروب قد طغت على مطالب محاسبة مرتكبي الانتهاكات المتعلقة بحقوق الإنسان وجرائم الفساد التي كانت منتشرة على نطاق واسع، والتهميش المرتكب من قبل الدكتاتورية الحاكمة فترة ما قبل الحرب. ففي سوريا، على سبيل المثال، تم التركيز على توثيق الجرائم ذات الصلة بالصراع وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها حكومة الأسد، والدول الإقليمية والجماعات المسلحة غير الحكومية، والقوى غير الإقليمية مثل روسيا وتركيا، أو حتى الولايات المتحدة، وبالتبعية أدى ذلك إلى بذل جهد محدود أو معدوم في توثيق أو التوصُّل لحقائق حول انتهاكات حقوق الإنسان المُرتكبة في عهد حافظ الأسد أو في فترة ما قبل الحرب، ويجدر القول هنا إن المظالم التي أدت إلى نشوب الثورة بالأساس ينبغي عدم نسيانها مهما كانت نتيجة ذلك النزاع المستمر.

والنتيجة الثانية التي أوجدتها العدالة الانتقاليّة كنتاج طبيعي للثورات التي تتحول إلى صراع طويل الأمد هو تعزيز الاحتياج إلى الاستجابة للاحتياجات الإنسانية كأولوية، خاصة بالنظر إلى اتساع نطاقها وضعف موقف العديد من الضحايا، مثل الأطفال واللاجئين. ويُمثِّل الوضع في اليمن مثالًا واضحًا على ذلك، حيث توجه المملكة العربية السعودية الضربات الصاروخية باستخدام أسلحة زودتها بها المملكة المتحدة والولايات المتحدة وقتلت من خلالها عشرات الآلاف من المدنيين وحُرم بسببها الملايين من اليمنيين من الحصول على الغذاء والرعاية الصحية.

إن تمهيد الطريق من أجل إجراء التحقيقات وملاحقة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لهو أمر في غاية الأهمية، ولكن لا ينبغي ألا يتم ذلك على حساب تجاهل آمال الضحايا والمواطنين الذين لديهم الحق في معرفة الحقيقة وجبر أضرارهم الناجمة من جراء العنف وحرمانهم من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية، تلك الأمور التي يعانون منها الآن بشدة. وبحسب خبرات المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة التي اكتسبناها سابقًا في الأماكن الأخرى، فإن توثيق سلوك الجماعات المسلحة وقت الحرب ومسؤوليتهم الجنائية لا يكون عادة يعتبره الضحايا والمواطنين أولوية ذات أهمية قصوى، بل بدلًا من ذلك فإن أولوياتهم تتجه إلى معرفة الحقيقة وجبر الضرر، فعندما يتم إشباع تلك الحقوق، فإنهم سيسعون لإقامة العدالة وجبر للأضرار والخسائر التي لحقت بهم.

أما الأثر الثالث المُحتمل هو أن المبادرات التي أُطلقت من أجل إنصاف ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان الفردية والفئات التي سبق وتم استهدافها لإنزال بها عقاب جماعي ومحاسبة مرتكبيها (وفي حالة سوريا لا يزال ذلك يحدث إلى الآن) تجاهلت الأنظمة السلطوية وركزت على محاكمة الأفراد على الجرائم التي لها علاقة مباشرة بالحروب والنزاعات وهذا يجعل النظر في انتهاكات حقوق الإنسان التي كانت سببًا في مطالبات وشكاوى الربيع العربي معرفة حدوثها من عدمه من خلال التحقيقات وتدابير البحث عن الحقيقة وجبر الضرر أمر غير محتمل. وما تم ذكره للتو لا يدل على أن ضحايا الجرائم ذات الصلة بالصراعات الأكثر حداثة سواء في سوريا أو اليمن أو ليبيا لا يستحقون العدالة؛ ولكن يعني ذلك أن دراسة كل من جذور الانقسام الطائفي، تاريخ النظام المستبد، وتأثير التدخل العسكري الأجنبي في هذه البلدان سيتم تأجيله أو إلغاؤه بالكامل لصالح توثيق الجرائم التي ارتكبت خلال الصراع. وعلاوة على ذلك، فإن التركيز على توثيق تلك جرائم على هذا النحو سوف – بالنظر لطبيعة ما يتم توثيقه – يعطي أولوية لمحاكمة مرتكبيها باعتبارها آلية للعدالة الانتقاليّة من حيث التمويل، واهتمام المجتمع الدولي والتغطية الإعلامية الغربية.

ولذلك ينبغي لأجندة العدالة الانتقاليّة لسوريا واليمن وليبيا أن توضح وبوعي أن هذه الدول على حد سواء هي في مرحلة ما بعد السلطوية، وربما تصبح بشكل نهائي في مرحلة ما بعد الصراع. ماذا يعني ذلك بالنسبة لليبيا؟ يعني ذلك أنه ينبغي أن يكون هناك محاولة لتعميق فهم أي أجزاء بالتحديد من خبرات البلاد متعددة مع الاستبداد والصراع والاضطرابات والتغيرات السياسية التي يمكن للعدالة الانتقاليّة معالجتها، ويعني ذلك أيضًا أنه ينبغي أن يكون هناك جهد لضمان أن المساعدات التقنية، والتمويل وتصميم وثائق الملائمة، والتركيز على تقييم المبادرات الجارية والمحتملة للعدالة الانتقاليّة في العموم لابد وأن تضمن الحق في معرفة الحقيقة، والحق في التعويض، وعند الوقت المناسب الإصلاحات المؤسسية كذلك، بحيث لا يتم تأجيلهم أو إعطاء أولوية أقل لهم من إجراء الملاحقات القضائية.

وفي ليبيا بشكل خاص، يجب أن يعني ذلك أيضًا ربط الأسباب الجذرية لاستمرار الصراع والعنف بالتوترات الطائفية وصراعات الهوية التي تم قمعها من قبل الدولة الليبية تحت حكم القذافي، والتي يتم استغلالها من قبل تدخلات دولة أجنبية ومنظمات غير حكومية، ويتم استخدامها الآن من قبل مختلف الجماعات المسلحة لتبرير وجودها وسلوكها. وتزامنًا مع انتظار تدعيم السلام الهش في ليبيا لتوحيد وإيجاد حل لتسوية النزاعات العنيفة على السلطة السياسية، قد يكون من الممكن محاولة استكشاف عمليات العدالة الانتقاليّة المناسبة التي يمكن أن تدعم وتوطد السلام وتوجد تسوية سياسية، وتؤدي في نهاية المطاف إلى التعايش داخل ذلك المجتمع الممزق.

مصطفى عبد الجليل

رئيس المجلس الانتقالي الليبي السابق

من ناحية أخرى، فإن عملية العدالة الانتقاليّة في تونس، تقدمت أشواط إلى الأمام على الرغم من التحديات والمعوقات التي شكلها انعدام الثقة بين الجماعات العلمانية والإسلاميين، وعلى الرغم من محاولات من الديكتاتور السابق وحلفائه للإفلات من العقاب. ما ينبغي لليبيا أن تتعلمه من تونس هو طرق إشراك المجتمع المدني ومجموعات الضحايا والمبادرات التي تم إطلاقها محليًا كي تساعد فيتخطى العقبات وتعزيز المكتسبات التي تحققت بالفعل على أرض الواقع.

أوجه التداخل والاختلاف في التحولات التونسية والليبية

إنه لأمر مهم أن يتم التأكيد على أنه على الرغم من إصباغ وصف للحدث الإقليمي على «الربيع العربي»، فإن هناك عوامل واختلافات مهمة موروثة في السياقات الليبية والتونسية (الأمر ذاته ينطبق على بقية البلدان التي شهدت عمليات تحول وتغيرات في تلك الفترة)، وهذا يساعد على فهم أسباب تقدم العملية الانتقاليّة في تونس بينما لم يتم ذلك في ليبيا أو في أي مكان آخر في المنطقة، فتونس، على حد تعبير المدير السابق للبرنامج التونسي الخاص بالمركز الدولي للعدالة الانتقاليّة “تبقى الزهرة الوحيدة في الربيع العربي”. فجغرافيًا تونس وتاريخها وتركيبتها السكانية وكذلك الحركات الاجتماعية المتواجدة بها والتي واجهت الدكتاتورية حتى قبل الربيع العربي تتمحور حول الحركات العُمَّالية المنظمة والمجتمعات المحلية المُهمشة في المحافظات والأحياء الأكثر فقرًا، كما أن القطاع الأكبر من المواطنين الشباب، الذي قد يكون عاطلًا عن العمل، ولكن نال قسطًا من التعليم وسعة الاطلاع خاصة فيما يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي الذكية شكل العامل الأكثر حسمًا في انتصار الثورة التي كانت لا تزال في طور التكوين في عام 2008.

ولدي أول رئيس للجمهورية التونسية في مرحلة ما بعد الاستبداد، واحد من أوضح تفسيرات لسبب عدم تحول العملية الانتقاليّة في تونس إلى نزاع مسلح كما حدث في ليبيا وأماكن أخرى في المنطقة، “فالتونسيون”، وفقًا للرئيس السابق مُنصف المرزوقي، “ليسوا أكثر ذكاءً ولا أكثر سلامًا أو تسامحًا من العرب الآخرين أو أي بشر.” ويقول: “ لحُسن الحظ سكان تونس هم أكثر تجانسًا بكثير من الدول المجاورة، فالأمة التونسية تتشكل من 99٪ من عرب مسلمين سُنة وتمثل الطبقة الوسطى نسبة كبيرة من المجتمع. جيشنا هو جيش مهني لا يوجد لديه تاريخ من التورط في أنشطة اقتصادية أو سياسية. المجتمع المدني قوي، يقظ ومسؤول، غير مرن لكن مسالم. والأهم من كل ذلك، تعلم كلا من العلمانيين والإسلاميين المعارضين للاستبداد أن يتجاوزوا خلافاتهم ويعملوا معًا على الأقل منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي. وبناء على ذلك، من السهل فهم أسباب صعوبة التوصل إلى توافق سياسي مشابه بالنسبة إلى الدول الأخرى حيث يوجد شعب ضخم العدد غير متجانس كسوريا أو كالبلدان التي يوجد بها مؤسسة عسكرية ضالعة بشكل عميق في السياسة والاقتصاد كما هو الحال في مصر أو البلدان التي لا تمتلك مجتمعًا مدنيًا قويًا كاليمن وليبيا.”

لقد كانت تحكم كلاً من ليبيا وتونس أنظمة الاستبدادية خلال فترات ما بعد استقلالها تاريخيًا، وتعتمد تلك الأنظمة الاستبدادية على ما تم وصفها بأنها انتهاكات من القمع والفساد للحفاظ على السلطة التي «يعزز بعضها بعضًا”. كل من بن علي والقذافي قدموا أنفسهم كحكام يعملون على حماية بلدانهم من الإسلاميين المتشددين ولكن نسخة ومفهوم العلمانية الخاصة بهم تجلت بشكل مختلف (بل وبطرق قد تعارض العلمانية أساسًا). قدم بن علي كموال للغرب بذات الطريقة التي قدم بها نفسه سابقه السلطوي الحبيب بورقيبة، قدم نفسه كشخص يقف بحزم إلى جانب الدول الغربية التي تجاهلت فساد نظامه طالما هو يتتبع أجندة مشتركة لمكافحة الإرهاب، أما القذافي، من ناحية أخرى، فصور نفسه بأنه مؤمن بالاشتراكية على النمط الناصري وباعتباره مؤيدًا [وممولًا] لحركات التحرر الوطني التي كانت معادية للحكومات الغربية. وهناك مقارنة بين بن علي والقذافي تقول: «إن مراقبو تونس كانون من السهل عليهم ملاحظة أن بن علي كان محبوبًا من سفارات الدول الغربية، معروفًا لدى العسكريين الفرنسيين والأمريكيين، لقد كان شخصًا يعتقد الدبلوماسيون أنه يمكن الوثوق به للقيام بالحفاظ على سياسات تونس العلمانية الموالية للغرب بعيدًا عن تأثير خطر جارتها الأكبر، ليبيا القذافي».

والقذافي، مثله مثل زين العابدين بن ًعلي، اضطر في نهاية المطاف للتعاون والعمل مع الجهود الغربية الرامية إلى مكافحة إرهاب تنظيم القاعدة، كما تودد علنا لزعماء غربيين مثل توني بلير، نيكولاس ساركوزي وسيلفيو برلسكوني، لقد أبرز ذلك أن مصلحته شخصية واستمرارية نظامه في السلطة من خلال ابنه كان أكثر أهمية له من أيديولوجيته المفترضة. وخلافًا لحكم الحزب الواحد في ليبيا القذافي، كان نظام بن علي يعقد انتخابات يمكن من خلالها – نظريًا – لأحزاب سياسية أخرى المشاركة، [حتى لو كان فوز بن علي محتماً]. وقد أعطت هذه الانتخابات نشطاء المعارضة التونسية والمنظمات العمالية والمعارضين الإسلاميين خبرات في كيفية تحدي الدكتاتورية، وأتت فرصة للتنظيم والحشد علنًا حتى في ظل ظروف قمعية، وهي الخبرات والفرص التي لم تكن متاحة لليبيين خلال فترة حكم القذافي.

تواجد المجتمع المدني ودوره في إبراز المظالم

إن تأثير فساد بن علي القابض على الدولة، وعدم المساواة وتهميش المناطق الريفية التي سببها السياسات الاقتصادية للبنك الدولي وقمعه العنيف لكل من الحركة الإسلامية والحركات اليسارية النشطة داخل الاتحاد العام التونسي للشغل تجمعت في النهاية وتحولت إلى مجموعة من المظالم التي تحفز للثورة، وقد انعكست هذه المظالم إلى حد كبير على تصميم آليات العدالة الانتقاليّة في تونس. من ناحية أخرى، لأن القذافي تعمد أن يشارك منذ بدايات حكمه وبسخاء الثروة النفطية مع السكان، قيل إن ليبيا «تتمتع بمستوى عال من المعيشة نسبيًا وفقًا للمعايير الأفريقية». ولكن هذا الحال لم يدم ومثله مثل حكام آخرين في الممالك الغنية بالنفط في المنطقة، فقد كان هناك مبادلة بين تحقيق نسبي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مقابل التنازل عن الحقوق السياسية والمدنية. وعلاوة على ذلك، كما يشير خوان كول، فإن القذافي «أصبح حاقد ضد قبائل الشرق والجنوب الغربي التي كانت تعارضه سياسيًا وحرمهم من نصيبهم العادل في موارد البلاد». ويقول كول إنه في العقد الذي سبق الإطاحة بالقذافي فإن: “الفساد الشديد وصعود قلة منتفعة على غرار النمط السوفيتي، بما في ذلك القذافي وأبنائه، قد أضر بالاستثمار وأثقل الاقتصاد. كان يتم التحكم بالعمال بصرامة ولم يكن بمقدرتهم أن يتفاوضوا جماعيًا بهدف تحسين أحوالهم، لقد كانت نسب الفقر في ليبيا وضعف البنية التحتية عالية في دولة نفطية لا ينبغي أن يكون ذلك حالها”.

وبالتالي، في حين أنه كان لدى الطبقة العاملة والمجتمعات الفقيرة بين سكان البلدين مظالم مشتركة تنطوي على أسياد وقمع السياسي وزيادة تهميش، فإن وجود مجتمع منظم وقوي ولديه خبرة نسبيًا وتقوده الطبقة العاملة في تونس شكَّل فارقًا سواء خلال الأحداث التي أدت إلى الفترة الانتقاليّة والتحول أو في عملية تحديد شكل مسار العدالة الانتقاليّة التي ستطبق في البلاد. ولم تكن الثورة في تونس لتتحقق إلا بفضل الطبقة العاملة والحركات التي يقودها الشباب الخبيرة في طرق مواجهة الاستبداد. المظالم، الفساد والبطالة، وقمع كل من الإسلاميين والنشطاء اليساريين – وكذلك الخبرات الفردية والجماعية المختلفة والمكتسبة من الألم والخسارة والظلم جعلت وضع خطة وبرنامج للعدالة الانتقاليّة أجل معالجة تلك المظالم التي عمت المجتمع أمرًا ممكنًا. هذه الحركات والأحزاب السياسية التي شَكلت في مرحلة ما بعد الاستبداد التي تنتمي للأسس اللازمة لإشراك المجتمع المدني وصنعت ووضعت سياسات العدالة الانتقاليّة الجارية حاليًا في تونس.

"لحُسن الحظ سكان تونس هم أكثر تجانسًا بكثير من الدول المجاورة، فالأمة التونسية تتشكل من 99٪ من عرب مسلمين سُنة وتمثل الطبقة الوسطى نسبة كبيرة من المجتمع. جيشنا هو جيش مهني لا يوجد لديه تاريخ من التورط في أنشطة اقتصادية أو سياسية. المجتمع المدني قوي، يقظ ومسؤول، غير مرن لكن مسالم. والأهم من كل ذلك، تعلم كلا من العلمانيين والإسلاميين المعارضين للاستبداد أن يتجاوزوا خلافاتهم ويعملوا معًا على الأقل منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي. وبناء على ذلك، من السهل فهم أسباب صعوبة التوصل إلى توافق سياسي مشابه بالنسبة إلى الدول الأخرى حيث يوجد شعب ضخم العدد غير متجانس كسوريا أو كالبلدان التي يوجد بها مؤسسة عسكرية ضالعة بشكل عميق في السياسة والاقتصاد كما هو الحال في مصر أو البلدان التي لا تمتلك مجتمعًا مدنيًا قويًا كاليمن وليبيا.”
محمد المنصف المرزوقي
الرئيس التونسي الأسبق
عملية صنع سياسات العدالة الانتقاليّة ونتائجها

يشير الباحث جلبير الأشقر فإنه من خلال المقارنة «فإن دول كسوريا وليبيا، وبسبب أنها كانت تُحكم من قبل أنظمة شديدة الاستبداد لم يكن هناك جماعات منظمة مستقلة سواء كانت سياسية أو حتى اجتماعية».‎
وستظل دائماً ما إذا كان التحول في ليبيا سيتغير إذا لم يكن هناك أشهر من عمليات الغارات الجوية من قبل القوات الغربية مسألة للبحث والمناقشة، ولكن من المؤكد أن ذلك الخليط من استجابة القذافي العسكرية للموقف والدعم العسكري الأجنبي للحركات المسلحة غيَّر وجه الثورة، لقد غيرت وحولت جماعات قبلية مختلفة كانت تجتمع على نطاق واسع وتُساند الحراك السلمي إلى ما يمكن وصفهم بالثوار أو متمردين محاربين في نزاع عسكري.

لقد تميزت عملية التحول في تونس بمشاركة إيجابية مهمة من قبل المجتمع المدني، لقد كانت التدابير الأولية للعدالة الانتقاليّة قصيرة الأجل ومخصصة لتلبية الاحتياجات الفورية للضحايا ووضع سبل لمواجهة الآمال العالية للشعب. ولذلك الغرض تم إنشاء وزارة لحقوق الإنسان والعدالة الانتقاليّة، وعرضت التدابير عاجلة للتعويضات.
في عام 2011، كان واحدة من الثلاث لجان مخصصة التي تم إنشاؤها «هي لجنة تقصي الحقائق الوطنية للنظر في الانتهاكات التي ارتكبت خلال الثورة ووثق هذه اللجنة 338 قتيلًا و2147 جريحًا كضحايا للثورة.

ومن بين جميع بلدان الربيع العربي التي مرت بتحولات فإن تونس وحدها هي من نجحت في تشكيل لجنة تقصي حقائق تلعب دورًا حقيقيًا “هيئة الحقيقة والكرامة”، والقانون الأساسي لعام 2013 الذي أسس تلك الهيئة كان نتاج مناقشات عامة واسعة النطاق حول الطريقة المثالية لطرح عدالة انتقالية تونسية، وقد مُرر القانون الحاكم للهيئة بعد نقاش مجتمعي رسم من خلال برلمان منتخب. وعملية النقاش المجتمعي في حد ذاتها تجربة جديدة وديمقراطية لدولة عانت سنوات من الاستبداد .

لقد تم تشكيل الهيئة نفسها من خلال عملية معيبة إلى حد ما ولكن تشاورية ومع ذلك، حتى مع النزاعات الداخلية والتحديات الخارجية التي مرت بها استطاعت هيئة الكرامة والحقيقة إصدار أكثر من 60.000 تصريح وعقدت عدة جلسات استماعية عامة. وبينما يتم كتابة تلك الكلمات تستعد الهيئة لإصدار تقريرها النهائي.

في المقابل، اتسمت محاولات ليبيا المُبكرة في صنع سياسات للعدالة الانتقاليّة في إطار المجلس الوطني الانتقالي غير المنتخب بانعدام الشفافية وتساؤلات حول مدى الشرعية ومخاوف من أن القوانين قد شُرعت لخدمة فئات معينة (مثل حماية أعضاء المجلس الوطني الانتقالي من الملاحقة القضائية المستقبلية واسترضاء الجماعات المسلحة) ووفقًا لخبير المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة السابق ماريكا فيردا «خلافًا لما حدث في تونس ولم يكن هناك مشاورات عامة واسعة على القانون (قانون 17) على الرغم من أهمية القضايا الاجتماعية على المحك وقد حدثت تعديلات وتغييرات من قبل المؤتمر الوطني العام لاحقًا أدت إلى تحسن الأوضاع (القانون رقم 29 ) مثل لجنة المصالحة وتقصي الحقائق والتي تشبه كثيرًا هيئة الحقيقة. ولكن على الرغم من هذه التغييرات، بقت تلك اللجنة غير مُفعلة، و”لم يكن هناك أي نشاط معروف للجنة خلال عام 2018».

وبعيدًا عن هيئة الحقيقة والكرامة، أسست تشريعات العدالة الانتقاليّة التونسية عدة مؤسسات لضمان استمرار عملية العدالة الانتقاليّة ويبدأ عملها بعد أن تُصدر هيئة الكرامة تقريرها، فقد أسس القانون عدة دوائر جنائية لسمع ونظر الدعاوى الجنائية التي تحيلها هيئة الحقيقة والكرامة إليها، أما في ليبيا فيُركز المدعون الجنائيون على المحاكمات الجنائية المنظورة أمام المحكمة الجنائية الدولية والتي تمت بصلة للجرائم ارتكبت خلال النزاع العسكري هناك.

وتمتلك كلًا من هيئة الحقيقة والكرامة في تونس ولجنة المصالحة وتقصي الحقائق في ليبيا سلطة تقدير سبل ومقدار التعويضات للضحايا جنبًا إلى جنب مع غيرها من أشكال جبر الضرر، وقد أسست القوانين الحاكمة للهيئتين صندوقًا لتمويل تلك التعويضات، ويشير التركيز على التعويض والتفضيل الواضح للنهج القضائي في التعويض إلى أن الموقف من التعويض في كلا البلدين (وربما في جميع أنحاء المنطقة) لا يزال مرتبطًا بدفع الأموال – مما قد يخلق مشاكل على المدى الطويل في البلدان التي اعتادت على الإيذاء.

وفي حين أن الثورات في كلا البلدين كان من أهم مسبباتها الشكوى من الفساد، فإن القانون الليبي لا يحتوى فقط على فقرة صغيرة من “تشجع عودة الأموال العامة المكتسبة بصورة غير مشروعة” التي إذا أعادها الجاني «طوعًا» سوف تنهي أي إجراء جنائي متخذ ضده. في حين أن النسخة التونسية يخلق عملية تحكيمية أكثر تعقيدًا، ولكن المحصلة واحدة: إحداث نتيجة من خلال المفاوضات بهدف عودة الأصول المسروقة لتجنب المسؤولية الجنائية. في تونس – والأمر ينبغي أن يكون كذلك في ليبيا-، صدر ما يسمى بـ»قانون المصالحة الإدارية» في تونس والذي يمنح العفو للمسؤولين الحكوميين الذين كانوا متواطئين في الفساد في عهد بن علي ولكن لم يتربحوا أو يستفيدوا منه وهو أمر يثير تساؤلات حول الشفافية في عملية التحكيم والتقاضي. وقد انتقد المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة هذا القانون، جنبًا إلى جنب مع منظمات المجتمع المدني والشباب الذين قاموا بالثورة. لم تمر ليبيا بالمشاكل ذاتها إلى الآن ببساطة لأنه لم يتم تنفيذه هناك. ولأن هذا العفو الشامل قد يشكل خطرًا أو حتى ينهي عملية العدالة الانتقاليّة برمتها سيكون من المهم بالنسبة للتونسيين أن يتخطوا الحدود الأيديولوجية والطائفية ويعارضوا أي إفلات من العقاب.

لقد اعترفت كل من الجهود التونسية والليبية في سياسات العدالة الانتقاليّة بمظالم مختلفة الأمر الذي شكَّل دلالة مهمة على تحولات البلدين. بالنسبة إلى تونس، فإن من أهم المظالم التي بات يُنظر إليها بشكل مختلف هناك هو تهميش المناطق التي استبعدت من قبل سياسات زين العابدين بن علي الاقتصادية والاجتماعية وكانت هدفًا للقمع لأنها معاقل الإسلاميين أو المعارضة اليسارية. وفي ليبيا، تم اعتبار نزوح المدنيين باعتباره انتهاكًا يتطلب تدخل سياسات العدالة الانتقاليّة. إن معالجة مسألة النزوح علاج كموضوع خاص بالعدالة الانتقاليّة هو أمر مهم؛ فإذا ما أخذ ذلك الأمرعلى محمل الجد في ليبيا، قد يساعد على تعويض الآثار المترتبة على اتفاقية مصراتة- تاورغاء التي ترعاها الأمم المتحدة التي تعطي تعويض لشعب مصراتة – الذين يتم النظر إليهم باعتبارهم معارضين للقذافي – حين يترك نازحين تاورغاء، الذين يتم النظر إليهم باعتبارهم موالين للقذافي، معسكرات النزوح الداخلي ويعودوا إلى مجتمعاتهم الأصلية لأنها على هذا النحو تقايض الحق في التعويض بحق النازحين في العودة، وهذه معضلة حقيقية.

ما الذي من شأنه أن يعطل العدالة الانتقاليّة؟

في حين أن كلًا من التشريعات التونسية والليبية نصت على إجراء مصالحة، نصت الإجراءات التونسية وسلطت الضوء على ما سمته “الكرامة” بدلًا من المصالحة في حين أن القانون الليبي لا ينص فقط على “أن الهدف هو الوصول إلى مصالحة وطنية” ولكنه يشير أيضًا إلى ما سماه “المصالحة المجتمعية”، هذه التأكيدات المختلفة المذكورة بالنصوص، تعكس سياقات البلدين وكيف تتم التحولات الخاصة بهما. وعلى عكس ليبيا، فإن الانقسامات بتونس ليست قبلية ولكن أكثرها دينية وعقائدية ومع ذلك، أدت هذه الانقسامات إلى عدم الثقة في وقت مبكر من عملية العدالة الانتقاليّة بين النشطاء العلمانيين، الذين رأوا أنها من شأنها أن تعطي الأفضلية لكثير من الإسلاميين، الذين كانوا ضحايا لانتهاكات حقوق الإنسان، وقد عرقلت هذه الانقسامات العدالة الانتقاليّة في تونس عدة مرات، وخلقت توترات بل وحتى حالات العنف السياسي.

لو أن هناك انقسامات تستطيع أن تُعطل العدالة الانتقاليّة في تونس فلن تخرج عن احتمال من اثنين، أن يزيد العلمانيون والجماعات العلمانية من حدة تلك الانقسامات، أو احتمال آخر لا يقل خطورة عن الأول ألا وهو إمكانية العفو عن مرتكبي جرائم الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان مما يُهدد بتقويض العملية كلها.

من ناحية أخرى، فإن ملامح اتفاق مصراته – تاورغاء الذي نص على التعويضات مقابل العودة وتم برعاية الأمم المتحدة يُبرز بوضوح إشكالية الإطار الذي تتم فيه عملية المصالحة في ليبيا. ومن المفترض أن الاتفاق يسعي “لتحقيق وتعزيز المصالحة والسلام والانسجام الاجتماعي بين مصراتة وتاورغاء”. غير أنه على أرض الواقع، قد يضفي شرعية على تنفيذ عمليات انتقامية، وهو بالضبط ما ينبغي لعملية العدالة الانتقاليّة أن تتجنب حدوثه. وكما نوقش في بداية هذه الورقة، فإن التحول من الاحتجاجات إلى الحرب أدى إلى عدم اعتبار تدابير العدالة الانتقاليّة التي تعاملت مع 42 عامًا من حكم القذافي أولوية والتركيز بدلًا من ذلك على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت خلال 9 أشهر من النزاع المسلح. وكان هذا النوع من النقلات النوعية خلال الفترات الانتقاليّة موضوعًا للبحث بالمركز الدولي للعدالة الانتقاليّة: «في اللحظات الانتقاليّة شديدة الحساسية، يمكن للقوى السياسية أن تُهمل بسهولة أو تلغي مطالب الضحايا بإقامة العدالة، في حين أن النهج المعيارية، التي يدعمها المجتمع الدولي في بعض الأحيان، يمكن أن تسحق المؤسسات الضعيفة وتؤدي إلى نتائج محدودة للغاية».

مسار العدالة الانتقاليّة في تونس: النّشأة، التعثّر والإكراهات السياسيّة

العدالة الانتقالية، هي تلك المنظومة المركّبة والمتكاملة من المبادئ والقواعد والآليّات والوسائل التي تستهدف فهم ومعالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضّحايا وردّ الإعتبار لهم، وإصلاح المؤسّسات وضمان عدم تكرار ممارسة الإنتهاكات .

وعلى غرار عدّة بلدان في العالم، كان لا بدّ أن تواجه بلادنا، إبّان ثورة 14 جانفي 2011 ذلك الإرث المرير من القمع والإنتهاك والتعسّف الّذي جثم على التونسيّين في ظلّ حكم الإستبداد الّذي مرّت به بلادنا على مدى عقود من الزّمن .

وتمثّل العدالة الإنتقاليّة أحد أهمّ المراحل والمسارات التي تبنّتها عدّة من الدّول قصد ضمان نجاح مسارها الإنتقالي نحو الديمقراطيّة ودولة القانون والقطع نهائيّا مع ماضي الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان .

I- أهمّ أركان منظومة العدالة الإنتقالية :

1/ كشف الحقيقة بشأن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان :

وهي الإنتهاكات الّتي تشكّل خرقا جسيما للقانون الوطني لحقوق الإنسان وللقانون الدّولي لحقوق الإنسان، وتتمثّل تلك الإنتهاكات أساسا في الإغتيالات، الإختفاء القسري، الإعتقالات التعسفيّة، ممارسة التّعذيب، التّضييق على الحريّات النقابيّة الأساسيّة ، قمع حريّة الصّحافة، منع التجمّعات والمظاهرات وقمع التحرّكات الشعبيّة .

2/ المساءلة والمحاسبة للمسؤولين المباشرين وغير المباشرين عن ممارسة الإنتهاكات :

إنّ ضمان مبدأ عدم الإفلات من العقاب يقتضي بالضّرورة مساءلة ومحاسبة سائر المسؤولين المباشرين وغير المباشرين عن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وعليه يتّجه الملاحظة في هذا الباب بأنّه يتعيّن أن تتّسع دائرة المساءلة والمحاسبة لجميع الأشخاص الّذين تورّطوا في الإنتهاكات سواء بشكل فعلي ومباشر من حيث الممارسة أو بالتّعليمات والتغطية وضمان الإفلات من العقاب، لتشمل المحاسبة المورّطين بصفة مباشرة والمتورّطين بصفة غير مباشرة في طمس حقيقة الإنتهاكات .

3/ جبر الضرر للضّحايا والتّعويض لهم رمزيّا ومعنويّا وماديّا وإعادة الإعتبار لهم :

يقوم نظام جبر الضّرر على التّعويض الرّمزي والمادّي والمعنوي للضحيّة وردّ الإعتبار لها وإسترداد حقوقها وإعادة تأهيلها وإدماجها . ويمكن أن يكون جبر الضّرر فرديّا أو جماعيّا ويؤخذ بعين الإعتبار وضعيّة الفئات المهمّشة (الأطفال، النّساء وكبار السنّ وذوي الإحتياجات الخاصّة) .والضحيّة هو كلّ شخص لحقه ضرر جرّاء الإنتهاك الممارس عليه .

4/ إصلاح مؤسّسات الدّولة :

ينصبّ إصلاح مؤسّسات الدّولة على تفكيك منظومة الفساد والقمع والإستبداد ومعالجتها بشكل يضمن عدم إنتاجها لتلكم الخروقات وذلك بتخليص مؤسّسات الدّولة ومرافقها من شتّى الآليّات التي تؤسّس للقمع والإستبداد والفساد والعمل بالتّالي على تحديث مناهجها وإعادة هيكلتها وتأهيل أعوانها بما يكفل إرساء دولة القانون وحماية الحقوق الأساسيّة والحريّات العامّة والفرديّة .

5/ المصالحة :

تهدف المصالحة إلى تحقيق السّلم الإجتماعي بين كلّ المواطنين وطي صفحة الماضي الأليم من الإنتهاكات المختلفة، وإلى إشاعة الطّمأنينة والإرتياح في علاقاتهم الفرديّة والإجتماعيّة، كما تهدف إلى إرساء ثقة المواطن في مؤسّسات الدّولة في ظلّ مجتمع ديمقراطي .

غير أنّ المصالحة لا تعني الإفلات من العقاب، ضرورة أنّ الإفلات من العقاب من شأنه الإبقاء على دوّامة الإنتهاكات بإستمرار .

أهمّ أركان منظومة العدالة الإنتقالية

1
كشف الحقيقة بشأن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان
2
المساءلة والمحاسبة للمسؤولين المباشرين وغير المباشرين عن ممارسة الإنتهاكات
3
جبر الضرر للضّحايا والتّعويض لهم رمزيّا ومعنويّا وماديّا وإعادة الإعتبار لهم
4
إصلاح مؤسّسات الدّولة
4
المصالحة

II- الأسس القانونيّة للعدالة الإنتقاليّة

تختلف العدالة الإنتقاليّة من حيث مرجعيّاتها وأسسها عن العدالة التقليديّة والدّائمة القائمة في كلّ دول العالم بناء على منظومة تشريعيّة وترتيبيّة متكاملة، يحتكم إليها القضاء بمختلف إختصاصاته وتتقيّد بها المؤسّسات الإداريّة .

فقد ولدت العدالة الإنتقاليّة من رحم تجارب دول مختلفة شهدت إرساء مسارات للعدالة الإنتقاليّة، لا سيما لجان الحقيقة الّتي تمّ إنشاءها والّتي شكّل عملها العمود الفقري لإرساء آليّات العدالة الانتقاليّة

1/ لجان الحقيقة، الإطار القانوني الأساسي في منظومة العدالة الإنتقاليّة :

تراكمت لجان الحقيقة الّتي تمّ إرساءها في ما يناهز 40 دولة تجارب هامّة جدّا من خلال عملها الدّؤوب من أجل كشف حقيقة الإنتهاكات، وقد أفضى ذلك إلى إرساء مرجعيّة قانونيّة ثريّة جدّا، من وحي التّجارب المختلفة، ساهمت إلى حدّ كبير في إنشاء إطار قانونيّ يميّز آليّة العدالة الإنتقاليّة في باب كشف الحقيقة ومعالجة الإنتهاكات، دون غيرها من آليّات البحث والتّحقيق التقليديّة والمسندة بمقتضى قوانين الدّولة للأجهزة الأمنيّة وللسّلطة القضائيّة وللمؤسّسات الإداريّة .
وبما أنّ منظومة العدالة الإنتقاليّة كانت في الحقيقة مراكمة لأهمّ المسارات والمحطات الّتي شهدتها دول عديدة في هذا الباب والّذي يهدف إلى معالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فإنّه من المتّجه تقديم عرض موجز لخصائص بعض لجان الحقيقة وأداءها والصعوبات الّتي واجهتها :

2/عرض موجـز لخصائص بعض لجان الحقيقة وأداءها
الأرجنتين 1983 :

الهيئة الوطنيّة حول إختفاء الأشخاص :
إصطدام إرادة المساءلة والمحاسبة للمسؤولين عن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بتمرد وتململ عاشته البلاد بدفع من العسكريّين والذين نُسبت الإنتهاكات لمزوهم خلال الحكم العسكري بالبلاد . والهدف من ذلك كان الضّغط من أجل إيقاف سلسلة المحاكمات ضدّ قيادات النّظام العسكري .
اتّخذت الهيئة قرار بإنهاء مسار المحاسبة تحت عنوان “ نقطة النّهاية “، لتعرض لاحقا تقريرها الختامي تحت شعار : “ هــذا لن يتكرّر أبـــدا “

الشّيلي 1990 :

الهيئة الوطنيّة حول الحقيقة والمصالحة :
شهد المسار الذي كان شبيها بالمسار الأرجنتيني، شهد هو أيضا عدّة مظاهر من التعثّر والصّدام مع رموز النّظام الديكتاتوري السّابق والموالين له .
غير أنّه تحسب للتجربة الإنتقاليّة في الشيلي المبادرة بإصلاح المؤسّسات وإدراجها كأحد أهمّ مكوّنات العدالة الإنتقاليّة وذلك لغاية ضمان عدم تكرار الإنتهاكات والقطع نهائيّا مع الماضي الأليم .
وتجدر الإشارة بأنّ جنوب إفريقيا قد استلهمت إرساء مسار إصلاح المؤسّسات من التجربة الشيليّة .

الأرجنتين

1983

الهيئة الوطنيّة حول إختفاء الأشخاص

انهت مسار المحاسبة بعد اصطدام مع العسكريين لتعرض لاحقا تقريرها المعنون «هذا لن يتكرر أبدا»

الشيلي

1990

الهيئة الوطنيّة حول الحقيقة والمصالحة

رغم بعض مظاهر التعثر والصدام إلا ان المبادرة نجحت في إصلاح المؤسّسات وإدراجها كأحد أهمّ مكوّنات العدالة الإنتقاليّة

جنوب افريقيا

1995

مفوّضيّة  للحقيقة والمصالحة

تم بعد سنوات من النقاش, تمكنت المفوضية من تأسيس توافق يقوم على مبدأ «العفو كقابل الاعتراف والاعتذار»

المغرب

2004

هيئة الإنصاف والمصالحة

لم تشهد التجربة محاكمة المسؤولين عن الإنتهاكات، بل اتّجهت نحو المصالحة التي تستند على العفو مقابل ردّ الإعتبار للضّحايا

جنوب إفريقيا 1995 :

مفوّضيّة جنوب إفريقيا للحقيقة والمصالحة :
مثّلت التّجربة تكريس لقيمة العفو من خلال تبنّي المفوضيّة للمعيار المعتمد على “ العفو مقابل الإعتراف والإعتذار”.
والغاية من ذلك هو الإستجابة لمتطلّبات السّلم المدني والتوجّه إلى المستقبل وفق مقتضيات الوحدة الوطنيّة وهو ما كان نتاج سنوات من الجدل والنّقاش أفضى إلى ذلك التّوافق المتأسّس على مبدأ “ العفو مقابل الإعتراف والإعتذار “

المغــرب 2004 :

هيئة الإنصاف والمصالحة :
مسار العدالة الانتقاليّة في المغرب يتميّز بكونه حصل في ضلّ استمرار النّظام السّياسي، ولم يكن يهدف للقطع تماما مع النّظام القائم والّذي نسبت إليه عديد الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على مدى عقود وذلك خلال حكم الملك الحسن الثّاني .
عقدت الهيئة عديد جلسات الإستماع السرّي وجلسات الإستماع العلني بشأن الإنتهاكات الواقعة خلال الحقبة الموصوفة بـ “سنـوات الرّصـاص “ :

  • إغتيالات سياسيّة
  • إختفاء قسري
  • إعتقالات تعسفيّة
  • الإغتراب السّياسي
  • قمع الإنتفاضات الشعبيّة
  • قمع الحريّات السياسيّة والنقابيّة
  • قمع حريّة الصّحافة

لم تشهد التجربة المغربيّة مسار المحاسبة والمحاكمة للمسؤولين عن الإنتهاكات، بل اتّجهت نحو المصالحة التي تستند على العفو والصّفح مقابل جبر الضّرر المادّي والمعنوي وردّ الإعتبار للضّحايا . هذا وتميّزت التّجربة المغربيّة بإدماج مقاربة النّوع الإجتماعي في مسار العدالة الإنتقاليّة بإعتبار أنّ ظاهرة المرأة الضحيّة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، كانت بارزة في سياق الإنتهاكات الذي شهدته المغرب .

لم تتّخذ الهيئة مواقف حازمة بشأن إنتهاكات كانت تحصل خلال ولاية الهيئة ذاتها . لم يتمّ إشراك مؤسّستي الحكومة والبرلمان لحملها على التقيّد بتوصيّات الهيئة ومتابعتها .
لم تتوفّر على السّلطة الكافية لإجبار المسؤولون على موافاتها بالمعلومات والإفادات التي تؤدّي إلى كشف الحقيقة كاملة بشأن الإنتهاكات .
عدم اتّخاذ موقف صارم من المسؤولين عن الإنتهاكات بشأن بقائهم في السّلطة وهو موقف كان من شأنه أن يضفي الكثير من المصداقيّة على عمل الهيئة .

مفوّضيّة للحقيقة والمصالحة: “ العفو مقابل الإعتراف والإعتذار”
3/ في إحتكام آليّات العدالة الإنتقاليّة لمنظومة القانون الدّولي لحقوق الإنسان :

طالما أنّ إرساء آليّات العدالة الإنتقاليّة يهدف إلى القطع مع ماضي الانتهاكات الأليم والعمل على إرساء دولة القانون في ظلّ مجتمع ديمقراطي والسّعي إلى تكريس حماية حقوق الإنسان والحريّات العامّة والفرديّة، فإنّه من الطّبيعي أن يُشكّل القانون الدّولي لحقوق الإنسان مرجعا هامّا تنهل منه الهيئات المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة ويعدّ ذلك مصافحة أولى بين المجتمع وتلك المنظومة القانونيّة الدوليّة والتي كانت مستبعدة تماما في ظلّ أنظمة الحكم القائمة على القمع والإستبداد والفساد .
إنّ القانون الدّولي لحقوق الإنسان المتمثّل أساسا في سائر المواثيق والعهود والاتّفاقيّات الدوليّة المتّصلة بحقوق الإنسان والتي تمّ تعزيزها وإثراءها على مدى عقود من مختلف أجهزة وهيئات ولجان الأمم المتّحدة المختصّة بحماية حقوق الإنسان، كتعزيزها وإثراءها أيضا من طرف مختلف الهيئات والمنظّمات غير الحكوميّة الدوليّة والوطنيّة المعنيّة بحقوق الإنسان، بات يشكّل اليوم الأرضيّة الأساسيّة في ضبط المعايير الحمائيّة لحقوق الإنسان .

III- المسار في تونس : النشــــأة والإشكاليـــات

أنشأ مسار العدالة الإنتقاليّة في تونس بمقتضى القانون عدد 53 لسنة 2013 المؤرّخ في 24 ديسمبر 2013 والمتعلّق بإرساء العدالة الإنتقاليّة وتنظيمها، بالإضافة إلى نصوص ترتيبيّة لاحقة متعلّقة بإنشاء هيئة الحقيقة والكرامة وإحداث الدّوائر القضائيّة المختصّة وميثاق التّواصل مع الإعلام .

غير أنّه يتّجه الملاحظة مبدئيّا بأنّ إرادة إرساء مسار العدالة الإنتقاليّة قد حصلت إبّان الثّورة مباشرة وذلك بإنشاء لجنة تقصّي الحقائق بشأن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال الثّورة، كإرساء لجنة البحث والتقصّي بشأن قضايا الفساد، ولجنة مصادرة الأملاك المتأتّية من ممارسة الفساد .

ولكن إرادة المجتمع إمتدّت إلى إرساء منظومة كاملة وشاملة للعدالة الإنتقاليّة بمختلف آليّاتها :

  • كشف الحقيقة بشأن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان .
  • مساءلة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات .
  • جبر الضّرر للضّحايا وردّ الإعتبار .
  • التّحكيم والمصالحة .
  • إصلاح المؤسّسات .
  • حفظ الذّاكرة الوطنيّة .

 

تلتزم الدّولة بتطبيق منظومة العدالة الإنتقاليّة في جميع مجالاتها والمدّة الزمنيّة المحدودة بها ولا يقبل في هذا السّياق الدّفع بعدم رجعيّة القوانين أو بوجود عفو سابق أو بجحية اتّصال القضاء أو بسقوط الجريمة أو العقاب بمرور الزّمن .
وكان طبيعي أن يسبق إرساء منظومة العدالة الإنتقاليّة، إطلاق حوار وطني حول العدالة الإنتقاليّة:
قرار وزير حقوق الإنسان والعدالة الإنتقاليّة بتاريخ 28 ماي 2012 بشأن إحداث هيئة للإشراف على الحوار الوطني والجهوي وذلك في مختلف القطاعات من أجل صياغة مشروع قانون للعدالة الإنتقاليّة .
وهو حوار سعى أن يشرك الجميع (الأحزاب، المنظّمات الوطنيّة والهيئات المهنيّة وجمعيّات الضّحايا والجمعيّات الحقوقيّة) .

غير أنّ أعمال اللّجنة الفنيّة المتّصلة بالحوار الوطني كانت تحت طائلة توجيهات وإختيارات حزبيّة صادرة عن وزارة حقوق الإنسان والعدالة الإنتقاليّة آنذاك، ضرورة أنّها لم تقف عند حدّ توفير الوسائل اللّوجيستيّة والتنظيميّة للحوار الوطني بل عملت على توظيف مقاربتها الحزبيّة للمسار بما أثّر سلبا على الحوار وأدّى إلى عرض مشروع قانون مبتور ومشوّه، فضلا عمّا صدر عن المجلس الوطني التّأسيسي من تعديلات، حال نقاشه لمشروع القانون وتصويته عليه وخاصّة فيما تعلّق بآليّة التّصويت بشأن تركيبة هيئة الحقيقة والكرامة .
مسار العدالة الإنتقاليّة شأن حقوقي ومن صميم إختصاص المجتمع المدني، غير أنّ هيئة الحقيقة والكرامة أنشأت بمعايير حزبيّة ضيّقة .

وقد ترتّب عن توظيف الحوار الوطني، بجعله للإستماع إلى الضحايا من طيف سياسي واحد، بالإضافة إلى أداء المجلس الوطني التّأسيسي في هذا الباب، ترتّب عنهما صدام خلال إجراء الحوار، على الصّعيدين الوطني والجهوي، أدّى إلى إنسحاب بعض منظّمات المجتمع المدني، على غرار التنسيقيّة الوطنيّة المستقلّة للعدالة الإنتقاليّة، فضلا عمّا أفرزه القانون المنظّم لمسار العدالة الإنتقاليّة، كيفما تمّت الإشارة إليه لاحقا .

أنشأت إذن هيئة الحقيقة والكرامة في ظلّ هذا الصّراع المحتدم واشتغلت في ظلّ جدل حادّ وعلى نطاق واسع بات معروفا حاليّا لدى الرّأي العام بأدقّ جزئيّاته وعنوانها الأبرز: تعثّر المسار وتشويهه تحت طائلة الإكراهات السياسية

عملت الهيئة إذن في ظلّ ذلك المناخ المتأزّم والذي لوحظ منذ نشأتها وذلك بإعتماد آليّة التّصويت على إنتخاب أعضائها وفق معيار الأغلبيّة الحزبيّة داخل المجلس الوطني التّأسيسي، مرورا بتصدّع الهيئة من داخلها، جرّاء موجة الإستقالات والإقالات في صفوف أعضائها، إلى غاية تعاطيها مع الملفّات المعروضة عليها وتنظيمها لجلسات الإستماع العموميّة وجلسات التّحكيم والمصالحة، فضلا عن تأزّم العلاقة مع أجهزة الدّولة التي من المفروض أن تساعد على تأمين المسار وإنجاحه، مثلما يقتضي الدّستور، غير أنّ بصمات التّوظيف السياسي كانت جليّة وأثّرت على سياق المسار وكان ذلك بتحريك كتل مجلس النوّاب ذات التركيبة المختلفة حاليّا عن تركيبة المجلس الوطني التّأسيسي، توظيفا سياسيّا بلع إلى حدّ رفض التّمديد في مهام الهيئة لمدّة عام إضافي، كيفما يقتضي ذلك القانون ذاته المنظّم للعدالة الإنتقاليّة في صورة عدم إنهاء الهيئة لمهامّها خلال المدّة المحدّدة بأربع سنوات .

IV- الهيئـات القضائيّـــة المختصّــة بالعدالـــــة الانتقاليّــــة

تختصّ التجربة التّونسيّة في مجال العدالة الإنتقاليّة بإمكانيّة إحالة بعض الملفّات على القضاء تكريسا لمعيار المساءلة والمحاسبة الذي يعدّ آليّة أساسيّة لضمان عدم الإفلات من العقاب وضمان عدم تكرار الإنتهاكات .

فالملاحقة القضائيّة هي إذن مواصلة لمسار المساءلة ولكن أمام القضاء، بإعتباره السّلطة الأصليّة قانونا المختصّة بالتتبّعات بشأن الجرائم وتسليط العقاب الجزائي إذا ما ثبتت الإدانة .

1 - النشـــــأة والإختــــصاص :

الفصل 8 من قانون العدالة الإنتقاليّة :
“ تحدث بأوامر دوائر قضائيّة مختصّة بالمحاكم الإبتدائيّة بمقار محاكم الإستئناف تتكوّن من قضاة يقع إختيارهم من بين من لم يشاركوا في المحاكمات ذات الصبغة السياسيّة ويتمّ تكوينهم تكوينا خصوصيّا في مجال العدالة الإنتقاليّة “ .

هذا هو النصّ المنشأ للدّوائر القضائيّة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة، ونلاحظ في هذا الباب شرط تكوينهم المسبق في مجال العدالة الإنتقاليّة حتّى ينسجموا مع منظومة العدالة الإنتقاليّة التي تختلف من حيث المساءلة والملاحقة القضائيّة عن المنظومة القضائيّة التقليديّة التي تتولّى المحاكمات بناء على إحالة من النّيابة العموميّة أو قضاة التّحقيق أو دوائر الإتّهام وبعد إستيفاء البحث من طرف أجهزة الأمن والشّرطة العدليّة .

هذا وينصّ الفصل 8 في ذات القانون على أن تتعهّد الدّوائر المذكورة في القضايا المتعلّقة بالإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على معنى : الإتّفاقيّات الدوليّة المصادق عليها وعلى معنى أحكام هذا القانون . فيما ذكر ذات النصّ، على سبيل الذّكر وليس الحصر، جانب من الإنتهاكات التي تختصّ بها الدّوائر القضائيّة :

  • القتل العمد .
  • الإغتصاب وأيّ شكل من أشكال العنف الجنسي .
  • التّعذيب .
  • الإحتفاء القسري .
  • الإعدام دون توفّر ضمانات المحاكمة العادلة .
  • تزوير الإنتخابات .
  • الفساد المالي .
  • الدّفع إلى الهجرة الإضطراريّة لأسباب سياسيّة .

وقد أثارت بعض الإنتهاكات الواردة بالنصّ جدلا قانونيّا في المنظومة القضائيّة على غرار تزوير الإنتخابات والدّفع إلى الهجرة لأسباب سياسيّة، ضرورة أنّها غير واردة بالنّصوص القانونيّة الجزائيّة، وإنطلاقا من مبدأ “ لا محاكمة بدون نصّ سابق الوضع “، وهو مبدأ أساسي في المحاكمة الجزائيّة العادلة، فإنّ القضاء سيواجه صعوبة قانونيّة إذا ما أحالت له الهيئة قضايا متعلّقة بالتّهم المذكورة أعلاه .

وفي الحقيقة، يمكن تجاوز هذه الإشكاليّة القانونيّة، بالقانون ذاته، وهو مقتضيات الفصل 8 من القانون المنظّم للعدالة الإنتقاليّة والذي ينصّ صراحة بأنّ تعهّد الدّوائر القضائيّة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة تبتّ في الملفّات المحالة عليها من الهيئة، على معنى الاتفاقيّات الدوليّة المصادق عليها .
إنّ طبيعة هذه الدّوائر القضائيّة الخاصّة بالعدالة الإنتقاليّة والتي لا تندرج ضمن المنظومة القضائيّة التقليديّة، من شأنها أن تجيز إستثناءات بشأن مصادر القانون المعتمد حال تعهّدها بالملفّات المحالة عليها من الهيئة، وعليه فإنّ الإحتكام إلى النّصوص القانونيّة الواردة بالاتّفاقيّات الدوليّة المصادق عليها والمتعلّقة بحقوق الإنسان، تعدّ مسألة منطقيّة ووجيهة قانونا.
فالقضاة الّذي يشكّلون اليوم الدوائر القضائيّة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة قد تلقوا تكوينا في مجال العدالة الإنتقاليّة وقد كانت بالتّالي المنظومة القانونيّة الدوليّة لحقوق الإنسان أحد أهم المحاور في التّكوين .

إنّ القاضي الوطني متحفّظ جدّا بشأن تطبيق القانون الدّولي في القضايا المعروضة عليه، غير أنّه ملزم بذالك حال تعهّده بملفات العدالة الإنتقاليّة .

والعودة إلى القانون المنظّم للدوائر القضائيّة المختصّة، يتجه الإشارة إلى القانون الأساسي عدد 17 لسنة 2014 المؤرّخ في 12 جوان 2014 والمتعلّق بأحكام متّصلة بالعدالة الإنتقاليّة بشأن قضايا شهداء وجرحى الثّورة .
هذه القضايا الّتي كانت موضوع جدل جاء في صفوف أهل الإختصاص في القانون وفي المجتمع المدني، جرّاء إحالة الملفات على القضاء العسكري مع كلّ ما ترتّب عن ذالك من طمس للحقيقة خلال الأبحاث والتّحقيقات الجارية في النيابة العسكريّة وقضاة التحقيق بالمحاكم العسكريّة وأفض إلى محاكمات غير عادلة بالمرّة بحق ورثة الشهداء وبحق الجرحى.
وبموجب القانون عدد 17 لسنة 2014 يحق للدوائر القضائيّة المختصّة التعهّد من جديد بقضايا شهداء وجرحى الثورة الواقعة في الفترة الممتدّة من 17 ديسمبر 2010 إلى 28 فيفري 2013 .

الدّور الرّئيسي لمنظمات المجتمع المدني وللإعلام في حشد تأييد الرّأي العام لإنصاف شهداء وجرحى الثورة وضمان حقّهم المشروع في المحاكمة العادلة يكشف الحقيقة كاملة بشأن المتورطين في الجرائم الواقعة خلال الثورة لوضع حدّ لإفلاتهم من العقاب .

تقتضي أحكام المادّة 20 من الدستور بأنّ “ المعاهدات الموافق عليها من قبل المجلس النيابي والمصادق عليها، أعلى من القواني وأدنى من الدستور “ .

وبناء على مقتضيات الدستور ذاته فإنّ إعتماد القانون الدولي لحقوق الإنسان كإطار قانوني لإنارة الملاحقة القضائيّة بشأن الإنتهاكات وإعتبار مضامينه كقواعد قانونيّة للتجريم والإدانة حيال المتورّطين في الإنتهاكات، يعدّ مطابق لمقتضيات الدستور في هذا الباب .
ويتّجه الإشارة أيضا بأنّه حتّى أحكام الدستور السّابق كانت تنصّ في المادّة 35 بأنّ الإتفاقيات الدوليّة المصادق عليها أقوى نفوذا من القوانين، غير أنّه نظرا لحالة التدجين والإرتهان الّتي كانت عليها المؤسّسة القضائيّة والّتي ظلّت تحت طائلة التوظيف في ظلّ النّظام الإستبدادي، فإنّ إحتكام القضاء للقواعد والمعايير الدوليّة حال تعهّده بالملفات المعروضة عليه كان مقصيا وفي أحسن الحالات كان بتحفّظ شديد .
وعليه بإنشاء الدوائر القضائيّة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة والّتي ستبت في القضايا المحالة عليها من هيئة الحقيقة والكرامة، وهي تتنزّل في أكثر الجرائم الجنائيّة خطورة (كالقتل والتّعذيب والفساد المالي ونهب المال العام …) ننتظر فقه قضاء جديد يتأسّس بدرجة أولى على القواعد والمعايير الدوليّة في مجال حقوق الإنسان، في ضوء قرارات الإحالة على المحاكمة الصّادرة عن هيئة الحقيقة والكرامة .

2 - الدّوائر القضائيّة المختصّة :

يمثّل إنشاء الدّوائر القضائيّة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة إرساء لآليّة قضائيّة تستهدف إعادة المحاكمات وفق المعايير الدوليّة للمحاكمة العادلة .
وستتولّى الهيئة إحالة الملفّات على هذه الدّوائر بالنّسبة لملفّات الإنتهاكات المعروضة عليها والتي لم تنتهي بالمصالحة (بالنّسبة للقضايا المتّصلة بالإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان) أو إبرام الصّلح بآليّة لجنة التّحكيم والمصالحة (بالنّسبة لقضايا الفساد المالي) .
إنّ إعتذار المتورّطين في الانتهاكات وقبول الضحيّة بذلك من شأنه غلق الملفّ بموجب المصالحة، كما أنّ إقرار المتورّطين في الفساد المالي وقبولهم بإرجاع الأموال المنهوبة والأموال المتأتّية من ممارستهم للفساد المالي، لفائدة خزينة الدّولة، من شأنه أيضا غلق الملفّات بمقتضى قرار التّحكيم الصّادر عن الهيئة .
أمّا الملفات الّتي لا تنتهي بالمصالحة أو إبرام الصّلح فإنّ جانب منها سيحال على الدّوائر القضائيّة المختصّة، ضرورة أنّه من بين الخمسة وستّين ألف (65000) شكاية المعروضة على الهيئة سيتعهّد القضاء بعدد من الملفّات المتعلّقة بإنتهاكات جسيمة بحقوق الإنسان وقعت ببلادنا، خلال المرحلة التاريخيّة الممتدّة في 01/07/1955 إلى 31/12/2013 (وهي الإطار الزّمني المحدّد لولاية الهيئة بمقتضى المنظّم لها) .

وتجدر الإشارة في هذا الصّدد، بأنّ المرحلة التاريخيّة والمشار إليها أعلاه، لا تقتضي بالضّرورة تعهّد الدّوائر القضائيّة المختصّة بالبتّ في سائر الإنتهاكات الحاصلة خلالها، بل يتوقّف الأمر على إحالة من الهيئة بناء على شكايات بعينها قد تلقّتها في الضّحايا، وعليه فإنّ الإختصاص الموضوعي للهيئة كان في الحقيقة مقيّدا بطبيعة القضايا المعروضة عليها من الضّحايا أو ذويهم (بالنسبة لإنتهاكات حقوق الإنسان) وبطلب التّحكيم والمصالحة الصّادر عن بعض رجال الأعمال الذين تورّطوا في الفساد المالي وتمّت مصادرة أملاكهم بمقتضى قانون المصادرة السّابق لقانون إنشاء الهيئة .

إعادة المحاكمات وفق معايير المحاكمة العادلة .

بالنّسبة للقضايا المعروضة لحدّ الآن على أنظار الدّوائر القضائيّة المختصّة، نلاحظ بأنّه سبق وأن تعهّد بها القضاء في ظلّ النّظام السّابق، وتمّت التتبّعات بشأنها في خرق تامّ لمعايير المحاكمة العادلة .

ونذكر في هذا الباب القضايا التّالية :

الضحيّة : نبيل بركاتي، ناشط سابق بحزب العمّال الشيوعي، توفّي تحت التعذيب يوم 8 ماي 1987 .
المتّهمون : أعوان الأمن بمنطقة قعفور من ولاية سليانة (تمّ تحديدهم بقرار الإحالة)
المحكمة المتعهّدة بالقضيّة : الدّائرة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة لدى المحكمة الإبتدائيّة بالكاف .
تاريخ إفتتاح الجلسات : 04 جويلية 2018
التّهم : القتل العمد – التّعذيب – الإيقاف التعسّفي وتزوير الوثائق، طبق أحكام الفصول 101، 151، 204 و250 من القانون الجزائي .

الضحيّة : عبد الواحد العبيدي، كان طالبا منتمي للإتّحاد العام التّونسي للطّلبة، توفّي بتاريخ 19 جوان 1991 .
المتّهمون : تمّ تحديدهم بقرار الإحالة وهم رئيس الدّولة وعدد من الوزراء ومسؤولين أمنيّين .
المحكمة المتعهّدة بالقضيّة : الدّائرة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة لدى المحكمة الإبتدائيّة بسوسة .
تاريخ إفتتاح الجلسات : 12 جويلية 2018
التّهم : القتل العمد – التّعذيب – الإخفاء القسري والإيقاف التعسّفي.

الضحيّة : رشيد الشمّاخي، منتمي لحركة النّهضة، توفّي بتاريخ 27 أكتوبر 1991.
المتّهمون : رئيس الدّولة وعدد من الوزاء والمسؤولين الأمنيّين تمّ تحديدهم بقرار الإحالة .
المحكمة المتعهّدة بالقضيّة : الدّائرة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة لدى المحكمة الإبتدائيّة بنابل .
تاريخ إفتتاح الجلسات : 29 جوان 2018
التّهم : القتل العمد – التّعذيب – الإغتصاب، والإيقاف التعسّفي، طبق أحكام الفصول 101، 204، 227، 250 و251 من القانون الجزائي .

هذه عيّنة من القضايا المعروضة حاليّا على الدّوائر القضائيّة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة وهي تشكّل إعادة محاكمات وفق معايير المحاكمة العادلة، ضرورة أنّ القاعدة الأصوليّة القانونيّة التي تقتضي عدم جواز محاكمة شخص مرّتين بشأن نفس التّهم المنسوبة تخضع للإستثناء في مجال العدالة الإنتقاليّة الّذي ينص قانونها على عدم إمكانيّة الدّفع باتّصال القضاء طالما ثبت عدم تقيّد المحاكمات السّابقة بالقانون ومعايير المحاكمة العادلة، وطالما ثبت بأنّها كانت غطاء لضمان الإفلات من العقاب .
لا تسقط بمرور الزّمن الدّعاوى النّاجمة عن الإنتهاكات المذكورة بالفصل 8 من قانون الهيئة .
وعليه فإنّ القاعدة الأصوليّة المتعلّقة بسقوط الدّعاوى لمرور الزّمن، تخضع هي أيضا للإستثناء الوارد بقانون العدالة الإنتقاليّة والذي يجيز إعادة فتح ملفّات الإنتهاكات حتّى في صورة وقوعها منذ عقود من الزّمن .
إنّ تعهّد القضاء من جديد بالملفّات المتّصلة بالإنتهاكات، هي رسالة أيضا للسّلطة القضائيّة، تذكّرها بأنّها لطالما كانت تحت طائلة التّوظيف بإستعمالها أداة لتصفية الخصوم السياسيّين والحقوقيّين، وحان الوقت لوضع حدّ لذلك وإحتكام القضاء في أداء مهامّه للقانون وللمعايير الدوليّة للمحاكمة العادلة دون غيرها من المؤثّرات والإملاءات، هي رسالة أيضا بكون مسار العدالة الإنتقاليّة يقتضي إستكمال كامل مراحله بما فيها إصلاح المؤسّسات (الأمنيّة والقضائيّة وغيرها) وحفظ الذاكرة الوطنيّة وفق معايير الأمانة الموضوعيّة، حتّى يختتم المسار برمّته تحت عنوان :
هذا لن يتكـرّر أبــدا

V- خصوصيّات التّغطية الإعلاميّة لمســار العدالـــــة الانتقاليّــــة

إنّ إحترام حقوق الإنسان والعمل على حمايتها يعدّ واجب مهني وأخلاقي وقانوني محمول على الصّحافيّين .
وقد وردت المعايير الدوليّة في هذا الباب، من نصوص ومواثيق وإعلانات صادرة عن أجهزة الأمم المتّحدة، تكريس مبادئ حريّة الإعلام وحقّ الصحفيّين في النّفاذ للمعلومة، كحقّهم في الحماية من كلّ أشكال الإنتهاكات .
إنّ المجال لا يتّسع في هذه الورقة لعرض النّصوص الحمائيّة للإعلاميّين، بإعتبارها تتعلّق بالأساس بمسألة التّغطية الإعلاميّة لمسار العدالة الإنتقاليّة .
إنّ التّناول الإعلامي في هذا الباب يخضع لخصوصيّات معيّنة بإعتبار طبيعة المسار بما يقتضي الإحتكام لضوابط دقيقة يتعيّن أن يتقيّد بها الإعلاميّون .
غير أنّه يتّجه الملاحظة بأنّ مهام الإعلاميّين وأدائهم لا يتوقّف على التغطية الإعلاميّة لمسار العدالة الإنتقاليّة فحسب، بل لطالما كان مصدرا من المصادر الهامّة الّتي إستندت إليها لجان الحقيقة حال توثيقها لطائفة الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وإجرائها للتقصّي والبحث والتّحقيق بشأنها .

1/ الإعلام مصدر من مصادر رصد الإنتهاكات المعتمدة في أعمال لجان الحقيقة المختصّة بالتقصي والتّحقيق في الإنتهاكات

وقد يمتدّ الإحتكام أيضا للمصادر الإعلاميّة إلى حدّ إعتمادها من بين الأدلّة في الملاحقة القضائيّة بشأن أكثر الجرائم خطورة : جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة .

2/ إسناد المركز القانوني للشهود بالنّسبة للصحفيين من طرف المحاكم الجنائيّة الدوليّة الخاصّة بيوغسلافيا السّابقة وبرواندا .

وبالعودة لخصوصيّات التّغطية الإعلاميّة ذات الصلة بمسار العدالة الإنتقاليّة، يتعيّن الإشارة إلى مبدأ الحفاظ على السريّة المحمول على أعضاء الهيئة حال قيامهم بمهامهم وذالك بناءا على ما تظمّنته أحكام الفصل 69 من القرار عدد 1 لسنة 2014 المؤرّخ في 22 نوفمبر 2014 والمتعلّق بضبط النظام الدّاخلي لهيئة الحقيقة والكرامة .

3/ يلتزم أعضاء الهيئة وأعوانها وعملتها والمتعاونين معها بالمحافظة على السرّ المهني وواجب التحفّظ ويحجّر عليهم إفشاء أعمال الهيئة أو نشرها خارج ما يصدر في تقاريرها وبياناتها

وهي ذات التنصيصات الواردة بأحكام الفصل 31 من القانون عدد 53 المنظّم للعدالة الإنتقاليّة، وأضيفت إليها المقتضيات التّالية :

4/ ولا يحق الحصول على المؤيّدات والوثائق الّتي بحوزة الهيئة أو الإطّلاع عليها إلاّ من قبل المعنيين بها والمؤاخذين بموجبها، وفي الحالات الأخرى لا يكون ذالك إلاّ بمقتضى إذن منها أو من المحكمة .

نلاحظ إذن أنّ النقاد للمعلومة غير ممكن بالنّسبة للصحافيين في هذه المرحلة من مسار العدالة الإنتقاليّة، ومرد ذلك هو :

  • ضمان سير التقصي والتّحقيق بعيدا عن المؤثرات الخارجيّة والمخاطر المفترضة لتوظيفها .
  • حماية الضحايا خلال كامل مرحلة التقصّي والبحث والتّحقيق وحصص السماعات السريّة .
  • حماية الشهود .
  • حماية الجناة .

غير أنّه لا مناص من الربط المباشر مع وسائل الإعلام في مرحلة ما في مسار العدالة الإنتقاليّة، فذلك لوحده يمكّن المجتمع من الإطّلاع على ما أفضت إليه أعمال هيئة الحقيقة والكرامة في مرحلة التّقصي والبحث الموكولة إليها، كما يهدف ذالك إلى حشد وتعبئة الرّأي العام بشأن أهميّة مسار العدالة الإنتقاليّة ضمن المسار المجتمعي الشامل في الإنتقال الديمقراطي .

5/ جلسات الإستماع العموميّة بوابة التّواصل المباشرمع وسائل الإعلام وأداة فعالّة في إنجاح المسار

لا جدال في كون التّغطية الإعلاميّة الوطنيّة والدوليّة لجلسات الإستماع العموميّة تمثل مرحلة رئيسيّة في مسار العدالة الإنتقاليّة، ضرورة أنّ التغطية الإعلاميّة تمكّن الرأي العام من النفاذ فعليا إلى الوقائع والملابسات المتعلّقة بالإنتهاكات المعروضة على أنضار هيئة الحقيقة والكرامة، وذالك من خلال متابعة تصريحات الضحايا والشّهود والجناة، مباشرة عبر أجهزة الإعلام السمعيّة والمرئيّة أو الإلكترونيّة، كتغطيتها أيضا من طرف الصّحافة المكتوبة .
غير أنّه خلافا لمعايير المعتمدة في التغطية الإعلاميّة عموما فإنّ مواكبة الإعلام لهذا المسار يخضع لقيود غير مألوفة عادّة في المجالات الأخرى، وهي القيود المنصوص عليها بميثاق التواصل مع الإعلام والّذي أعدته هيئة الحقيقة والكرامة للغرض.

ولئن تبدو هذه القيود مجحفة ومن شأنها فرض تضييقا على العمل الإعلامي ومصادرة حقّه في النفاذ إلى المعلومة، إلاّ أنّ ذالك تقتضيه طبيعة أعمال الهيئة والّتي يفترض أن تحتكم بدرجة أولى إلى رغبة الضحايا وشروط الشهود وحتّى رغبة الجناة، بعدم وضعهم تحت الأضواء الإعلاميّة وإخضاعهم لاستجوابات الصحفيين.

كما أنّه بالنّظر إلى الطبيعة القاسية والمؤلمة للإنتهاكات موضوع النّظر خلال جلسات الإستماع العمومي، من المفروض أن تحتكم الهيئة إلى أقصى معايير الأمن والسّلامة والحماية والتجرّد خلال أداءها بجلسة الإستماع العمومي، وهي معايير مفروضة على الجميع في الحقيقة، وسائل الإعلام وسائر الحضور بالجلسة من منظمات المجتمع المدني، والأحزاب والمواطنين .
لذالك كانت تحجر بسائر أوجه التفاعل خلال الجلسة، من تصفيق، وتعقيب وتقييم وغيرها من السلوكيات الّتي من شأنها إرباك الضحايا أو الشهود أو المسؤولين عن الإنتهاك .
فمن هذا المنطق الّذي يضفي شبه القداسة على جلسة الإستماع العمومي كانت القيود مسلّطة أيضا على الإعلاميين .

إنّ القيود الّتي تفرض على الإعلاميين حال مواكبتهم لفعاليّات جلسات الإستماع العموميّة، سرعان ما تنجلي لاحقا، وذلك بمناسبة مبادرة الإعلام بطرح نقاش عام بشأن الحالات المعروضة بالجلسات وبشأن مسار العدالة الإنتقاليّة برمّته .
ويشهد هذا النقاش العام المعروض على الرّأي العام تداخل عدّة أطراف وجهات، معنيّة مباشرة وبشكل غير مباشر، بالمسار من أعضاء الهيئة ذاتها، إلى الضحايا والشهود وحتّى المسؤولين عن الإنتهاكات، مرورا بالأحزاب وجمعيات المجتمع المدني وأهل الإختصاص في القانون .
نقاش عام يديره الإعلام ويسعى من وراءه إلى التقييم والتفاعل مع المسار ونقده عند الإقتضاء، في إنتظار ما سيكشف عنه التّقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة حال تغطيتهم لجلسات الإستماع العموميّة .
هذا ويتّجه الإشارة في هذا الصّدد إلى كون التعاطي مع المسألة وفق ميثاق محدّد يشمل قيودا، كان تقريبا القاسم المشترك بالنّسبة للعديد من لجان الحقيقة على غرار الحالة المغربية حيث أبرمت هيئة الإنصاف والمصالحة إتّفاقيّة مع وسائل الإعلام السمعيّة والبصريّة، شملت تنسيق متواصل في برمجة وبث جلسات الإستماع العموميّة، وإنجاز وصلات إشهاريّة لمواعيد البث والإعلان عن تاريخ الجلسات بنشرات الأخبار، مع تأطير مستمر للطواقم الصحفيّة، بالإضافة طبعا إلى ضرورة إلتزام الصّحفيين بالقيود الواردة بالإتّفاقية والّتي تقتضيها المعايير المتّصلة بتنظيم جلسات الإستماع العموميّة .

حوار مع يمينة الزغلامي: كان من الأجدى أن تكون الهيئة المتكفلة بمسار العدالة الانتقالية مستقلة سياسيًا عن كل التجاذبات

السيّدة يمينة الزغلامي، نائبة بمجلس نواب الشعب عن حركة النهضة، انتقدت ما وصفته باخفاقات مسار العدالة االنتقالية في جوانب كثيرة غير أنّها لم تُخف أملها في أن تتواصل التجربة حتّى بعد نهاية عهدة هيئة الحقيقة والكرمة حتّى تلتئم جراح الماضي ونطوي صفحة الظلم والعسف والقمع.

يمينة الزغلامي

باقتراح من حركة النهضة وتحديدًا من الأستاذ سمير ديلو تمت إضافة العدالة الانتقاليّة إلى وزارة حقوق الإنسان.. فبعد مرور هذه السنوات هل ترون أن هذا الاختيار كان صائبًا أم لا؟

إن الاختيار كان سليمًا ولكن هناك أخطاء وقعت في المسار، كان السيد سمير ديلو هو صاحب المقترح بإضافة مسألة العدالة الانتقاليّة إلى وزارة حقوق الإنسان، وقد وقع تبني هذا الموقف من طرف حركة النهضة وربما يعود هذا إلى تكوين السيد سمير ديلو الحقوقي، لكن الوزارة عندما ابتدأت الاشتغال على القانون لم تنفرد وحدها بالصياغة بل أشركت المجتمع المدني فيها.

قانون العدالة الانتقاليّة في تونس يتعلق ليس فقط بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ولكن أيضًا بالفساد المالي، وهي تجربة فريدة من نوعها في العالم. هذا القانون كان نتاج استشارة وطنية وأخذ من الوقت حوالي السنة والنصف لإعداد القانون، وكان هناك دعم من عدة شركاء دوليين. مسار العدالة الانتقاليّة لا يقتصر في الهيئة بل هو مسار متكامل بدأ قبل الهيئة ويجب أن يتواصل بعد تقديمها لتقريرها النهائي. كان هناك دعم من عدة منظمات دولية أيضًا للقيام بهذه الاستشارة الوطنية لصياغة القانون.

لو تم تخيير الأستاذ سمير ديلو بين الحكومة والمجتمع المدني للقيام بالإشراف على تجربة العدالة الانتقاليّة أظن انه سيختار المجتمع المدني الآن بعد 8 سنوات من تجربة العدالة الانتقاليّة التي اعتبر أنها مسار متكامل ولا يقتصر على هيئة الحقيقة والكرامة لتنفيذ هذا المسار حتى بعد انتهاء عهدة الهيئة فهو منوط بعهدة الدولة، أنا أرى أنه من الأفضل إشراف المجتمع المدني، وكان من الأجدى أيضًا أن تكون الهيئة المتكفلة بهذه المسالة مستقلة سياسيًا عن كل التجاذبات.

امتنع جزء كبير من التيار المدني عن المشاركة في الحوار وكان هناك اتهام بسيطرة حركة النهضة على هذا الحوار كما تم اتهام المنظمات الدولية مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمركز الدولي للعدالة الانتقاليّة بتبني رؤية حركة النهضة حول العدالة الانتقاليّة وتم التصويت على قانون العدالة الانتقاليّة في الليل وحصل اعتراض عليه من قِبل عدة جمعيات وأطراف.. فهل ترون أنه كان هناك بطء من الحركة السياسية داخل البرلمان مما أجبر بعض الأحزاب من بينها النهضة لتمرير هذا القانون بسرعة قبل الخروج من الحكم؟

هناك مجموعة كبيرة من الحقوقيين في تونس يعتبرون أن المجال الحقوقي هو حِكر عليهم ولم يتقبلوا وجود أناس جدد يشاركونهم المجال الحقوقي، ولذلك هم امتنعوا عن المشاركة في الحوار الخاص بالعدالة الانتقاليّة. البطء في البرلمان في تمرير القانون كان نتيجة خيار سياسي. الخيار السياسي المؤمن والمقتنع بخيار قانون تحصين الثورة وبخيار القوانين المشابهة لقانون الاجتثاث في العراق ولكنه أخف قليلًا والذي يمنع المنضمين إلى النظام القديم من المشاركة في الحياة السياسية والمنع كان من المقترح أكثر من 10 سنوات.

لقد قمنا بثورة سلمية واصطففنا وراء المجلس الوطني التأسيسي الذي كان من المفروض أن يجتث هؤلاء من الحياة السياسية إذا كانت هناك هذه المقاربة ولها حججها ولها من يؤمن بها إيمانًا راسخًا وأنا كنت من بين هؤلاء مقترح قانون تحصين الثورة كان مقترح حزب المؤتمر من أجل الجمهورية ولكننا طورناه وأضفنا له فصولًا تعنى أكثر بالمحاسبة وبالمنع.

وبين تيار آخر وسياسيين آخرين يرون أن المجال مجال عدالة انتقالية بعد الاطلاع عن كثب لتجارب مقارنة في العدالة الانتقاليّة من خلال أعمال وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقاليّة التي شاركت فيها تغيرت القناعة لدي من ضرورة أن تتبنى تونس منظومة العدالة الانتقاليّة كمنظومة متكاملة.

عند التصويت وقعت جملة من التعديلات مثل النقطة المتعلقة بتزوير الانتخابات فما رأيك؟

قانون العدالة الانتقاليّة التونسي كانت فيه ميزة أنه لم يكن متعلقًا فقط بانتهاكات حقوق الإنسان ولكن أيضًا بالفساد المالي، وفي هذه النقطة تمت إضافة نقطتان هما الهجرة القسرية وتزوير الانتخابات من طرف حركة النهضة في التعديلات التي تمت إضافتها للقانون، الانتهاكات الجسيمة ليس فيها مصالحة بل تمر مباشرة للدوائر المتخصصة أما قضايا الفساد المالي ففيها إمكانية الصلح والصلح يوقف التتبع.
كان هناك اختلاف حول طريقة اختيار أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة فهل كانت هناك محاصصة بين الأحزاب هناك مزج بين خيارات حزبية مقيدة بالسلم التقييمي وليس بالمرجعية الحزبية.

نحن في كتلة حركة النهضة في بعض الأحيان اخترنا أشخاص كفاءات ليس لنا بهم أي علاقة بل فقط احترامًا للسلم التقييمي وتم انتخاب أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة بالتوافق بين الكتل البرلمانية.

في كل التجارب الديمقراطية لن تكون الهيئات مركزة منذ البداية بصفة كاملة ولذلك نحن إلى الآن بصدد تركيز بعض الهيئات. مثل المحكمة الدستورية التي من الضروري تركيزها الآن. تم اختيار أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة بالتوافق التام.

فيما يخص مسألة التمديد في عهدة الهيئة.. هل يُعتبر البرلمان مسئولًا عن الصراع الذي حدث فيما يتعلق بمُدة عمل الهيئة التي بدأت فيها الانشقاقات منذ الإعلان عمن سيترأسها؟

هذه هيئة مستقلة تم انتخاب أعضائها بالتوافق وبدأت بوادر الانشقاق منذ البداية بين الشماري وسهام بن سدرين وبعد بداية إيداع الملفات وانطلاق عمل الهيئة حدثت عدة استقالات في الهيئة وتم إعفاء بعض الأعضاء أيضًا ولكن بما أن الهيئة مستقلة لم يتدخل البرلمان في الخلافات الداخلية لها.

وكان يفتح النقاش في كل مرة داخل البرلمان عند التصويت على ميزانية الهيئة ولو لم تكن ميزانية الهيئة ضمن ميزانية الدولة لما تم التصويت عليها ولحدثت أزمة إذ ما كان يدفع بعض النواب على التصويت على الميزانية هو أن رئيس الحكومة في كل مرة يقول إنه يجب التصويت لإنها جزء من الميزانية العامة وإن لم يقع التصويت على ميزانية الهيئة فإنه لن يقع التصويت على ميزانية الدولة ككل.

وقع تدخل البرلمان أيضًا لسد الشغور بعد عمل كبير قامت به لجنة مضيقة داخل البرلمان ووقع رفع هذا المطلب للجلسة العامة ولكن تسبب غياب نائب فقط في جلسة التصويت بفشل العملية ككل وطويت مسألة سد الشغور، ويتحمل البرلمان بكل كتله وتياراته المسؤولية كاملة في هذه المسألة. إلى حد الآن هناك مشكلة النصاب في الهيئة والجميع يتحمل المسؤولية في هذا.

جلسات الاستماع الكثيرة ساهمت في تخفيف الحمل على الضحايا فقط رغم أن الجلسات كانت مكثفة ولا تتناسب مع الإمكانيات المادية للهيئة

ما رأيك فيما يخص موقف حركة النهضة من قانون المصالحة وما أسباب مساندة جزء من نواب الحركة له؟

قانون المصالحة الإدارية هو قانون مقترح من طرف رئيس الجمهورية الذي من حقه تقديم مقترحات قانونية وتجدر الإشارة إلى أن أول من تصالح مع النظام القديم في 2012 وقدمه كمنقذ للبلاد في إطار تجربة مجموعة إنقاذ تونس، إذًا هذا هو اللقاء الأول بين النظام القديم والمجموعة الديمقراطية أما نحن في حركة النهضة فقد تطورنا في إطار فهمنا العميق للواقع السياسي التونسي وقد تم تمرير قانون المصالحة في إطار التوافق وقد تحول قانون المصالحة إلى قانون عفو إداري في 8 فصول.
هناك معادلة صعبة جدًا وضعنا أمامها وتتمثل في المحافظة على التوافق مع الباجي قائد السبسي حرصًا على التجربة الديمقراطية في البلاد والحفاظ على منظومة العدالة الانتقاليّة ولكن تم تعديل قانون المصالحة وتم إلغاء عدة فصول كانت محل خلاف كبير.

هل تعتبرين أن تجربة هيئة الحقيقة والكرامة وتجربة العدالة الانتقاليّة ككل في تونس تجربة ناجحة؟

جلسات الاستماع الكثيرة ساهمت في تخفيف الحمل على الضحايا فقط رغم أن الجلسات كانت مكثفة ولا تتناسب مع الإمكانيات المادية للهيئة.
يجب أن تنتهي منظومة العدالة الانتقاليّة إلى مصالحة وطنية شاملة وإلى طي صفحات الماضي من انتهاكات حقوق الإنسان بكل أشكالها والاعتراف بالحقيقة وأن تقوم هذه المنظومة كذلك بإدخال الجلاد فيها لأن العدالة الانتقاليّة لا تتعلق فقط بالضحية إذ إنه في بعض المنظومات الناجحة جدًا للعدالة الانتقاليّة دخل الجلادون للمنظومة وأصبحوا من الفاعلين فيها. من الأكيد أن المنظومة في تونس ستكون ناجحة في بعض المسارات ومخفقة في البعض الآخر

العدالة الانتقاليّة في ليبيا: مسارات مُتعثِّرة مع غياب الرُؤية المُجتمعية والإرادة السياسية

تمهيد

من الصعب الحديث عن العدالة الانتقاليّة ومساراتها في بلد مثل ليبيا مر بعدة نزاعات مسلحة وعلى فترات مختلفة وتتعدد فيه الحكومات والسلطات التشريعية والمجموعات المسلحة، بالرغم أن ليبيا لم تعرف النزاع المسلح الداخلي ولا الحرب الأهلية في تاريخها الحديث منذ استقلالها سنة 1951م، ورغم الطابع المُسلح الذي صاحب عملية التغيير والثورة في ليبيا سنة 2011م وما بعدها، إلا أن هذا لم يمنع في البداية أن تكون هناك عملية تحول ديمقراطي مبشرة، ففي سنة 2012 أقيمت أول انتخابات ديمقراطية في ليبيا أسست سلطة تشريعية وتنفيذية وبدأت الأمور تتجه نحو الاستقرار، إلا أن المسار الديمقراطي تعثر لمصلحة المسار العسكري مما نتج عنه أزمة دستورية في البلاد وازدواجية السلطة التشريعية والتنفيذية فيها.

ومن الطبيعي أن أي مرحلة تحول ديمقراطي أو تغيير في النظام السياسي يستلزم بالضرورة أن يكون هناك مسارًا تشريعيًا ومجتمعيًا وسياسيًا للعدالة الانتقاليّة، التي تساهم في دعم التحول الديمقراطي من خلال الكشف عن الحقيقة وجبر الضرر والمحاسبة والإصلاح المؤسسي وصولًا إلى مصالحة وطنية حقيقية تساهم في معالجة التصدع المجتمعي وتدفع البلاد باتجاه الاستقرار والتنمية.

لكن في ليبيا عجزت السلطات المتعاقبة عن تبني مشروع حقيقي للعدالة الانتقاليّة قائم على ركائز ثابتة وإن برزت بعض المحاولات الخجولة التي لم تنجح في وضع العجلة على السكة وكانت العشوائية والتخبط وغياب الإرادة السياسية من أبرز مزايا مسار العدالة الانتقاليّة.

تشريعات المجلس الانتقالي المؤقت “بداية مُتعثرة”

كانت البداية مع المجلس الوطني الانتقالي المؤقت وهو أول سلطة سياسية توافقية بعد الثورة وإن كانت غير منتخبة لكن كان لها سبق المبادرة وفي مرحلة مبكرة جدًا في إصدار أول تشريع للعدالة الانتقاليّة بتاريخ 2/26/2011م وهو القانون رقم 17 لسنة 2012م في شأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقاليّة والذي جاء في 18 مادة، وكان عبارة عن مقترح من وزارة العدل عبر لجنة خبراء، ولم يُعرض للمناقشة على المجتمع المدني ولا الضحايا، وحقيقة كان قانونًا عاجزًا غير قادر على مواجهة التركة الثقيلة من الانتهاكات التي أورثها النظام السابق وأيضًا لم يتمكن من معالجة الانتهاكات الحديثة التي عاصرت مرحلة الثورة والتغيير، إضافة لتجاوزه مسألة الإصلاح المؤسسي وعدم النص عليها مطلقًا.

وكان مُهمًا في هذا القانون إنشاء هيئة تقصي الحقائق والمصالحة إلا أن تشكليها الذي جاء قضائيًا خالصًا ولم تُمثل فيه المرأة ولا الشباب ولا الأقليات ولا الضحايا مما جعل الهيئة تولد عاجزة ومكبلة وغير قادرة على التعاطي مع واقع معقد.
وبالفعل لم يكن للقانون تأثير حقيقي ولم يساهم في الدفع نحو استقرار الدولة ودعم التحول الديمقراطي ومعالجة الشرخ المجتمعي، كونه لم يكن قانونًا شاملًا ومتكاملًا وجاء بصفة استعجالية ولم يخضع لاستشارات مجتمعية أو نقاشات مفتوحة.
بل إن السلطة التشريعية نفسها التي أصدرته قامت بإصدار تشريعات لاحقة بعده منها ما جاء لمعالجة أحداث محددة لم يتمكن هذا القانون من معالجتها منها العفو عن بعض الجرائم ومسألة الإفراج عن السجناء التي تمت بشكل عشوائي أثناء وبعد النزاع المسلح سنة 2011م مما تطلب معالجة تشريعية خاصة فصدر القانون رقم 35 لسنة 2011م بشأن العفو.

وبالتزامن معه أصدر المجلس الوطني الانتقالي تشريعًا جديدًا يحمل رقم 38 لسنة 2012 بشأن بعض الإجراءات الخاصة بالمرحلة الانتقاليّة يُعزز مفهوم الإفلات من العقاب، ويُعطي الفرصة لمن ارتكب انتهاكات الإفلات من دائرة المحاسبة حيث ورد في نص المادة الرابعة من هذا القانون: “لا عقاب على ما استلزمت ثورة السابع عشر من فبراير من عمليات عسكرية أو أمنية أو مدنية قام بها الثوار بهدف إنجاح الثورة وحمايتها”. فمثل هذا النص يفتح الباب على مصراعيه أمام الإفلات من العقاب ويعطي غطاءً قانونيًا لفئة محددة من المجتمع يسمح لها بارتكاب الانتهاكات من دون محاسبة، خاصة أن معايير تطبيق النص القانوني بهكذا صياغة تعد مرنة وفضفاضة وتخضع للتفسيرات والتأويلات المختلفة مما يسهل استغلالها.
وقد اعتبر د. وحيد الفرشيشي أن الاعتراف بشرعية الثوار في عمليات التتبع الجنائي يمثل تهديدًا لمسار العدالة الانتقاليّة قد ينحرف بها نحو عدالة انتقامية.

واستمرار لسياسة العبث التشريعي وغياب استراتيجية محددة تُبين غاية المُشرع منها أصدر المجلس الانتقالي قانونًا جديدًا أفرغ قانون العدالة الانتقاليّة من محتواه ورسَّخ مفهومًا جديدًا وهو التمييز بين الضحايا إذ خص السجناء السياسيين يتشريع خاص بهم رغم أن قانون العدالة الانتقاليّة يشملهم فصدر قانون رقم 50 لسنة 2012م بشأن السجناء السياسيين، حيث خص القانون من حجزت حريتهم في السجون والمعتقلات الخاصة بسبب معارضتهم للنظام السابق سواء عسكريين أو مدنيين من تاريخ 1.9.1969 وحتى 15.2.2011م وقد رسخ هذا القانون صدور تشريعات لحالات انتهاك محددة .

تشريعات المؤتمر الوطني العام «استمرار الفوضى»

وحتى مع تغيُّر السلطة التشريعية وانتخاب المؤتمر الوطني العام في 2012.7.7م استمرت ذات السياسة التشريعية المرتبكة فكانت البداية مع القانون رقم 29 لسنة 2013 بشأن العدالة الانتقاليّة والمصالحة الوطنية.
وقد وضع هذا النص أن مفهوم العدالة الانتقاليّة يشمل بعض آثار ثورة السابع عشر من فبراير وهي تحديدًا (مواقف وأعمال أدت إلى شرخ في النسيج الاجتماعي وأعمال كانت ضرورية لتحصين الثورة وشابتها بعض السلوكيات غير الملتزمة بمبادئها). وقد وسع هذا النص تعريف مفهوم العدالة الانتقاليّة في الحالة الليبية، فجعله يشمل الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها الثوّار أو المقاتلون تحت راية المجلس الوطني الانتقالي أو غيره من السلطات الأخرى. وبذلك، لم يقتصر القانون على معالجة انتهاكات النظام السابق، ولكن بقيت مفاعيله معدومة نسبيًا.
فلم تنشر نتائج التحقيقات رغم تشكيل هيئة تقصي الحقائق هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى عمدت السلطة التشريعية لتفريغه من محتواه من خلال إصدار تشريعات موازية يفترض أن تكون في صلب عمل العدالة الانتقاليّة سواء كانت هذه القوانين قبل صدوره ومهدت لإفشاله أو بعد صدوره فأفرغته من محتواه.

فمثلا تمّ إصدار قانون رقم 13 لسنة 2013 بشأن العزل السياسي والإداري والذي أقصى كثيرًا ممن شغل في ظل نظام القذافي مناصب سياسية وسيادية. وقد أحدث هذا القانون انقسامًا عميقًا في المجتمع وكان المفترض أن يُترك هذا الشأن لبند الإصلاح المؤسسي وهو ركيزة أساسية في العدالة الانتقاليّة الذي من خلاله يتم إبعاد الفاسدين ومن أضروا بالمال العام كما أنه جاء بصورة انتقائية ولم يستند على معايير موضوعية وفشل في وضع آلية لتطبيقه وانتهك حقوق الأفراد المدنية والسياسية وكرَّس التمييز بين المواطنين بمعايير فضفاضة.
ولم يخالف المؤتمر الوطني العام عادات سابقه التشريعية في التمييز بين الضحايا وإصدار التشريعات لحالات انتهاك محددة دون غيرها، فقد أصدر القرار رقم 59 لسنة 2013 م بشأن واقعة مذبحة بوسليم وحيث ميَّز هذه الجريمة عن غيرها من الجرائم واعتبرها جريمة بقرار وليس بقانون، وأعطى اختصاص التحقيق للجنة خاصة ومنحها وصف جريمة الإبادة الجماعية وركز القرار على التعويضات والمزايا المالية.
ولم يكتف المؤتمر الوطني بتمييز هذه الجريمة بقرار صادر منه بل عزز ذلك بالقانون رقم 31 لسنة 2013م في شأن تقرير بعض الأحكام الخاصة بمذبحة بوسليم حيث ألغى القرار السابق واعتبرها جريمة ضد الإنسانية وركز على المزايا والتعويضات.

تشريعات مجلس النواب «تشريعات في ظل الانقسام السياسي»

وحتى مجلس النواب المنتخب في 2014.6.25 ولم يكن مختلفًا عن سابقيه في انعدام السياسة التشريعية وغياب الرؤية والتي تجسدت بصدور القانون رقم 6 لسنة 2015 بشأن العفو الذي نص على عفو مشروط عن جميع الليبيين الذين ارتكبوا جرائم معينة خلال الفترة من 15 فبراير 2011 وحتى صدور القانون، معلنا انقضاء الدعاوى الجنائية بشأنها وسقوط العقوبات المحكوم بها والآثار المترتبة عليها.
ومن أبرز الشروط التي وضعها القانون للاستفادة من العفو، التعهد المكتوب بالتوبة ورد المال محل الجريمة والتصالح مع المجني عليه وتسليم الأسلحة والأدوات التي استعملت في ارتكاب الجريمة، وإعادة الشيء الى أصله في جرائم الاعتداء على العقارات والممتلكات المنقولة.

كما أن القانون لا يسري على كل الجرائم. فقد استثنى من انطباق العفو جرائم الإرهاب وجرائم جلب المخدرات والاتجار فيها، وجرائم المواقعة وهتك العرض وجرائم القتل على الهوية والاختطاف والتعذيب، وجرائم الحدود والفساد (المادة الثالثة منه).
وما زاد هذا القانون قابلية للنقد هو أنه جاء في وقت انقسام سياسي ونزاع عسكري وأنه كان من الحري في فترة كهذه البحث عن إعادة صياغة وتفعيل مشروع العدالة الانتقاليّة بالكامل، لا أن يصدر قانون عفو يعتريه جدل كبير حول مدى نجاعته وتوقيت صدوره.

العدالة الانتقاليّة في مشروع الدستور

وقد حاولت الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور التعاطي مع مسألة العدالة الانتقاليّة والمصالحة الوطنية في باب التدابير الانتقاليّة في المواد من 197 إلى 200، ويتضح من هذه النصوص أن هذه التدابير غير مرتبطة بحقبة زمنية معينة، وأنها وردت بشكل عام لتشمل كل انتهاكات حقوق الإنسان والتعويض عنها، ونظمت آلية رد الحقوق لعقارية والمنقولة لكنها لم تلزم السلطة التشريعية بإصدار قانون للعدالة الانتقاليّة.

العدالة الانتقاليّة في الاتفاق السياسي الليبي

وحتى الاتفاق السياسي الموقع في 17 ديسمبر2015م في الصخيرات لم يجيد التعامل مع ملف العدالة الانتقاليّة وتعاطى معها بطريقة غير سوية، فالملاحظ عمومًا تقليص جوهر «العدالة الانتقاليّة» الذي هو «جبر الضرر» لصالح فكرة «التسوية بأي ثمن» والتي جرى تضخيمها في الاتفاق على الرغم من أنه لا مصالحة بلا عدالة.
ومنها غياب التعويضات، وغياب جلسات استماع للوقوف على الحقائق، كما اقتصر الاتفاق على المطالبة بتفعيل قانون العدالة الانتقاليّة رقم 29 لسنة 2013م ولم يتحدث عن صياغة مشروع جديد نظرًا لعيوب القانون، ولتغير الظروف وتطور الأحداث المصاحبة له

واستحدث الاتفاق هيئات من دون تعريف دقيق لاختصاصاتها كهيئة لكشف الحقائق، وهيئة لحقوق الإنسان، وهيئة لرصد الانتهاك، ومن شأن هذا الأمر أن يُسبب دون شك إرباكًا في أداء هذه الهيئات والتداخل غير المنضبط، وغياب التنسيق وقد افتقر الاتفاق السياسي لتحديد آلية تفعيل العدالة الانتقاليّة والمصالحة وتقصي الحقائق وتوثيقها، كما أهمل الاتفاق تحديد الخطوات والآليات الأساسية والعملية في ملفات حيوية، من أبرز تلك الملفات ملف المحتجزين والمفقودين والسجناء والنازحين والمهجرين.

مستقبل العدالة الانتقاليّة في ليبيا

كما اتضح من رصد مسار العدالة الانتقاليّة في ليبيا ومتابعة تفاصيله، يتجلى بوضوح أنه لا يكفي أن تكون السلطة منتخبة لضمان نجاح قانون العدالة الانتقاليّة دون عقد مشاورات واسعة مع المجتمع المدني وممثلي الضحايا لخلق إرادة مجتمعية، وأن إغفال الطبيعة التشاركية للعدالة الانتقاليّة يؤدي بالنهاية إلى فشل المسار أو على أقل تقدير تعثره.
كما أن مسار العدالة الانتقاليّة لن ينجح في ظل استغلال السلطات التشريعية الأوضاع والظروف في تبني تشريعات لخدمة اتجاهات سياسية بعينها، مما سينحرف بها عن أهدافها الحقيقية ويؤدي بالضرورة لتحول هذه القانون لآليات للثأر والانتقام وتصفية الحسابات.
يضاف لكل ما سبق العمل الأساسي وهو ضعف مؤسسات الدولة وهشاشتها وعدم قدرتها على العمل بانتظام، إضافة لتردي الخدمات وحالة عدم الاستقرار الاقتصادي والانفلات الأمني وتكرار الاشتباكات العسكرية من حين لآخر يساهم في عرقلة المسار ويؤدي لفشل الإرادة السياسية أو لعجزها على أقل تقدير.

وختامًا رغم تعدد السلطات وتنوعت الخلفيات السياسية وتعاقبت الحكومات لكنها اتفقت جميعها في انعدام الإرادة السياسية لديها في تبني مشروع متكامل للعدالة الانتقاليّة، فالسياسات التشريعية عشوائية ومُرتبكة ومبنية على ردود أفعال سياسية، وكل السلطات الانتقاليّة لا تملك إرادة سياسية حقيقية وحاسمة لتبني المشروع وفي ظل تغييب رأي وإرادة المجتمع والضحايا وعدم إشراكهم في المشاورات العامة وفتح حوار مجتمعي حقيقي يخلق إرادة مجتمعية قوية تساهم في بناء مشروع متكامل ومتوازن للعدالة الانتقاليّة وقابل للتطبيق.

حوار مع عماد رقيعة: رئيس اللجنة الإعلامية لعودة أهالي تاورغاء: اتّفاقية العودة فيها إجحاف كبير وانتهاك لحقوق الإنسان وعنصرية وهيمنة مواطنين على آخرين ضعفاء

ما انفكّ الناشط عماد رقيعة، رئيس اللجنة الإعلامية لعودة أهالي تاورغاء، يناضل من أجل انهاء ما وصفها بـ”االبنود العنصرية والمجحفة” التي فُرضت على عودة أبناء تاورغاء. في الحوار التالي يغوص بنا ضيفنا في أعماق معاناة أهالي تاورغاء ويشرح الوضعية الحالية لهم.

عماد رقيعة (رئيس اللجنة الإعلامية لعودة أهالي تاورغاء)

أزمة تاورغاء الإنسانية تشعبت ما بين إصرار الأهالي على العودة، وبين تحولها إلى قضية تجاذب سياسي جعل منها تحديًا جديدًا لحكومة الوفاق.. فهل من الممكن أن تلخص لنا ما حدث بالضبط في هذه الأزمة؟

منذ بداية القضية عام 2011 لم يتخذ أهالي تاورغاء أي جانب للعنف في سبيل تحقيق العودة الأمنة سواء على مستوى الأهالي أو القبائل المكونة لتاورغاء أو المجلس المحلي في تلك الفترة.
بعد انقسام الدولة بعد عملية فجر ليبيا عملت حكومة الثني في الشرق بتناول قضية تاورغاء من جانب سياسي حيث حاولت التدخل في بعض الأمور والموافقة بإنشاء بلدية في شرق ليبيا لتحقيق نصر بعد دخول حكومة الوفاق لطرابلس، أما من جانب الوفاق فقد حاولت بكل الطرق أن تحدث تغييرًا في الوضع بأن يكون عودة أهالي تاورغاء في ظل حكومة الوفاق مكسبًا سياسيًا يحسب لها في حال حدثت أي مناقشات دولية حول الحالة في ليبيا.

واجه تنفيذ إعلان المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق مطلع فبراير 2018 الرامي لإرجاع المهجرين لمدينتهم عراقيل بسبب اعتراض مكونات مدينة مصراته على بعض بنود الاتفاق لاسيما الخاصة بجبر الضرر وتعويض المتضررين من أهالي مصراته، فهل ترى أن حكومة الوفاق هي من تتحمل المسؤولية كاملة عن الانتهاكات الجسيمة التي حدثت للنازحين؟

بالطبع هي السلطة المسؤولة أمام شعبها بالإضافة إلى المحرضين من طرف مصراته وهم كُثر وفي مقدمتهم بعض أعضاء المجلس البلدي مصراته، حيث كثير من الفاعلين في مصراته لم يكونوا أصلًا معترفين بحكومة الوفاق، وفيما يخص جبر الضرر فقد كانت نتائجه كارثية بأن تحققت العودة مقابل المال ولم يصل الوضع لعودة حقيقية مطلقًا حيث مازالت المدينة تعاني من أبسط المقومات كالماء والكهرباء، البنود فيها إجحاف كبير وانتهاك لحقوق الإنسان وقد عرض مجلس الحكماء والشورى وثيقة بيَّن فيها أسباب رفض الاتفاق لما فيه من إهانة وعنصرية وفوقية وهيمنة مواطنين على آخرين ضعفاء.

وقعت مدينتا تاورغاء ومصراته الليبيتان، على ميثاق صلح بينهما يُنهي خصومة امتدت لسبعة أعوام ويقضي بعودة أهالي تاورغاء المهجرين لمدينتهم التي نزحوا منها عام 2011.. ورغم هذا فإن العودة لم تتم بصفة كاملة.. ما الأسباب حسب رأيكم التي دفعت النازحين إلى عدم العودة إلى مدينتهم؟

الأسباب عديدة منها رفض السلطات المحلية في مصراته بأن تكون للمدينة استقلالية إدارية خاصة بهم، أهالي تاورغاء ممنوعون من الانتخابات البلدية، كذلك هيمنة المنطقة العسكرية الوسطى التي جل أفرادها من مصراته في بوابات داخل وخارج المدينة، كذلك رمي أكداس القمامة في المدينة رغم الكثير من التحذير من خطورة ذلك، كذلك عدم شعور الأهالي بالأمان نظرًا لوجود عدد كبير من المليشيات التي تجوب الطريق الساحلي المار بوسط تاورغاء وفي بعض الأحيان تعتدي على الأهالي، وحتى مركز الشرطة الذي فتح منذ فترة وجيزة لم يتمكن من أداء مهامه بشكل مهني بسبب المضايقات من مجموعات طمينه المُسلحة.

هل تم تنفيذ كافة بنود هذا الاتفاق.. وهل تحصلت تاورغاء على التعويضات التي تم الاتفاق عليها؟

ليس تماما، ولكن تم تقسيم المبالغ إلى جزئيات ولم يتحصل كل الأهالي على نصيبهم بسبب نقص السيولة ومماطلة المجلس الرئاسي في تسيير الأمور المالية ناهيك عن التخبط الذي يعانيه المجلس المحلي تاورغاء بسبب انفراد رئيسيه بالرأي وعدم اتخاذ القرارات بشكل مدروس وعشوائية التصرف في مصير الأهالي وما سببه من شرخ في النسيج الاجتماعي نتيجة للتوقيع على الاتفاق الذي يعتبره أهالي تاورغاء مخزي ومهين كنتيجة لصبر كل هذه السنوات العجاف.

ما دور المجلس الرئاسي في إعادة توفير الخدمات الأساسية في مدينة تاورغاء لتسهيل عودة السكان إلى مدينتهم والتمتع بالظروف والخدمات الأساسية؟

لا يوجد دور حقيقي كل الدور للسلطات المحلية في مصراته بسبب هيمنتهم على المدينة بقوة السلاح والتهديد بسبب أي شيء قد يحدث بإخراج الأهالي، المجلس الرئاسي حسم الأمر بمجرد التوقيع ولم يعرف ما الذي يحدث بعد ذلك، واعتبر الأمر نصرًا سياسيًا فقط ولا يهم ما يحدث بعد ذلك رغم ما نراه من لقاءات صورية لرئيس المجلس الرئاسي ورئيس المجلس المحلي تاورغاء ولا يوجد تنفيذ حقيقي على أرض الواقع للأسف.

انتشرت ظاهرة الإفلات من العقاب بشكل كبير وموسع، ‫لم تتخذ الحكومات المتعاقبة خطوات للتحقيق مع المسئولين الذين ارتكبوا إساءات وانتهاكات ولم تقم بملاحقتهم قضائيًا ومعاقبتهم، سواء في أجهزة القوات الأمنية أو في أماكن أخرى في الحكومة وأثّرت المليشيات والجماعات المسلحة الأخرى على إجراءات المحاكم التي كانت بالكاد تعمل.. كيف يمكن تحديد الضحايا وجبر الضرر الحاصل لهم ومن ثم العمل على عدم تكرر هذه الانتهاكات الجسيمة؟‬

جبر الضرر وإنصاف الضحايا أمر في غاية الأهمية إلا أن سيطرة المجموعات المسلحة على مفاصل القضاء ومراكز الشرطة وعدم ثقة الضحايا في الوصول للعادلة داخليًا يضع الطريق طويلًا أمام الضحايا في هذه المرحلة وليس أمامنا إلا توثيق الجرائم وبناء الملفات والاستعداد لمرحلة أخرى وخاصة عندما يبدأ المجرم في التلون والنفوذ ومحاولة تنظيف صورته أمام الرأي العام ويبقى الضحية ينتظر بناء الدولة ولا جدوى في ظل الظروف الحالية.

مسار العدالة الانتقالية في تونس: ما بعد هيئة الحقيقة والكرامة

مثَّل يوم 17 ديسمبر 2018 تاريخًا مهمًا في مسار العدالة الانتقاليّة في تونس، أي تاريخ انتهاء مرحلة عمل هيئة الحقيقة والكرامة الذي دام أكثر من أربع سنوات، أحد أطول مدة زمنية لهيئة عدالة انتقالية في ما يقارب الأربعين تجربة في العالم. فقد بدأ عمل هيئة الحقيقة والكرامة في تونس في يونيو 2014 بعد مسار تمهيدي للعدالة الانتقاليّة انطلق مباشرة بعد الثورة (أسابيع بعد تاريخ 14 يناير 2011) وكان له بالغ الأثر على شكل التجربة التونسية في العدالة الانتقاليّة. مسار تمهيدي أفرز تصورًا مشتركًا لتعريف الضحية والانتهاك، أوسع من كل التجارب السابقة، ومجالًا زمنيًا طويلًا نسبيًا (أكثر من 58 سنة) وتركيبة للهيئة شابها شكوك الانحياز الحزبي.

كما لا يخفى على المتابعين للشأن العام أن هيئة الحقيقة والكرامة واجهت العديد من الصعوبات والتحديات الداخلية والخارجية، السياسية والمدنية، القانونية والاجرائية.. لكنها رغم ذلك تمكنت من إتمام عهدتها وإنجاز بعض النجاحات وتقديم تقريرها الختامي. لكن جل نجاحات الهيئة تُعد نسبية إذ يواجه كل منها تحديًا يُقلص من نجاحها، فالدوائر الخاصة للعدالة الانتقاليّة مهددة بمشروع قانون مصالحة، ومقررات جبر الضرر تواجه تعلة أزمة اقتصادية، وأرشيف الهيئة مُهدد بالتجميد في الأرشيف الوطني، والتقرير الختامي لم يتم نشره في الرائد الرسمي للهيئة، وتوصيات الهيئة تواجه تقاعس السلط التنفيذية والتشريعية على تبنيها وتنفيذها.. رغم كل هذه الصعوبات والتحديات الجديدة تنطلق مرحلة جديدة في مسار العدالة الانتقاليّة تتمثل في ما بعد الهيئة، أو مرحلة تنفيذ التوصيات، أي أهم المراحل التي تؤسس لبناء ديمقراطية ناشئة.

تأتي أهمية هذه المرحلة الجديدة في مسار العدالة الانتقاليّة (تنفيذ التوصيات) من الأهمية التي يكتسيها المسار الإصلاحي في الانتقال الديمقراطي في تونس، حيث لا تختلف تونس عن عدد من الدول التي مرت بتجارب عدالة انتقالية ولا تختلف النخبة التونسية عن النخبة في دول أخرى التي اختارت أن تدافع على العدالة الانتقاليّة إيمانًا منها بأهمية إرساء مسار إصلاحي عميق ومتكامل ناتج عن تحليل عميق وتفكيك لمنظومات بالية ومنتهكة لحقوق الإنسان. هذه المقاربة الشاملة والمتكاملة للإصلاح المؤسساتي من شأنها أن توفر أكثر فرص للنجاح لتأسيس ديمقراطية في تونس بالمقارنة مع المبادرات المحدودة التي مرت بها بعض الدول التي شهدت انتقالًا ديمقراطيًا ولم ترتق بها إلى صف دول ديمقراطية إذ ظلت هذه الإصلاحات سطحية أحيانًا، وصعبة التنفيذ غالبًا، وانتهت إلى انتكاسة في مسار الانتقال الديمقراطي لهذه الدول.

فبالإضافة إلى كل ما تم إنجازه في تونس من إصلاحات عميقة (دستور جديد، مراجعة بعض القوانين، المصادقة على معاهدات دولية، تأسيس هياكل وهيئات مستقلة، إجراءات جديدة…) يبقى الكثير للإنجاز من أجل تفكيك منظومة الاستبداد والفساد وبناء منظومات جديدة تحترم حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية والحكم الجيد بالاعتماد على براهين وإحصائيات وشهادات وقضايا وسردية جديدة تم تجميعها خلال سنوات عمل هيئة الحقيقة والكرامة. وبناءً على هذه المعطيات المتكاملة التي أفرزت توصيات الهيئة من أجل الإصلاح يمكن التأسيس لمسار إصلاحي عميق يتواصل لسنوات يشمل منظومات استبدادية منتهكة لحقوق الإنسان (منظومة الأمن، منظومة السجنية، القضاء..) ومتساهلة مع فساد مالي (المنظومة الديوانية، الجباية، منظومة الرخص، منظومة الصفقات العمومية، هياكل الرقابة المالية والإدارية..) تتجاوز مجرد الإصلاحات الشكلية والظرفية. ولعل أبرز التجارب في هذا السياق، تجربة جنوب أفريقيا التي يتواصل فيها تنفيذ توصيات هيئة الحقيقة والمصالحة إلى اليوم أي ما يتجاوز الـ20 سنة بعد انتهاء عمل الهيئة وتسليم تقريرها.

هذه الإصلاحات المؤسساتية التي تنساق من مسار العدالة الانتقاليّة ومن هيئة الحقيقة والكرامة تحديدًا من شأنها أن تشكل، في حالة تنفيذها، ضمانًا لعدم تكرار الانتهاكات والتجاوزات والفساد الذي قامت ضده الثورة. فمن المفترض أن تكون هذه التوصيات مبنية على مبادرات الإصلاح السابقة (ذكرت في الفقرة 3) ومبنية على توصيات وتقارير سابقة (تقارير لجان سابقة، تقارير وتوصيات الهيئات المستقلة، تقارير هياكل الرقابة، تقارير منظمات دولية..) ومبنية على مسار تشاركي استشاري (استشارة الهياكل المعنية بالإصلاح، استشارة المجتمع المدني، استشارة مجموعات الضحايا..) ومبنية خاصة على الحقائق الجديدة التي تم التوصل إليها خلال عمل الهيئة (التقصي، شهادات الضحايا، شهادات المنتهكين، الولوج للأرشيفات..) لتكون بذلك توصيات للإصلاح دقيقة في محتواها، متكاملة وشاملة في مقاربتها، ناجعة في توصيف تنفيذها.

وبقراءة نقدية لتقرير هيئة الحقيقة والكرامة الذي تم تقديمه يوم 26 مارس 2019، وخاصة في جزء التوصيات، يكتشف المتابعون والمدافعون على مسار العدالة الانتقاليّة أن شكل ومضمون التوصيات لم يكن على مستوى الآمال. فقد أتت هذه التوصيات وجيزة، غير دقيقة في وصفها للخطوات اللازمة لتنفيذها، بعيدة عن المنظومة التي يتم تفكيكها، غير مُهيكلة. كما وردت غالبًا في شكل إنشائي يصعب بلورتها في مرحلية تسهّل وصف التنفيذ، تنقصها مؤشرات كمية ونوعية تساعد في مراقبة التنفيذ. كما يغلب الانطباع أن هذه التوصيات لم تأت بجديد بل هي إعادة صياغة لعدد من التقارير ووصيات سابقة جاءت من هياكل ومنظمات أقل أهمية واطلاع على واقع الأشياء من هيئة بأهمية هيئة الحقيقة والكرامة.

هذا القصور في مضمون التوصيات يأتي ليضاف إلى الصعوبة المرتقبة في تنفيذ التوصيات، صعوبة تاريخية للعدالة الانتقاليّة وصعوبة سياسية. ففي الجانب الأوّل يجمع الخبراء على أن أكثر تجارب العدالة الانتقاليّة في العالم – حتى الناجحة منها – لم تنجح في تنفيذ التوصيات المنبثقة على تقاريرها. حيث تنص بعض الإحصائيات غير الرسمية على أن نسبة التنفيذ لم تتجاوز الـ20 بالمائة لعدد من الأسباب، لعل أهمها أن الهيئات ينتهي عملها بتقديم تقاريرها وبذلك تجد التوصيات طريقها إلى رفوف سلطة تنفيذية متقاعسة عن الإصلاح، ولا وجود لأي هيكل رسمي يسهر على متابعة التقرير وتنفيذ التوصيات. وقد تكون التوصيات الخاصة بجبر الضرر وأحيانًا الحفاظ على الذاكرة أوفر التوصيات حظوظًا للتنفيذ، نظرًا لتبني جمعيات وعائلات ومجموعات الضحايا لهذه التوصيات ومواصلة ضغطها على الجهات الرسمية لتنفيذها. أمّا التوصيات الخاصة بالإصلاح وضمانات عدم التكرار فلا تجد من يدافع عنها إلّا عدد محدود من الجمعيات الحقوقية والمدافعة على قيم الديمقراطية. وقد عبَّر عدد من المدافعين عن العدالة الانتقاليّة والخبراء على حسرتهم إزاء هذه الحقيقة الواقعية التي تشكك في جدوى العدالة الانتقاليّة ككل. وتضاف إلى هذه الحقيقة المشتركة بين مختلف تجارب العدالة الانتقاليّة، واقع تونسي يتسم بضعف مصداقية هيئة الحقيقة والكرامة خلال مدة عملها، ومعارضة شرسة لأعمالها من قبل الأجهزة الرسمية للدولة ربما كانت أشد شراسة من مثيلاتها في تجارب أخرى. فلا يخفى على المتابعين للشأن العام أن هيئة الحقيقة والكرامة واجهت معارضة من قبل السلطة التنفيذية والأحزاب السياسية ساهمت بمعية الإعلام في بلورة رأي عام معاد لها يضاف إليها تصريحات أعضاء وعاملين سابقين وتصريحات مقربين من الهيئة وتقارير هيئات رقابية. كل هذه المعادات والقطيعة (لم يشارك أي من الرئاسات الثلاث، جمهورية، حكومة، برلمان، في أهم محطات عمل الهيئة من جلسات استماع أو الندوة الختامية لتقديم تقرير الهيئة) والرأي العام المعادي، يجعل من تقرير الهيئة ومخرجاتها، أعمالًا غير مقبولة لا لشيء غير أنها صادرة عن هيئة فاقدة للثقة الشعبية. وتكون بذلك السلطة التنفيذية أسست لمخطط هادف إلى تجاهل عمل الهيئة وتقريرها وخاصة توصياتها الإصلاحية. ولعل قبول رئيسة الهيئة من قبل الرئاسات الثلاث بصفة محتشمة بعيدًا عن الموكب الرسمي المفترض في تواريخ غير مُعلنة للعموم بعد تجاهل مطالب الهيئة لأسابيع يأتي ليؤكد هذا المخطط التحقيري التجاهلي الذي شرعت السلطة التنفيذية في تنفيذه.

كما تجدر الإشارة إلى أن قانون العدالة الانتقاليّة، قانون أساسي عدد 53 لسنة 2013، قد نص في فصله الأخير عدد 70 ما يلي:

“تتولى الحكومة خلال سنة من تاريخ صدور التقرير الشامل عن الهيئة إعداد خطة وبرامج عمل لتنفيذ التوصيات والمقترحات التي قدمتها الهيئة وتقدم الخطة والبرنامج إلى المجلس المكلف بالتشريع لمناقشتها. ويتولى المجلس مراقبة مدى تنفيذ الهيئة للخطة وبرنامج العمل من خلال إحداث لجنة برلمانية خاصة للغرض تستعين بالجمعيات ذات الصلة من أجل تفعيل توصيات ومقترحات الهيئة.

ينشر هذا القانون الأساسي بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية وينفذ كقانون من قوانين الدولة.”

وقد أتى هذا الفصل كمحاولة لضمان أوفر الحظوظ للتقرير الختامي على أن يتم إيلاؤه العناية اللازمة وتبني التوصيات التي ينص عليها من قبل السلطة التنفيذية برقابة السلطة التشريعية بتحميلهما المسؤولية التامة في الإصلاح بعد انتهاء عهدة هيئة الحقيقة والكرامة، كأحد أهم سلطتين في الدولة (السلطة القضائية مسؤولة على جزء آخر من مسار العدالة الانتقاليّة المتمثل في المسار القضائي والدوائر الخاصة بالعدالة الانتقاليّة). وتجدر الإشارة أنه خلال صياغة قانون العدالة الانتقاليّة من قبل اللجنة الفنية للحوار الوطني حول العدالة الانتقاليّة، نوّه الخبراء الدوليون المساندين للتجربة التونسية بأهمية معضلة تنفيذ التوصيات، خاصة الإصلاحية منها، وأكدوا أن يتم تضمين القانون إجراءات لتنفيذ التوصيات. وقد تم ذلك في الفصل المذكور، الذي يُعد تطورًا في قوانين العدالة الانتقاليّة. 

لكن بالرغم من هذه التنصيصات الاستباقية، وبالرغم من إدراك المسبق بخطر تجاهل التوصيات، تشهد تونس اليوم بوادر غير مطمئنة تؤشر على تجاهل السلطة التنفيذية لتقرير الهيئة وتجاوز للقانون من خلال عدم إعداد خطة تقدم للبرلمان للتنفيذ، في ظل ضعف الدور الرقابي للبرلمان وفي ظل تجديد البرلمان خلال السنة الحالية 2019 إثر الانتخابات التشريعية. كما يمثل موقف الأحزاب السياسية من العدالة الانتقاليّة مؤشرًا ثانيًا لهذا التخوف حيث تتراوح المواقف بين العداء والرفض بالنسبة للأحزاب ذات العلاقة بالنظام السابق كنداء تونس ومشروع تونس وتحيا تونس؛ المراودة السياسية والتأرجح في المواقف بالنسبة لحزب النهضة وبعض أحزاب اليسار؛ والدعم الضعيف بالنسبة لبعض الأحزاب التي تقدم نفسها كحاملة لمشعل الثورة كالتحالف الديمقراطي. وتجسمت هذه المواقف في مشروع نص قانوني (في طور التشاور بين السلطة التنفيذية وبعض الكتل البرلمانية) ينسف مسار العدالة الانتقاليّة بإلغاء الدوائر الخاصة للعدالة الانتقاليّة ويؤسس للجان تنفيذية والذي من شأنه أن يدفع نحو مزيد من تجاهل السلطة التنفيذية لتقرير الهيئة وتوصياتها الإصلاحية.

رغم كل هذا التقصير في مسار العدالة الانتقاليّة، والصعوبات في إنهاء عمل هيئة الحقيقة والكرامة وتقديم تقريرها، ورغم كل المؤشرات السلبية حول تفاعل السلطة التنفيذية والتشريعية، يبقى الأمل في تواصل مسار العدالة الانتقاليّة وخاصة منه تنفيه التوصيات نابضًا لدى المجتمع المدني الذي رغم نقده اللاذع للهيئة بقي مؤمنًا ومدافعًا على مسار العدالة الانتقاليّة.
ففي الوقت الذي رفضت الرئاسات الثلاثة إيلاء الأهمية للتقرير النهائي عند تقديمه، احتضن المجتمع المدني والمنظمات والشركاء الدوليين هذا التقرير وأقروا بأهميته. كما شرعت بعض مكونات المجتمع المدني في التعهد بمتابعة العمل بناء على مخرجات التقرير وتطوير استراتيجيات مبنية على التوصيات من أجل حث الجهات الرسمية على تنفيذ قانون العدالة الانتقاليّة. لكن لابدّ لهذه المبادرات أن تبحث على تأسيس عقد جديد مع باقي الأطراف الفاعلة في المجال وفي الساحة العامة، خاصة منها الإعلام الذي كان معاديًا لهيئة الحقيقة والكرامة، والأحزاب السياسية ذات المواقف التي يمكن أن تتطور نحو المساندة، ومختلف مكونات المجتمع المدني التي ستستفيد من إصلاحات تقطع مع المنظومات السابقة، ومع الهيئات المستقلة التي يغطي التقرير بعضًا من مجالات أعمالها.

هذا التحالف الجديد حول تقرير الهيئة وتوصياتها، والذي لم تنجح الهيئة في تأسيسه خلال سنوات عملها ومما ساهم في تفوق المعادين لها، يمكن أن يساهم في تأسيس ديناميكية جديدة حول مسار العدالة الانتقاليّة تتواصل لسنوات، وتساهم في نقاش عام وبناء رأي عام مساند بدوره يضغط على الحكومة والبرلمان من أجل تطبيق القانون والانطلاق في مسار إصلاحي يرقي بتونس إلى مجموعة الدول الديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وعلوية القانون.

العدالة الانتقالية مفهوم نسبي: «احتياجات الحالة الليبية لتحقيق المصالحة الوطنية أنموذجا»

مقدمة

تمثل حالة عدم الاستقرار التي تصيب المجتمعات التي تمر بظروف سياسية واجتماعية استثنائية، من أكثر التحديات التي تهدد أمنها الاجتماعي؛ فحالة عدم الاستقرار قد يكون مردها الانقسام السياسي أو الصراع العسكري، الذي يفرز في أغلب الأحوال فريقين يمثلان محور الصراع، يتمسك كل فريق بمشروعية وجوده وحقه في إدارة مؤسسات الدولة.

إن هذا الصراع قد ينتهي بانتصار فريق على آخر، بحيث يبسط هذا الفريق نفوذه ويمسك بحكم القوة بمقاليد الأمور، وقد يظل هذا الصراع قائما بسبب تكافوء القوة والفرص السياسية الوطنية والدولية. وفي كلا الحالتين تمثل العدالة الانتقالية إحدى أدورات الخروج من الوضع الاستثنائي الذي افرزه ذلك الصراع، وهنا يثور السؤال حول طبيعة نظام العدالة الانتقالية التي يمكن أن يحقق أهدافه بالنظر إلى طبيعة ودرجة المرحلة التي وصل إليها الصراع؛ ولهذا نتساءل أنظام العدالة الانتقالية واحد في حالة انتهاء الصراع وانتصار أحد الفريقين كما في حالة استمرار الصراع؟

لا تبدو الحالة الليبية بعيدة عن هذا التصور، سواء من حيث نوع الصراع ولا من حيث الحاجة لنظام عدالة انتقالية يعبر من خلاله الليبيون مرحلة عدم الاستقرار.
وبصدد وضع الحالة الليبية موضع الدراسة، نحتاج إلى طرح مجموعة من الأسئلة التي نعتقد أن الإجابة عنها مهمة في تحديد معالم نظام العدالة الانتقالية الملائم للوضع في ليبيا:

ما درجة الصراع والمرحلة التي وصل إليها في ليبيا ؟ وعن أي مرحلة نحتاج تطبيق العدالة الانتقالية؟ ما هي العناصر الأساسية لنظام العدالة الانتقالية التي يجب تبنيها في ليبيا وفقاً لأهداف العدالة التي تحتاجها الحالة الليبية؟ ما هي التعديلات التشريعية التي يحتاجها نظامنا القانوني لتحقيق أهداف العدالة الانتقالية المقترح؟

نجيب عن هذه الأسئلة على النحو التالي:

1 - طبيعة ودرجة الصراع القائم في ليبيا عنصر مهم في تحديد معالم العدالة الانتقالية

منذ فبراير 2011 والصراع في ليبيا مستمر إلى يومنا هذا، قد تختلف درجته ونوعه و أطرافه، إلا أن حالة عدم الاستقرار مازالت قائمة، فالصراع على الأقل على المستوى السياسي لم يحسم بعد، فسقوط النظام السابق لم يكن يعني سوى انتهاء مرحلة ذلك النظام، ولكن لم يكن يعني إطلاقا انتهاء حالة العداء التي يضمرها أنصار ذلك النظام للعهد الجديد الذي أعقب انتهاء حرب فبراير، كما أن الصراع لم يقف عند هذا الحد، فاندلاع الخلاف بين أنصار ثورة فبراير يعد في ذاته أحد عناصر عدم الاستقرار في ليبيا، وربما هو الأخطر على الإطلاق، إذ هذا الصراع أدى إلى انقسام سياسي و نشوء أجسام تشريعية وتنفيذية تمارس مهامها و تتمسك بالشرعية وينسب كل طرف منها للآخر ارتكاب انتهاكات تستدعي المحاكمة.
إن هذا الوضع المضطرب للحالة الليبية والذي تعبر عنه حالة الصراع المستمر، لا يمكن أن تطبق بشأنه معايير العدالة التقليدية، التي تقوم في جملة مبادئه على فكرة المكاشفة و إظهار حقيقة الماضي وتطبيق العقاب، فمثل هذا النظام للعدالة لكي يحقق أهدافه يجب أن يُطبق في مجتمع انتصر فيه أحد أقطاب الصراع، بحيث يخضع الطرف الضعيف، الذي ينظر إليه عادة بأنه الطرف المسيء، لهذا النظام من العدالة.

ولهذا فإن تطبيق العدالة الانتقالية في ليبيا بمعاييرها الدولية لا يعني سوى فشل هذا النظام واستمرار حالة الانقسام، لأن مثل هذا النظام لا يمكن أن يمثل نظاماً مقبولاً لدى أطراف الصراع الليبي، وذلك لأن تطبيق نظام العدالة الانتقالية القائم على فكرة المكاشفة وإظهار حقيقة الماضي وترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب، يحتاج لوجود سلطة قائمة قادرة على تطبيقه، وهذا لا يتحقق في الظروف الحالية إلا بأحد أمرين:

أ. إما من خلال فرض سلطة من أحد أطراف الصراع لتحاكم الأطراف الأخرى، وهنا ستمثل هذه السلطة عنصراً مرفوضاً من تلك الأطراف، لكونها ستعد خصماً لا حكماً، ولهذا فإن فكرة فرض سلطة لتطبيق العدالة الانتقالية بمفهومها التقليدي من داخل أطراف الصراع، لا يمكن أن تمثل حلاً من خلاله يمكن تطبيق نظام العدالة القائم على المحاسبة والمكاشفة ، أضف إلى ذلك فإن إظهار حقيقة الماضي لا يمكن أن يقبل أي طرف في ليبيا أن يشرف عليها الطرف الخصم؛ وكل ذلك في الحقيقة يبدو منطقياً وواقعياً و واجب الأخذ به بعين الاعتبار عند تبني أي نظام للعدالة الانتقالية في ليبيا، فالغاية من تطبيق نظام العدالة الانتقالية هي العبور من مرحلة الأزمة إلى مرحلة الاستقرار المبني على أسس قوية، تكفل صمود هذا الاستقرار باقتناع كل الأطراف بالمقدمات التي أدت إليه، وهو ما لا يمكن أن يتحقق بالقوة مادامت كل أطراف الصراع تتمتع بالقوة والدعم.

ب. إن الفرضية الثانية التي يمكن أن تُطرح لتطبيق نظام العدالة الانتقالية بمفهومه التلقليدي في ليبيا تتمثل في إشراف جهة أجنبية تضطلع بمهمة كشف حقيقة الماضي وتطبيق العقاب، وقد ظهر فعلاً اتجاه في ليبيا للمنداة بتطبيق عدالة انتقالية تشرف عليها جهة أجنبية سواء من خلال تطبيق نظام المحاكم المختلطة أو حتى المحاكم الدولية، إلا أن هذه فرضية لا نشك في رفضها من قبل الليبيين لخصوصية الوضع في ليبيا، حيث سيعد ذلك تدخلاً أجنبياً وعودة لعهد الوصاية والخضوع الذي يرفضه الليبيون ويتحفظون عليه بقدر عالِ من الحساسية.

في الواقع إن ما نطرحه بشأن خصوصية الصراع في ليبيا وأثره على تحديد معالم نظام العدالة الانتقالية في ليبيا، لا يمثل مجرد انطباعات شخصية، حيث التجربة القريبة لتطبيق العدالة الانتقالية في ليبيا تظهر حقيقة خصوصية الحالة الليبية، حيث مثلت تلك التجارب نماذج لعدالة تخدم مصالح طرف على حساب طرف آخر، فمظاهر العدالة الانتقالية في مرحلة ما بعد فبراير جسدت بشكل واضح حالة الإقصاء والاضطهاد غير المُدارى لأنصار النظام السابق، ففي منطق إقصائي، جاء قانون العزل السياسي معبراً عن حالة الموت الوظيفي لكل من عمل مع نظام العقيد معمر القذافي، كما مثل قانون العفو الصادر عن المؤتمر الوطني الانتقالي نموذجاً إقصائياً ليستثني من نظام العفو أسرة القذافي، فالقانون رقم 35 لسنة 2012 بشأن العفو عن بعض الجرائم نص في مادته الأولى على استثناء بعض الأشخاص من تطبيق أحكام العفو عندما قررت هذه المادة في فقرتها 1 إنه :” لا تسري أحكام هذا القانون على الحالات الآتية :1.الجرائم المرتكبة من زوج المدعو معمر محمد عبد السلام أبومنيار القذافي وابنائه و بناته أصالة أو بالتبني وأصهاره وأعوانه “. وفي المقابل نجد أن قانون العفو العام الصادر عن البرلمان الليبي سنة 2015 تضمن استثناءات من تطبيق نظام العفو تستهدف اقصاء بعض الفئات المحسوبة على من يسمون بالثوار خلال ثورة فبراير من تطبيق نظام العفو، حيث نجد أن القانون رقم 6 لسنة 2015 في شأن العفو العام تبنى نفس المنطق الإقصائي عندما قرر في مادته 3 على استبعاد بعد الجرائم من نطاق العفو، فتصت الفقرة 4 من المادة المذكورة على عدم سريان قانون العفو بشأن “جرائم القتل على الهوية والاختطاف والإخفاء القسري والتعذيب”. وهذه جرائم تنسب في الغالب لشريحة من الثوار ارتُكِبت خلال فترة حرب فبراير، ما يعني أن الاستثناء في هذه المرحلة يستهدف أحد أطراف الصراع في ليبيا، وهو ما يقوض أهم الدعائم الرئيسة لنظام العدالة الذي يجب أن يتبنى المصالحة من أجل تحقيق الوئام المجتمعي.

يبدو واضحاً أن هذين القانونين صادرا أهداف العدالة الانتقالية المتمثلة في فكرة رأب الصدع وتسوية الخلاف بين أطرافه ، فتلك الجرائم المستثناة هي صميم المسائل التي نحتاج بشأنها إلى مصالحة وعفو يضمن جبر الضرر ويكفل عدم الإفلات من المساءلة الجنائية، بأسلوب يلائم المرحلة التي تمر بها الدولة الليبية.

إن هذا الإقصاء الذي تضمنته هذه القوانين يأتي في سياق سياسة إقصائية جردت مفهوم العدالة الانتقالية من أهدافه السامية لتجعلها مجرد عدالة انتقامية أو انتقائية لا تستهدف تحقيق مشروع حقيقي للمصالحة بقدر ما أنها زادت حالة الانقسام السياسي وأضعفت فاعلية نظام العادلة المتبنى. وهذا يرجع في الحقيقة – حسب فهمنا – إلى أن هذه القوانين استُهدي في صياغتها بفلسفة محددة تقوم على فكرة عدم الإفلات من العقاب وعدم استفادة الخصم من مقومات مرحلة ما بعد الصراع، في مقابل ترسيخ ضمانات قانونية تكفل إفلات شريحة معينة من العقاب وهي تلك التي توائم قناعة الجهة مصدر القانون.

على الرغم من صدور قوانين في ليبيا تعبر عن توجه نحو تحقيق العدالة الانتقالية كالقانون رقم 29لسنة 2013 ، إلا أن هذه القوانين لم تحقق أهدافها نظرا لأنها لم تأخذ في الاعتبار طبيعة الصراع في ليبيا ومراكز مكوناته الحالية ، حيث لا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن كل طرف من أطراف الصراع في ليبيا يمثل قاعدة شعبية جديرة بأن تؤخذ مطالبهم و توجهاتهم بعين الاعتبار لتحقيق أي مشروع للعدالة الانتقالية. فالعدالة الانتقالية ليست مشروعا قانونياً صرفاً يستهدف العقاب وتحقيق العدالة بمفهومها المجرد، فهي نظام لتحقيق الوئام المجتمعي ، ولهذا فهي نظام شعبي بطبيعة أهدافها ووسائل تحقيقها.

السياسة الإقصائية التي عرفتها تجربة العدالة الانتقالية في ليبيا من خلال قوانين العفو، لم تقدم بديلاً واقعياً يمكن من خلاله تحقيق العدالة للحالات المستبعدة من نطاق إعمال قوانين العدالة الانتقالية، الأمر الذي أدى إلى تأجيل الحل وإطالة أمد المشكلة وفتح المجال أمام تطور للازمة ؛ فالعقاب عن حالات القتل والتهجير والحجز التعسفي المستثناة من العفو بموجب القانون رقم 6 لسنة 2015 يستلزم وجود دولة قوية تبسط سلطانها على كامل تراب البلاد، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تجاوز ظروف المرحلة، من خلال مشروع تصالحي يحقق العدالة ويُعيد الأمن والسلام.

ولهذا فعلى الرغم من أن الاستثناءات الواردة في القوانين المذكورة كانت تستهدف إخضاع الحالات المستثناة من العفو لنظام عقابي، إلا إنها أدت إلى نتائج عكسية تمثلت في عدم خضوع تلك الحالات للعقاب وهو ما عزز مركزها وزاد من عدائها لفريق النزاع الذي تنتمي له سلطة التشريع مصدرة القانون، فهذا الاستثناء عزز شعور الشريحة المستثناة بحالة العداء و الإقصاء تجاهها، وهو ما يتناقض مع المنطق الذي ينبغي أن يسود من اجل تحقيق السلم والأمن المجتمعي.

كل هذه النتائج السلبية التي أدى إليها نظام العدالة الانتقالية في ليبيا، مردها ديمومة الصراع في ليبيا وعدم احتيار نظام يلائم طبيعة هذا الصراع. إن العدالة الانتقالية التي يجب أن تعتمد في ليبيا ينبغي أن تأخذ في الاعتبار أن العدالة المراد تحقيقها يجب أن تشمل كل المراحل ما بعد ثورة السابع عشر من فبراير باعتبارها الفترة التي شهدت انقساما سياسيا واجتماعيا داخل النسيج المجتمعي الليبي، لأن التمييز في معاملة تلك المراحل سيعزز حالة الانقسام والشعور بالغبن وعدم المساواة.

2 - أهم مقومات العدالة الانتقالية في ليبيا:

إن طبيعة الصراع السياسي والاجتماعي في ليبيا، تحتم تبني نظام خاص للعدالة الانتقالية يعتمد فكرة المصالحة وطي صفحة الماضي أساساً لنظام العدالة، وهو ما لا يتحقق إلا بتبني نظام متكامل سياسي واقتصادي وقانوني يعزز الوئام المجتمعي ويرسخ روح المواطنة، وذلك من خلال إنهاء بور التوتر أولاً باعتماد نظام عادل لتوزيع الثروات و المحاصصة السياسية الإيجابية بتبني نظام تكافوء الفرص في توزيع الوظائف السياسية الذي يجب أن تقوم على توزيع الفرص جغرافيا على أساي الكفاءة لا على مجرد الانتماء فقط، ، لأن ذلك سيحقق تجاوز أحد أهم عوامل الفرقة بين الليبيين، وإنهاء سبب رئيس لإطالة أمد الأزمة في ليبيا وهو الشعور بالغبن الاقتصادي والسياسي.
ومن الناحية القانونية، فإن تبني «نظام قانوني شعبي» يلعب فيه الأفراد دوراً رئيساً في فض النزاع وتسويته سوف يمثل أحد أهم الحلول لتحقيق مصالحة وطنية فعالة بين الليبيين، فالعدالة التصالحية التي تقوم على فكرة إفساح المجال للأفراد» الضحية والجاني» لتحيد نوع التسوية التي تكون مرضية للضحية ومقبولة للجاني، فذلك يعد أحد أهم الخطوات نحو تسوية عادلة، مقبولة من الجاني الذي يصعب في كثير من الأحوال إخضاعه لنظام قضائي تقليدي بسبب ما يتمتع به من نفوذ، وهو في نفس الوقت سيعد نظاماً فعالاً لكونه سيمثل حلاً مقبولا من الضحية التي يعبر موقفها عادة عن موقف قاعدة شعبية تنمي إليها.
ولهذا فالنظام العقابي التلقيدي سيظل نظاماً احتياطياً لا يصار إليه إلا عند فشل التسوية التصالحية، ولهذا سنكون أمام نظام تتحدد معالمه على النحو التالي:

أ. نظام تسوية تصالحية تكفل عدم الإفلات من الجزاء وليس العقاب، فالجزاء التصالحي ليس بالضرورة عقاب، فقد يكون تعويضاً يحل محل العقوبة ويعرف في فقه القانون الجنائي بالتعويض العقابي، وقد يكون الجزاء اعتذار للضحية بالشروط التي تضعها، كما أن التسوية قد تكون مجرد عفو مقابل اعتراف بالذنب، شريطة أن يتم ذلك بالتراضي بين الجاني والضحية. ولهذا فالتسوية التصالحية ستتضمن التعويض أو الاعتذار أو العفو بموافقة الضحية.
ولتطبيق نظام العادلة التصالحية يمكن الاستهداء بتجارب بعض الدول كفرنسا التي تتبنى نظم التصالح والوساطة والصلح، على أن يتم تطويع هذه النظم بما يلائم الحالة الليبية سواء من حيث طبيعة الجرائم أو التركيبة الاجتماعية.

ب. نظام عقاب تقليدي يطبق في نطاق ضيق على طائفة من الجرائم الخطرة والتي لم يتم تسويتها بالطرق التصالحية.

الخلاصة

إن تبني نظام العدالة التصالحية كمفهوم للعدالة الانتقالية يقتضي :

– تجاوز فكرة كشف الحقائق خارج نطاق المصالحة، فمن غير المجدي لمجتمع يسعى للسلام المجتمعي، كشف الجرائم والانتهاكات ونبش الماضي وإعادته إلى الحاضر، فذلك أشبه بمن يستورد مشاكل الماضي ليضيفها على أزمات الحاضر، وهو ما يتناقض بشكل واضح مع أهداف العدالة الانتقالية حسب المفهوم الذي نعتمده، والذي يستهدف رأب الصدع وإعادة الوئام المجتمعي. فكشف الماضي ليس شرطاً للعدالة الانتقالية إلا في حدود ما يطلبه المُجنى عليهم في إطار منظومة التصالح.

– ضرورة تعديل قانون الإجراءات الجنائية بتبني نظام يسمح بإنهاء الخصومة الجنائية بالطرق التصالحية، من خلال تبني استثناءات لمبدأ قضائية العقوبة، فضلاً عن النص صراحة على بدائل الدعوى الجنائية والتي منها الوساطة والصلح والتصالح.

– تجنب نظام العفو المطلق الذي تمارسه الدولة بعيداً عن مبدأ التصالح، ففيه استفزاز لمشاعر الضحية و تعزيز للشعور بعدم العدالة، فالعفو يجب ان يكون أثراً لصفح الضحية ورضاها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *