أوراقإصداراتالدولتونسمنتدى دعم

مسار العدالة الانتقالية في تونس: ما بعد هيئة الحقيقة والكرامة

مثَّل يوم 17 ديسمبر 2018 تاريخًا مهمًا في مسار العدالة الانتقاليّة في تونس، أي تاريخ انتهاء مرحلة عمل هيئة الحقيقة والكرامة الذي دام أكثر من أربع سنوات، أحد أطول مدة زمنية لهيئة عدالة انتقالية في ما يقارب الأربعين تجربة في العالم. فقد بدأ عمل هيئة الحقيقة والكرامة في تونس في يونيو 2014 بعد مسار تمهيدي للعدالة الانتقاليّة انطلق مباشرة بعد الثورة (أسابيع بعد تاريخ 14 يناير 2011) وكان له بالغ الأثر على شكل التجربة التونسية في العدالة الانتقاليّة. مسار تمهيدي أفرز تصورًا مشتركًا لتعريف الضحية والانتهاك، أوسع من كل التجارب السابقة، ومجالًا زمنيًا طويلًا نسبيًا (أكثر من 58 سنة) وتركيبة للهيئة شابها شكوك الانحياز الحزبي.

كما لا يخفى على المتابعين للشأن العام أن هيئة الحقيقة والكرامة واجهت العديد من الصعوبات والتحديات الداخلية والخارجية، السياسية والمدنية، القانونية والاجرائية.. لكنها رغم ذلك تمكنت من إتمام عهدتها وإنجاز بعض النجاحات وتقديم تقريرها الختامي. لكن جل نجاحات الهيئة تُعد نسبية إذ يواجه كل منها تحديًا يُقلص من نجاحها، فالدوائر الخاصة للعدالة الانتقاليّة مهددة بمشروع قانون مصالحة، ومقررات جبر الضرر تواجه تعلة أزمة اقتصادية، وأرشيف الهيئة مُهدد بالتجميد في الأرشيف الوطني، والتقرير الختامي لم يتم نشره في الرائد الرسمي للهيئة، وتوصيات الهيئة تواجه تقاعس السلط التنفيذية والتشريعية على تبنيها وتنفيذها.. رغم كل هذه الصعوبات والتحديات الجديدة تنطلق مرحلة جديدة في مسار العدالة الانتقاليّة تتمثل في ما بعد الهيئة، أو مرحلة تنفيذ التوصيات، أي أهم المراحل التي تؤسس لبناء ديمقراطية ناشئة.

تأتي أهمية هذه المرحلة الجديدة في مسار العدالة الانتقاليّة (تنفيذ التوصيات) من الأهمية التي يكتسيها المسار الإصلاحي في الانتقال الديمقراطي في تونس، حيث لا تختلف تونس عن عدد من الدول التي مرت بتجارب عدالة انتقالية ولا تختلف النخبة التونسية عن النخبة في دول أخرى التي اختارت أن تدافع على العدالة الانتقاليّة إيمانًا منها بأهمية إرساء مسار إصلاحي عميق ومتكامل ناتج عن تحليل عميق وتفكيك لمنظومات بالية ومنتهكة لحقوق الإنسان. هذه المقاربة الشاملة والمتكاملة للإصلاح المؤسساتي من شأنها أن توفر أكثر فرص للنجاح لتأسيس ديمقراطية في تونس بالمقارنة مع المبادرات المحدودة التي مرت بها بعض الدول التي شهدت انتقالًا ديمقراطيًا ولم ترتق بها إلى صف دول ديمقراطية إذ ظلت هذه الإصلاحات سطحية أحيانًا، وصعبة التنفيذ غالبًا، وانتهت إلى انتكاسة في مسار الانتقال الديمقراطي لهذه الدول.

فبالإضافة إلى كل ما تم إنجازه في تونس من إصلاحات عميقة (دستور جديد، مراجعة بعض القوانين، المصادقة على معاهدات دولية، تأسيس هياكل وهيئات مستقلة، إجراءات جديدة…) يبقى الكثير للإنجاز من أجل تفكيك منظومة الاستبداد والفساد وبناء منظومات جديدة تحترم حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية والحكم الجيد بالاعتماد على براهين وإحصائيات وشهادات وقضايا وسردية جديدة تم تجميعها خلال سنوات عمل هيئة الحقيقة والكرامة. وبناءً على هذه المعطيات المتكاملة التي أفرزت توصيات الهيئة من أجل الإصلاح يمكن التأسيس لمسار إصلاحي عميق يتواصل لسنوات يشمل منظومات استبدادية منتهكة لحقوق الإنسان (منظومة الأمن، منظومة السجنية، القضاء..) ومتساهلة مع فساد مالي (المنظومة الديوانية، الجباية، منظومة الرخص، منظومة الصفقات العمومية، هياكل الرقابة المالية والإدارية..) تتجاوز مجرد الإصلاحات الشكلية والظرفية. ولعل أبرز التجارب في هذا السياق، تجربة جنوب أفريقيا التي يتواصل فيها تنفيذ توصيات هيئة الحقيقة والمصالحة إلى اليوم أي ما يتجاوز الـ20 سنة بعد انتهاء عمل الهيئة وتسليم تقريرها.

هذه الإصلاحات المؤسساتية التي تنساق من مسار العدالة الانتقاليّة ومن هيئة الحقيقة والكرامة تحديدًا من شأنها أن تشكل، في حالة تنفيذها، ضمانًا لعدم تكرار الانتهاكات والتجاوزات والفساد الذي قامت ضده الثورة. فمن المفترض أن تكون هذه التوصيات مبنية على مبادرات الإصلاح السابقة (ذكرت في الفقرة 3) ومبنية على توصيات وتقارير سابقة (تقارير لجان سابقة، تقارير وتوصيات الهيئات المستقلة، تقارير هياكل الرقابة، تقارير منظمات دولية..) ومبنية على مسار تشاركي استشاري (استشارة الهياكل المعنية بالإصلاح، استشارة المجتمع المدني، استشارة مجموعات الضحايا..) ومبنية خاصة على الحقائق الجديدة التي تم التوصل إليها خلال عمل الهيئة (التقصي، شهادات الضحايا، شهادات المنتهكين، الولوج للأرشيفات..) لتكون بذلك توصيات للإصلاح دقيقة في محتواها، متكاملة وشاملة في مقاربتها، ناجعة في توصيف تنفيذها.

وبقراءة نقدية لتقرير هيئة الحقيقة والكرامة الذي تم تقديمه يوم 26 مارس 2019، وخاصة في جزء التوصيات، يكتشف المتابعون والمدافعون على مسار العدالة الانتقاليّة أن شكل ومضمون التوصيات لم يكن على مستوى الآمال. فقد أتت هذه التوصيات وجيزة، غير دقيقة في وصفها للخطوات اللازمة لتنفيذها، بعيدة عن المنظومة التي يتم تفكيكها، غير مُهيكلة. كما وردت غالبًا في شكل إنشائي يصعب بلورتها في مرحلية تسهّل وصف التنفيذ، تنقصها مؤشرات كمية ونوعية تساعد في مراقبة التنفيذ. كما يغلب الانطباع أن هذه التوصيات لم تأت بجديد بل هي إعادة صياغة لعدد من التقارير ووصيات سابقة جاءت من هياكل ومنظمات أقل أهمية واطلاع على واقع الأشياء من هيئة بأهمية هيئة الحقيقة والكرامة.

هذا القصور في مضمون التوصيات يأتي ليضاف إلى الصعوبة المرتقبة في تنفيذ التوصيات، صعوبة تاريخية للعدالة الانتقاليّة وصعوبة سياسية. ففي الجانب الأوّل يجمع الخبراء على أن أكثر تجارب العدالة الانتقاليّة في العالم – حتى الناجحة منها – لم تنجح في تنفيذ التوصيات المنبثقة على تقاريرها. حيث تنص بعض الإحصائيات غير الرسمية على أن نسبة التنفيذ لم تتجاوز الـ20 بالمائة لعدد من الأسباب، لعل أهمها أن الهيئات ينتهي عملها بتقديم تقاريرها وبذلك تجد التوصيات طريقها إلى رفوف سلطة تنفيذية متقاعسة عن الإصلاح، ولا وجود لأي هيكل رسمي يسهر على متابعة التقرير وتنفيذ التوصيات. وقد تكون التوصيات الخاصة بجبر الضرر وأحيانًا الحفاظ على الذاكرة أوفر التوصيات حظوظًا للتنفيذ، نظرًا لتبني جمعيات وعائلات ومجموعات الضحايا لهذه التوصيات ومواصلة ضغطها على الجهات الرسمية لتنفيذها. أمّا التوصيات الخاصة بالإصلاح وضمانات عدم التكرار فلا تجد من يدافع عنها إلّا عدد محدود من الجمعيات الحقوقية والمدافعة على قيم الديمقراطية. وقد عبَّر عدد من المدافعين عن العدالة الانتقاليّة والخبراء على حسرتهم إزاء هذه الحقيقة الواقعية التي تشكك في جدوى العدالة الانتقاليّة ككل. وتضاف إلى هذه الحقيقة المشتركة بين مختلف تجارب العدالة الانتقاليّة، واقع تونسي يتسم بضعف مصداقية هيئة الحقيقة والكرامة خلال مدة عملها، ومعارضة شرسة لأعمالها من قبل الأجهزة الرسمية للدولة ربما كانت أشد شراسة من مثيلاتها في تجارب أخرى. فلا يخفى على المتابعين للشأن العام أن هيئة الحقيقة والكرامة واجهت معارضة من قبل السلطة التنفيذية والأحزاب السياسية ساهمت بمعية الإعلام في بلورة رأي عام معاد لها يضاف إليها تصريحات أعضاء وعاملين سابقين وتصريحات مقربين من الهيئة وتقارير هيئات رقابية. كل هذه المعادات والقطيعة (لم يشارك أي من الرئاسات الثلاث، جمهورية، حكومة، برلمان، في أهم محطات عمل الهيئة من جلسات استماع أو الندوة الختامية لتقديم تقرير الهيئة) والرأي العام المعادي، يجعل من تقرير الهيئة ومخرجاتها، أعمالًا غير مقبولة لا لشيء غير أنها صادرة عن هيئة فاقدة للثقة الشعبية. وتكون بذلك السلطة التنفيذية أسست لمخطط هادف إلى تجاهل عمل الهيئة وتقريرها وخاصة توصياتها الإصلاحية. ولعل قبول رئيسة الهيئة من قبل الرئاسات الثلاث بصفة محتشمة بعيدًا عن الموكب الرسمي المفترض في تواريخ غير مُعلنة للعموم بعد تجاهل مطالب الهيئة لأسابيع يأتي ليؤكد هذا المخطط التحقيري التجاهلي الذي شرعت السلطة التنفيذية في تنفيذه.

كما تجدر الإشارة إلى أن قانون العدالة الانتقاليّة، قانون أساسي عدد 53 لسنة 2013، قد نص في فصله الأخير عدد 70 ما يلي:

“تتولى الحكومة خلال سنة من تاريخ صدور التقرير الشامل عن الهيئة إعداد خطة وبرامج عمل لتنفيذ التوصيات والمقترحات التي قدمتها الهيئة وتقدم الخطة والبرنامج إلى المجلس المكلف بالتشريع لمناقشتها. ويتولى المجلس مراقبة مدى تنفيذ الهيئة للخطة وبرنامج العمل من خلال إحداث لجنة برلمانية خاصة للغرض تستعين بالجمعيات ذات الصلة من أجل تفعيل توصيات ومقترحات الهيئة.

ينشر هذا القانون الأساسي بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية وينفذ كقانون من قوانين الدولة.”

وقد أتى هذا الفصل كمحاولة لضمان أوفر الحظوظ للتقرير الختامي على أن يتم إيلاؤه العناية اللازمة وتبني التوصيات التي ينص عليها من قبل السلطة التنفيذية برقابة السلطة التشريعية بتحميلهما المسؤولية التامة في الإصلاح بعد انتهاء عهدة هيئة الحقيقة والكرامة، كأحد أهم سلطتين في الدولة (السلطة القضائية مسؤولة على جزء آخر من مسار العدالة الانتقاليّة المتمثل في المسار القضائي والدوائر الخاصة بالعدالة الانتقاليّة). وتجدر الإشارة أنه خلال صياغة قانون العدالة الانتقاليّة من قبل اللجنة الفنية للحوار الوطني حول العدالة الانتقاليّة، نوّه الخبراء الدوليون المساندين للتجربة التونسية بأهمية معضلة تنفيذ التوصيات، خاصة الإصلاحية منها، وأكدوا أن يتم تضمين القانون إجراءات لتنفيذ التوصيات. وقد تم ذلك في الفصل المذكور، الذي يُعد تطورًا في قوانين العدالة الانتقاليّة. 

لكن بالرغم من هذه التنصيصات الاستباقية، وبالرغم من إدراك المسبق بخطر تجاهل التوصيات، تشهد تونس اليوم بوادر غير مطمئنة تؤشر على تجاهل السلطة التنفيذية لتقرير الهيئة وتجاوز للقانون من خلال عدم إعداد خطة تقدم للبرلمان للتنفيذ، في ظل ضعف الدور الرقابي للبرلمان وفي ظل تجديد البرلمان خلال السنة الحالية 2019 إثر الانتخابات التشريعية. كما يمثل موقف الأحزاب السياسية من العدالة الانتقاليّة مؤشرًا ثانيًا لهذا التخوف حيث تتراوح المواقف بين العداء والرفض بالنسبة للأحزاب ذات العلاقة بالنظام السابق كنداء تونس ومشروع تونس وتحيا تونس؛ المراودة السياسية والتأرجح في المواقف بالنسبة لحزب النهضة وبعض أحزاب اليسار؛ والدعم الضعيف بالنسبة لبعض الأحزاب التي تقدم نفسها كحاملة لمشعل الثورة كالتحالف الديمقراطي. وتجسمت هذه المواقف في مشروع نص قانوني (في طور التشاور بين السلطة التنفيذية وبعض الكتل البرلمانية) ينسف مسار العدالة الانتقاليّة بإلغاء الدوائر الخاصة للعدالة الانتقاليّة ويؤسس للجان تنفيذية والذي من شأنه أن يدفع نحو مزيد من تجاهل السلطة التنفيذية لتقرير الهيئة وتوصياتها الإصلاحية.

رغم كل هذا التقصير في مسار العدالة الانتقاليّة، والصعوبات في إنهاء عمل هيئة الحقيقة والكرامة وتقديم تقريرها، ورغم كل المؤشرات السلبية حول تفاعل السلطة التنفيذية والتشريعية، يبقى الأمل في تواصل مسار العدالة الانتقاليّة وخاصة منه تنفيه التوصيات نابضًا لدى المجتمع المدني الذي رغم نقده اللاذع للهيئة بقي مؤمنًا ومدافعًا على مسار العدالة الانتقاليّة.
ففي الوقت الذي رفضت الرئاسات الثلاثة إيلاء الأهمية للتقرير النهائي عند تقديمه، احتضن المجتمع المدني والمنظمات والشركاء الدوليين هذا التقرير وأقروا بأهميته. كما شرعت بعض مكونات المجتمع المدني في التعهد بمتابعة العمل بناء على مخرجات التقرير وتطوير استراتيجيات مبنية على التوصيات من أجل حث الجهات الرسمية على تنفيذ قانون العدالة الانتقاليّة. لكن لابدّ لهذه المبادرات أن تبحث على تأسيس عقد جديد مع باقي الأطراف الفاعلة في المجال وفي الساحة العامة، خاصة منها الإعلام الذي كان معاديًا لهيئة الحقيقة والكرامة، والأحزاب السياسية ذات المواقف التي يمكن أن تتطور نحو المساندة، ومختلف مكونات المجتمع المدني التي ستستفيد من إصلاحات تقطع مع المنظومات السابقة، ومع الهيئات المستقلة التي يغطي التقرير بعضًا من مجالات أعمالها.

هذا التحالف الجديد حول تقرير الهيئة وتوصياتها، والذي لم تنجح الهيئة في تأسيسه خلال سنوات عملها ومما ساهم في تفوق المعادين لها، يمكن أن يساهم في تأسيس ديناميكية جديدة حول مسار العدالة الانتقاليّة تتواصل لسنوات، وتساهم في نقاش عام وبناء رأي عام مساند بدوره يضغط على الحكومة والبرلمان من أجل تطبيق القانون والانطلاق في مسار إصلاحي يرقي بتونس إلى مجموعة الدول الديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وعلوية القانون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *