أوراقإصداراتالدولتونسمنتدى دعم

مسار العدالة الانتقاليّة في تونس: النّشأة، التعثّر والإكراهات السياسيّة

العدالة الانتقالية، هي تلك المنظومة المركّبة والمتكاملة من المبادئ والقواعد والآليّات والوسائل التي تستهدف فهم ومعالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضّحايا وردّ الإعتبار لهم، وإصلاح المؤسّسات وضمان عدم تكرار ممارسة الإنتهاكات .

وعلى غرار عدّة بلدان في العالم، كان لا بدّ أن تواجه بلادنا، إبّان ثورة 14 جانفي 2011 ذلك الإرث المرير من القمع والإنتهاك والتعسّف الّذي جثم على التونسيّين في ظلّ حكم الإستبداد الّذي مرّت به بلادنا على مدى عقود من الزّمن .

وتمثّل العدالة الإنتقاليّة أحد أهمّ المراحل والمسارات التي تبنّتها عدّة من الدّول قصد ضمان نجاح مسارها الإنتقالي نحو الديمقراطيّة ودولة القانون والقطع نهائيّا مع ماضي الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان .

I- أهمّ أركان منظومة العدالة الإنتقالية :

1/ كشف الحقيقة بشأن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان :

وهي الإنتهاكات الّتي تشكّل خرقا جسيما للقانون الوطني لحقوق الإنسان وللقانون الدّولي لحقوق الإنسان، وتتمثّل تلك الإنتهاكات أساسا في الإغتيالات، الإختفاء القسري، الإعتقالات التعسفيّة، ممارسة التّعذيب، التّضييق على الحريّات النقابيّة الأساسيّة ، قمع حريّة الصّحافة، منع التجمّعات والمظاهرات وقمع التحرّكات الشعبيّة .

2/ المساءلة والمحاسبة للمسؤولين المباشرين وغير المباشرين عن ممارسة الإنتهاكات :

إنّ ضمان مبدأ عدم الإفلات من العقاب يقتضي بالضّرورة مساءلة ومحاسبة سائر المسؤولين المباشرين وغير المباشرين عن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وعليه يتّجه الملاحظة في هذا الباب بأنّه يتعيّن أن تتّسع دائرة المساءلة والمحاسبة لجميع الأشخاص الّذين تورّطوا في الإنتهاكات سواء بشكل فعلي ومباشر من حيث الممارسة أو بالتّعليمات والتغطية وضمان الإفلات من العقاب، لتشمل المحاسبة المورّطين بصفة مباشرة والمتورّطين بصفة غير مباشرة في طمس حقيقة الإنتهاكات .

3/ جبر الضرر للضّحايا والتّعويض لهم رمزيّا ومعنويّا وماديّا وإعادة الإعتبار لهم :

يقوم نظام جبر الضّرر على التّعويض الرّمزي والمادّي والمعنوي للضحيّة وردّ الإعتبار لها وإسترداد حقوقها وإعادة تأهيلها وإدماجها . ويمكن أن يكون جبر الضّرر فرديّا أو جماعيّا ويؤخذ بعين الإعتبار وضعيّة الفئات المهمّشة (الأطفال، النّساء وكبار السنّ وذوي الإحتياجات الخاصّة) .والضحيّة هو كلّ شخص لحقه ضرر جرّاء الإنتهاك الممارس عليه .

4/ إصلاح مؤسّسات الدّولة :

ينصبّ إصلاح مؤسّسات الدّولة على تفكيك منظومة الفساد والقمع والإستبداد ومعالجتها بشكل يضمن عدم إنتاجها لتلكم الخروقات وذلك بتخليص مؤسّسات الدّولة ومرافقها من شتّى الآليّات التي تؤسّس للقمع والإستبداد والفساد والعمل بالتّالي على تحديث مناهجها وإعادة هيكلتها وتأهيل أعوانها بما يكفل إرساء دولة القانون وحماية الحقوق الأساسيّة والحريّات العامّة والفرديّة .

5/ المصالحة :

تهدف المصالحة إلى تحقيق السّلم الإجتماعي بين كلّ المواطنين وطي صفحة الماضي الأليم من الإنتهاكات المختلفة، وإلى إشاعة الطّمأنينة والإرتياح في علاقاتهم الفرديّة والإجتماعيّة، كما تهدف إلى إرساء ثقة المواطن في مؤسّسات الدّولة في ظلّ مجتمع ديمقراطي .

غير أنّ المصالحة لا تعني الإفلات من العقاب، ضرورة أنّ الإفلات من العقاب من شأنه الإبقاء على دوّامة الإنتهاكات بإستمرار .

أهمّ أركان منظومة العدالة الإنتقالية

1
كشف الحقيقة بشأن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان
2
المساءلة والمحاسبة للمسؤولين المباشرين وغير المباشرين عن ممارسة الإنتهاكات
3
جبر الضرر للضّحايا والتّعويض لهم رمزيّا ومعنويّا وماديّا وإعادة الإعتبار لهم
4
إصلاح مؤسّسات الدّولة
4
المصالحة

II- الأسس القانونيّة للعدالة الإنتقاليّة

تختلف العدالة الإنتقاليّة من حيث مرجعيّاتها وأسسها عن العدالة التقليديّة والدّائمة القائمة في كلّ دول العالم بناء على منظومة تشريعيّة وترتيبيّة متكاملة، يحتكم إليها القضاء بمختلف إختصاصاته وتتقيّد بها المؤسّسات الإداريّة .

فقد ولدت العدالة الإنتقاليّة من رحم تجارب دول مختلفة شهدت إرساء مسارات للعدالة الإنتقاليّة، لا سيما لجان الحقيقة الّتي تمّ إنشاءها والّتي شكّل عملها العمود الفقري لإرساء آليّات العدالة الانتقاليّة

1/ لجان الحقيقة، الإطار القانوني الأساسي في منظومة العدالة الإنتقاليّة :

تراكمت لجان الحقيقة الّتي تمّ إرساءها في ما يناهز 40 دولة تجارب هامّة جدّا من خلال عملها الدّؤوب من أجل كشف حقيقة الإنتهاكات، وقد أفضى ذلك إلى إرساء مرجعيّة قانونيّة ثريّة جدّا، من وحي التّجارب المختلفة، ساهمت إلى حدّ كبير في إنشاء إطار قانونيّ يميّز آليّة العدالة الإنتقاليّة في باب كشف الحقيقة ومعالجة الإنتهاكات، دون غيرها من آليّات البحث والتّحقيق التقليديّة والمسندة بمقتضى قوانين الدّولة للأجهزة الأمنيّة وللسّلطة القضائيّة وللمؤسّسات الإداريّة .
وبما أنّ منظومة العدالة الإنتقاليّة كانت في الحقيقة مراكمة لأهمّ المسارات والمحطات الّتي شهدتها دول عديدة في هذا الباب والّذي يهدف إلى معالجة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فإنّه من المتّجه تقديم عرض موجز لخصائص بعض لجان الحقيقة وأداءها والصعوبات الّتي واجهتها :

2/عرض موجـز لخصائص بعض لجان الحقيقة وأداءها
الأرجنتين 1983 :

الهيئة الوطنيّة حول إختفاء الأشخاص :
إصطدام إرادة المساءلة والمحاسبة للمسؤولين عن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بتمرد وتململ عاشته البلاد بدفع من العسكريّين والذين نُسبت الإنتهاكات لمزوهم خلال الحكم العسكري بالبلاد . والهدف من ذلك كان الضّغط من أجل إيقاف سلسلة المحاكمات ضدّ قيادات النّظام العسكري .
اتّخذت الهيئة قرار بإنهاء مسار المحاسبة تحت عنوان “ نقطة النّهاية “، لتعرض لاحقا تقريرها الختامي تحت شعار : “ هــذا لن يتكرّر أبـــدا “

الشّيلي 1990 :

الهيئة الوطنيّة حول الحقيقة والمصالحة :
شهد المسار الذي كان شبيها بالمسار الأرجنتيني، شهد هو أيضا عدّة مظاهر من التعثّر والصّدام مع رموز النّظام الديكتاتوري السّابق والموالين له .
غير أنّه تحسب للتجربة الإنتقاليّة في الشيلي المبادرة بإصلاح المؤسّسات وإدراجها كأحد أهمّ مكوّنات العدالة الإنتقاليّة وذلك لغاية ضمان عدم تكرار الإنتهاكات والقطع نهائيّا مع الماضي الأليم .
وتجدر الإشارة بأنّ جنوب إفريقيا قد استلهمت إرساء مسار إصلاح المؤسّسات من التجربة الشيليّة .

الأرجنتين

1983

الهيئة الوطنيّة حول إختفاء الأشخاص

انهت مسار المحاسبة بعد اصطدام مع العسكريين لتعرض لاحقا تقريرها المعنون «هذا لن يتكرر أبدا»

الشيلي

1990

الهيئة الوطنيّة حول الحقيقة والمصالحة

رغم بعض مظاهر التعثر والصدام إلا ان المبادرة نجحت في إصلاح المؤسّسات وإدراجها كأحد أهمّ مكوّنات العدالة الإنتقاليّة

جنوب افريقيا

1995

مفوّضيّة  للحقيقة والمصالحة

تم بعد سنوات من النقاش, تمكنت المفوضية من تأسيس توافق يقوم على مبدأ «العفو كقابل الاعتراف والاعتذار»

المغرب

2004

هيئة الإنصاف والمصالحة

لم تشهد التجربة محاكمة المسؤولين عن الإنتهاكات، بل اتّجهت نحو المصالحة التي تستند على العفو مقابل ردّ الإعتبار للضّحايا

جنوب إفريقيا 1995 :

مفوّضيّة جنوب إفريقيا للحقيقة والمصالحة :
مثّلت التّجربة تكريس لقيمة العفو من خلال تبنّي المفوضيّة للمعيار المعتمد على “ العفو مقابل الإعتراف والإعتذار”.
والغاية من ذلك هو الإستجابة لمتطلّبات السّلم المدني والتوجّه إلى المستقبل وفق مقتضيات الوحدة الوطنيّة وهو ما كان نتاج سنوات من الجدل والنّقاش أفضى إلى ذلك التّوافق المتأسّس على مبدأ “ العفو مقابل الإعتراف والإعتذار “

المغــرب 2004 :

هيئة الإنصاف والمصالحة :
مسار العدالة الانتقاليّة في المغرب يتميّز بكونه حصل في ضلّ استمرار النّظام السّياسي، ولم يكن يهدف للقطع تماما مع النّظام القائم والّذي نسبت إليه عديد الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على مدى عقود وذلك خلال حكم الملك الحسن الثّاني .
عقدت الهيئة عديد جلسات الإستماع السرّي وجلسات الإستماع العلني بشأن الإنتهاكات الواقعة خلال الحقبة الموصوفة بـ “سنـوات الرّصـاص “ :

  • إغتيالات سياسيّة
  • إختفاء قسري
  • إعتقالات تعسفيّة
  • الإغتراب السّياسي
  • قمع الإنتفاضات الشعبيّة
  • قمع الحريّات السياسيّة والنقابيّة
  • قمع حريّة الصّحافة

لم تشهد التجربة المغربيّة مسار المحاسبة والمحاكمة للمسؤولين عن الإنتهاكات، بل اتّجهت نحو المصالحة التي تستند على العفو والصّفح مقابل جبر الضّرر المادّي والمعنوي وردّ الإعتبار للضّحايا . هذا وتميّزت التّجربة المغربيّة بإدماج مقاربة النّوع الإجتماعي في مسار العدالة الإنتقاليّة بإعتبار أنّ ظاهرة المرأة الضحيّة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، كانت بارزة في سياق الإنتهاكات الذي شهدته المغرب .

لم تتّخذ الهيئة مواقف حازمة بشأن إنتهاكات كانت تحصل خلال ولاية الهيئة ذاتها . لم يتمّ إشراك مؤسّستي الحكومة والبرلمان لحملها على التقيّد بتوصيّات الهيئة ومتابعتها .
لم تتوفّر على السّلطة الكافية لإجبار المسؤولون على موافاتها بالمعلومات والإفادات التي تؤدّي إلى كشف الحقيقة كاملة بشأن الإنتهاكات .
عدم اتّخاذ موقف صارم من المسؤولين عن الإنتهاكات بشأن بقائهم في السّلطة وهو موقف كان من شأنه أن يضفي الكثير من المصداقيّة على عمل الهيئة .

مفوّضيّة للحقيقة والمصالحة: “ العفو مقابل الإعتراف والإعتذار”
3/ في إحتكام آليّات العدالة الإنتقاليّة لمنظومة القانون الدّولي لحقوق الإنسان :

طالما أنّ إرساء آليّات العدالة الإنتقاليّة يهدف إلى القطع مع ماضي الانتهاكات الأليم والعمل على إرساء دولة القانون في ظلّ مجتمع ديمقراطي والسّعي إلى تكريس حماية حقوق الإنسان والحريّات العامّة والفرديّة، فإنّه من الطّبيعي أن يُشكّل القانون الدّولي لحقوق الإنسان مرجعا هامّا تنهل منه الهيئات المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة ويعدّ ذلك مصافحة أولى بين المجتمع وتلك المنظومة القانونيّة الدوليّة والتي كانت مستبعدة تماما في ظلّ أنظمة الحكم القائمة على القمع والإستبداد والفساد .
إنّ القانون الدّولي لحقوق الإنسان المتمثّل أساسا في سائر المواثيق والعهود والاتّفاقيّات الدوليّة المتّصلة بحقوق الإنسان والتي تمّ تعزيزها وإثراءها على مدى عقود من مختلف أجهزة وهيئات ولجان الأمم المتّحدة المختصّة بحماية حقوق الإنسان، كتعزيزها وإثراءها أيضا من طرف مختلف الهيئات والمنظّمات غير الحكوميّة الدوليّة والوطنيّة المعنيّة بحقوق الإنسان، بات يشكّل اليوم الأرضيّة الأساسيّة في ضبط المعايير الحمائيّة لحقوق الإنسان .

III- المسار في تونس : النشــــأة والإشكاليـــات

أنشأ مسار العدالة الإنتقاليّة في تونس بمقتضى القانون عدد 53 لسنة 2013 المؤرّخ في 24 ديسمبر 2013 والمتعلّق بإرساء العدالة الإنتقاليّة وتنظيمها، بالإضافة إلى نصوص ترتيبيّة لاحقة متعلّقة بإنشاء هيئة الحقيقة والكرامة وإحداث الدّوائر القضائيّة المختصّة وميثاق التّواصل مع الإعلام .

غير أنّه يتّجه الملاحظة مبدئيّا بأنّ إرادة إرساء مسار العدالة الإنتقاليّة قد حصلت إبّان الثّورة مباشرة وذلك بإنشاء لجنة تقصّي الحقائق بشأن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال الثّورة، كإرساء لجنة البحث والتقصّي بشأن قضايا الفساد، ولجنة مصادرة الأملاك المتأتّية من ممارسة الفساد .

ولكن إرادة المجتمع إمتدّت إلى إرساء منظومة كاملة وشاملة للعدالة الإنتقاليّة بمختلف آليّاتها :

  • كشف الحقيقة بشأن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان .
  • مساءلة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات .
  • جبر الضّرر للضّحايا وردّ الإعتبار .
  • التّحكيم والمصالحة .
  • إصلاح المؤسّسات .
  • حفظ الذّاكرة الوطنيّة .

 

تلتزم الدّولة بتطبيق منظومة العدالة الإنتقاليّة في جميع مجالاتها والمدّة الزمنيّة المحدودة بها ولا يقبل في هذا السّياق الدّفع بعدم رجعيّة القوانين أو بوجود عفو سابق أو بجحية اتّصال القضاء أو بسقوط الجريمة أو العقاب بمرور الزّمن .
وكان طبيعي أن يسبق إرساء منظومة العدالة الإنتقاليّة، إطلاق حوار وطني حول العدالة الإنتقاليّة:
قرار وزير حقوق الإنسان والعدالة الإنتقاليّة بتاريخ 28 ماي 2012 بشأن إحداث هيئة للإشراف على الحوار الوطني والجهوي وذلك في مختلف القطاعات من أجل صياغة مشروع قانون للعدالة الإنتقاليّة .
وهو حوار سعى أن يشرك الجميع (الأحزاب، المنظّمات الوطنيّة والهيئات المهنيّة وجمعيّات الضّحايا والجمعيّات الحقوقيّة) .

غير أنّ أعمال اللّجنة الفنيّة المتّصلة بالحوار الوطني كانت تحت طائلة توجيهات وإختيارات حزبيّة صادرة عن وزارة حقوق الإنسان والعدالة الإنتقاليّة آنذاك، ضرورة أنّها لم تقف عند حدّ توفير الوسائل اللّوجيستيّة والتنظيميّة للحوار الوطني بل عملت على توظيف مقاربتها الحزبيّة للمسار بما أثّر سلبا على الحوار وأدّى إلى عرض مشروع قانون مبتور ومشوّه، فضلا عمّا صدر عن المجلس الوطني التّأسيسي من تعديلات، حال نقاشه لمشروع القانون وتصويته عليه وخاصّة فيما تعلّق بآليّة التّصويت بشأن تركيبة هيئة الحقيقة والكرامة .
مسار العدالة الإنتقاليّة شأن حقوقي ومن صميم إختصاص المجتمع المدني، غير أنّ هيئة الحقيقة والكرامة أنشأت بمعايير حزبيّة ضيّقة .

وقد ترتّب عن توظيف الحوار الوطني، بجعله للإستماع إلى الضحايا من طيف سياسي واحد، بالإضافة إلى أداء المجلس الوطني التّأسيسي في هذا الباب، ترتّب عنهما صدام خلال إجراء الحوار، على الصّعيدين الوطني والجهوي، أدّى إلى إنسحاب بعض منظّمات المجتمع المدني، على غرار التنسيقيّة الوطنيّة المستقلّة للعدالة الإنتقاليّة، فضلا عمّا أفرزه القانون المنظّم لمسار العدالة الإنتقاليّة، كيفما تمّت الإشارة إليه لاحقا .

أنشأت إذن هيئة الحقيقة والكرامة في ظلّ هذا الصّراع المحتدم واشتغلت في ظلّ جدل حادّ وعلى نطاق واسع بات معروفا حاليّا لدى الرّأي العام بأدقّ جزئيّاته وعنوانها الأبرز: تعثّر المسار وتشويهه تحت طائلة الإكراهات السياسية

عملت الهيئة إذن في ظلّ ذلك المناخ المتأزّم والذي لوحظ منذ نشأتها وذلك بإعتماد آليّة التّصويت على إنتخاب أعضائها وفق معيار الأغلبيّة الحزبيّة داخل المجلس الوطني التّأسيسي، مرورا بتصدّع الهيئة من داخلها، جرّاء موجة الإستقالات والإقالات في صفوف أعضائها، إلى غاية تعاطيها مع الملفّات المعروضة عليها وتنظيمها لجلسات الإستماع العموميّة وجلسات التّحكيم والمصالحة، فضلا عن تأزّم العلاقة مع أجهزة الدّولة التي من المفروض أن تساعد على تأمين المسار وإنجاحه، مثلما يقتضي الدّستور، غير أنّ بصمات التّوظيف السياسي كانت جليّة وأثّرت على سياق المسار وكان ذلك بتحريك كتل مجلس النوّاب ذات التركيبة المختلفة حاليّا عن تركيبة المجلس الوطني التّأسيسي، توظيفا سياسيّا بلع إلى حدّ رفض التّمديد في مهام الهيئة لمدّة عام إضافي، كيفما يقتضي ذلك القانون ذاته المنظّم للعدالة الإنتقاليّة في صورة عدم إنهاء الهيئة لمهامّها خلال المدّة المحدّدة بأربع سنوات .

IV- الهيئـات القضائيّـــة المختصّــة بالعدالـــــة الانتقاليّــــة

تختصّ التجربة التّونسيّة في مجال العدالة الإنتقاليّة بإمكانيّة إحالة بعض الملفّات على القضاء تكريسا لمعيار المساءلة والمحاسبة الذي يعدّ آليّة أساسيّة لضمان عدم الإفلات من العقاب وضمان عدم تكرار الإنتهاكات .

فالملاحقة القضائيّة هي إذن مواصلة لمسار المساءلة ولكن أمام القضاء، بإعتباره السّلطة الأصليّة قانونا المختصّة بالتتبّعات بشأن الجرائم وتسليط العقاب الجزائي إذا ما ثبتت الإدانة .

1 - النشـــــأة والإختــــصاص :

الفصل 8 من قانون العدالة الإنتقاليّة :
“ تحدث بأوامر دوائر قضائيّة مختصّة بالمحاكم الإبتدائيّة بمقار محاكم الإستئناف تتكوّن من قضاة يقع إختيارهم من بين من لم يشاركوا في المحاكمات ذات الصبغة السياسيّة ويتمّ تكوينهم تكوينا خصوصيّا في مجال العدالة الإنتقاليّة “ .

هذا هو النصّ المنشأ للدّوائر القضائيّة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة، ونلاحظ في هذا الباب شرط تكوينهم المسبق في مجال العدالة الإنتقاليّة حتّى ينسجموا مع منظومة العدالة الإنتقاليّة التي تختلف من حيث المساءلة والملاحقة القضائيّة عن المنظومة القضائيّة التقليديّة التي تتولّى المحاكمات بناء على إحالة من النّيابة العموميّة أو قضاة التّحقيق أو دوائر الإتّهام وبعد إستيفاء البحث من طرف أجهزة الأمن والشّرطة العدليّة .

هذا وينصّ الفصل 8 في ذات القانون على أن تتعهّد الدّوائر المذكورة في القضايا المتعلّقة بالإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على معنى : الإتّفاقيّات الدوليّة المصادق عليها وعلى معنى أحكام هذا القانون . فيما ذكر ذات النصّ، على سبيل الذّكر وليس الحصر، جانب من الإنتهاكات التي تختصّ بها الدّوائر القضائيّة :

  • القتل العمد .
  • الإغتصاب وأيّ شكل من أشكال العنف الجنسي .
  • التّعذيب .
  • الإحتفاء القسري .
  • الإعدام دون توفّر ضمانات المحاكمة العادلة .
  • تزوير الإنتخابات .
  • الفساد المالي .
  • الدّفع إلى الهجرة الإضطراريّة لأسباب سياسيّة .

وقد أثارت بعض الإنتهاكات الواردة بالنصّ جدلا قانونيّا في المنظومة القضائيّة على غرار تزوير الإنتخابات والدّفع إلى الهجرة لأسباب سياسيّة، ضرورة أنّها غير واردة بالنّصوص القانونيّة الجزائيّة، وإنطلاقا من مبدأ “ لا محاكمة بدون نصّ سابق الوضع “، وهو مبدأ أساسي في المحاكمة الجزائيّة العادلة، فإنّ القضاء سيواجه صعوبة قانونيّة إذا ما أحالت له الهيئة قضايا متعلّقة بالتّهم المذكورة أعلاه .

وفي الحقيقة، يمكن تجاوز هذه الإشكاليّة القانونيّة، بالقانون ذاته، وهو مقتضيات الفصل 8 من القانون المنظّم للعدالة الإنتقاليّة والذي ينصّ صراحة بأنّ تعهّد الدّوائر القضائيّة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة تبتّ في الملفّات المحالة عليها من الهيئة، على معنى الاتفاقيّات الدوليّة المصادق عليها .
إنّ طبيعة هذه الدّوائر القضائيّة الخاصّة بالعدالة الإنتقاليّة والتي لا تندرج ضمن المنظومة القضائيّة التقليديّة، من شأنها أن تجيز إستثناءات بشأن مصادر القانون المعتمد حال تعهّدها بالملفّات المحالة عليها من الهيئة، وعليه فإنّ الإحتكام إلى النّصوص القانونيّة الواردة بالاتّفاقيّات الدوليّة المصادق عليها والمتعلّقة بحقوق الإنسان، تعدّ مسألة منطقيّة ووجيهة قانونا.
فالقضاة الّذي يشكّلون اليوم الدوائر القضائيّة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة قد تلقوا تكوينا في مجال العدالة الإنتقاليّة وقد كانت بالتّالي المنظومة القانونيّة الدوليّة لحقوق الإنسان أحد أهم المحاور في التّكوين .

إنّ القاضي الوطني متحفّظ جدّا بشأن تطبيق القانون الدّولي في القضايا المعروضة عليه، غير أنّه ملزم بذالك حال تعهّده بملفات العدالة الإنتقاليّة .

والعودة إلى القانون المنظّم للدوائر القضائيّة المختصّة، يتجه الإشارة إلى القانون الأساسي عدد 17 لسنة 2014 المؤرّخ في 12 جوان 2014 والمتعلّق بأحكام متّصلة بالعدالة الإنتقاليّة بشأن قضايا شهداء وجرحى الثّورة .
هذه القضايا الّتي كانت موضوع جدل جاء في صفوف أهل الإختصاص في القانون وفي المجتمع المدني، جرّاء إحالة الملفات على القضاء العسكري مع كلّ ما ترتّب عن ذالك من طمس للحقيقة خلال الأبحاث والتّحقيقات الجارية في النيابة العسكريّة وقضاة التحقيق بالمحاكم العسكريّة وأفض إلى محاكمات غير عادلة بالمرّة بحق ورثة الشهداء وبحق الجرحى.
وبموجب القانون عدد 17 لسنة 2014 يحق للدوائر القضائيّة المختصّة التعهّد من جديد بقضايا شهداء وجرحى الثورة الواقعة في الفترة الممتدّة من 17 ديسمبر 2010 إلى 28 فيفري 2013 .

الدّور الرّئيسي لمنظمات المجتمع المدني وللإعلام في حشد تأييد الرّأي العام لإنصاف شهداء وجرحى الثورة وضمان حقّهم المشروع في المحاكمة العادلة يكشف الحقيقة كاملة بشأن المتورطين في الجرائم الواقعة خلال الثورة لوضع حدّ لإفلاتهم من العقاب .

تقتضي أحكام المادّة 20 من الدستور بأنّ “ المعاهدات الموافق عليها من قبل المجلس النيابي والمصادق عليها، أعلى من القواني وأدنى من الدستور “ .

وبناء على مقتضيات الدستور ذاته فإنّ إعتماد القانون الدولي لحقوق الإنسان كإطار قانوني لإنارة الملاحقة القضائيّة بشأن الإنتهاكات وإعتبار مضامينه كقواعد قانونيّة للتجريم والإدانة حيال المتورّطين في الإنتهاكات، يعدّ مطابق لمقتضيات الدستور في هذا الباب .
ويتّجه الإشارة أيضا بأنّه حتّى أحكام الدستور السّابق كانت تنصّ في المادّة 35 بأنّ الإتفاقيات الدوليّة المصادق عليها أقوى نفوذا من القوانين، غير أنّه نظرا لحالة التدجين والإرتهان الّتي كانت عليها المؤسّسة القضائيّة والّتي ظلّت تحت طائلة التوظيف في ظلّ النّظام الإستبدادي، فإنّ إحتكام القضاء للقواعد والمعايير الدوليّة حال تعهّده بالملفات المعروضة عليه كان مقصيا وفي أحسن الحالات كان بتحفّظ شديد .
وعليه بإنشاء الدوائر القضائيّة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة والّتي ستبت في القضايا المحالة عليها من هيئة الحقيقة والكرامة، وهي تتنزّل في أكثر الجرائم الجنائيّة خطورة (كالقتل والتّعذيب والفساد المالي ونهب المال العام …) ننتظر فقه قضاء جديد يتأسّس بدرجة أولى على القواعد والمعايير الدوليّة في مجال حقوق الإنسان، في ضوء قرارات الإحالة على المحاكمة الصّادرة عن هيئة الحقيقة والكرامة .

2 - الدّوائر القضائيّة المختصّة :

يمثّل إنشاء الدّوائر القضائيّة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة إرساء لآليّة قضائيّة تستهدف إعادة المحاكمات وفق المعايير الدوليّة للمحاكمة العادلة .
وستتولّى الهيئة إحالة الملفّات على هذه الدّوائر بالنّسبة لملفّات الإنتهاكات المعروضة عليها والتي لم تنتهي بالمصالحة (بالنّسبة للقضايا المتّصلة بالإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان) أو إبرام الصّلح بآليّة لجنة التّحكيم والمصالحة (بالنّسبة لقضايا الفساد المالي) .
إنّ إعتذار المتورّطين في الانتهاكات وقبول الضحيّة بذلك من شأنه غلق الملفّ بموجب المصالحة، كما أنّ إقرار المتورّطين في الفساد المالي وقبولهم بإرجاع الأموال المنهوبة والأموال المتأتّية من ممارستهم للفساد المالي، لفائدة خزينة الدّولة، من شأنه أيضا غلق الملفّات بمقتضى قرار التّحكيم الصّادر عن الهيئة .
أمّا الملفات الّتي لا تنتهي بالمصالحة أو إبرام الصّلح فإنّ جانب منها سيحال على الدّوائر القضائيّة المختصّة، ضرورة أنّه من بين الخمسة وستّين ألف (65000) شكاية المعروضة على الهيئة سيتعهّد القضاء بعدد من الملفّات المتعلّقة بإنتهاكات جسيمة بحقوق الإنسان وقعت ببلادنا، خلال المرحلة التاريخيّة الممتدّة في 01/07/1955 إلى 31/12/2013 (وهي الإطار الزّمني المحدّد لولاية الهيئة بمقتضى المنظّم لها) .

وتجدر الإشارة في هذا الصّدد، بأنّ المرحلة التاريخيّة والمشار إليها أعلاه، لا تقتضي بالضّرورة تعهّد الدّوائر القضائيّة المختصّة بالبتّ في سائر الإنتهاكات الحاصلة خلالها، بل يتوقّف الأمر على إحالة من الهيئة بناء على شكايات بعينها قد تلقّتها في الضّحايا، وعليه فإنّ الإختصاص الموضوعي للهيئة كان في الحقيقة مقيّدا بطبيعة القضايا المعروضة عليها من الضّحايا أو ذويهم (بالنسبة لإنتهاكات حقوق الإنسان) وبطلب التّحكيم والمصالحة الصّادر عن بعض رجال الأعمال الذين تورّطوا في الفساد المالي وتمّت مصادرة أملاكهم بمقتضى قانون المصادرة السّابق لقانون إنشاء الهيئة .

إعادة المحاكمات وفق معايير المحاكمة العادلة .

بالنّسبة للقضايا المعروضة لحدّ الآن على أنظار الدّوائر القضائيّة المختصّة، نلاحظ بأنّه سبق وأن تعهّد بها القضاء في ظلّ النّظام السّابق، وتمّت التتبّعات بشأنها في خرق تامّ لمعايير المحاكمة العادلة .

ونذكر في هذا الباب القضايا التّالية :

الضحيّة : نبيل بركاتي، ناشط سابق بحزب العمّال الشيوعي، توفّي تحت التعذيب يوم 8 ماي 1987 .
المتّهمون : أعوان الأمن بمنطقة قعفور من ولاية سليانة (تمّ تحديدهم بقرار الإحالة)
المحكمة المتعهّدة بالقضيّة : الدّائرة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة لدى المحكمة الإبتدائيّة بالكاف .
تاريخ إفتتاح الجلسات : 04 جويلية 2018
التّهم : القتل العمد – التّعذيب – الإيقاف التعسّفي وتزوير الوثائق، طبق أحكام الفصول 101، 151، 204 و250 من القانون الجزائي .

الضحيّة : عبد الواحد العبيدي، كان طالبا منتمي للإتّحاد العام التّونسي للطّلبة، توفّي بتاريخ 19 جوان 1991 .
المتّهمون : تمّ تحديدهم بقرار الإحالة وهم رئيس الدّولة وعدد من الوزراء ومسؤولين أمنيّين .
المحكمة المتعهّدة بالقضيّة : الدّائرة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة لدى المحكمة الإبتدائيّة بسوسة .
تاريخ إفتتاح الجلسات : 12 جويلية 2018
التّهم : القتل العمد – التّعذيب – الإخفاء القسري والإيقاف التعسّفي.

الضحيّة : رشيد الشمّاخي، منتمي لحركة النّهضة، توفّي بتاريخ 27 أكتوبر 1991.
المتّهمون : رئيس الدّولة وعدد من الوزاء والمسؤولين الأمنيّين تمّ تحديدهم بقرار الإحالة .
المحكمة المتعهّدة بالقضيّة : الدّائرة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة لدى المحكمة الإبتدائيّة بنابل .
تاريخ إفتتاح الجلسات : 29 جوان 2018
التّهم : القتل العمد – التّعذيب – الإغتصاب، والإيقاف التعسّفي، طبق أحكام الفصول 101، 204، 227، 250 و251 من القانون الجزائي .

هذه عيّنة من القضايا المعروضة حاليّا على الدّوائر القضائيّة المختصّة بالعدالة الإنتقاليّة وهي تشكّل إعادة محاكمات وفق معايير المحاكمة العادلة، ضرورة أنّ القاعدة الأصوليّة القانونيّة التي تقتضي عدم جواز محاكمة شخص مرّتين بشأن نفس التّهم المنسوبة تخضع للإستثناء في مجال العدالة الإنتقاليّة الّذي ينص قانونها على عدم إمكانيّة الدّفع باتّصال القضاء طالما ثبت عدم تقيّد المحاكمات السّابقة بالقانون ومعايير المحاكمة العادلة، وطالما ثبت بأنّها كانت غطاء لضمان الإفلات من العقاب .
لا تسقط بمرور الزّمن الدّعاوى النّاجمة عن الإنتهاكات المذكورة بالفصل 8 من قانون الهيئة .
وعليه فإنّ القاعدة الأصوليّة المتعلّقة بسقوط الدّعاوى لمرور الزّمن، تخضع هي أيضا للإستثناء الوارد بقانون العدالة الإنتقاليّة والذي يجيز إعادة فتح ملفّات الإنتهاكات حتّى في صورة وقوعها منذ عقود من الزّمن .
إنّ تعهّد القضاء من جديد بالملفّات المتّصلة بالإنتهاكات، هي رسالة أيضا للسّلطة القضائيّة، تذكّرها بأنّها لطالما كانت تحت طائلة التّوظيف بإستعمالها أداة لتصفية الخصوم السياسيّين والحقوقيّين، وحان الوقت لوضع حدّ لذلك وإحتكام القضاء في أداء مهامّه للقانون وللمعايير الدوليّة للمحاكمة العادلة دون غيرها من المؤثّرات والإملاءات، هي رسالة أيضا بكون مسار العدالة الإنتقاليّة يقتضي إستكمال كامل مراحله بما فيها إصلاح المؤسّسات (الأمنيّة والقضائيّة وغيرها) وحفظ الذاكرة الوطنيّة وفق معايير الأمانة الموضوعيّة، حتّى يختتم المسار برمّته تحت عنوان :
هذا لن يتكـرّر أبــدا

V- خصوصيّات التّغطية الإعلاميّة لمســار العدالـــــة الانتقاليّــــة

إنّ إحترام حقوق الإنسان والعمل على حمايتها يعدّ واجب مهني وأخلاقي وقانوني محمول على الصّحافيّين .
وقد وردت المعايير الدوليّة في هذا الباب، من نصوص ومواثيق وإعلانات صادرة عن أجهزة الأمم المتّحدة، تكريس مبادئ حريّة الإعلام وحقّ الصحفيّين في النّفاذ للمعلومة، كحقّهم في الحماية من كلّ أشكال الإنتهاكات .
إنّ المجال لا يتّسع في هذه الورقة لعرض النّصوص الحمائيّة للإعلاميّين، بإعتبارها تتعلّق بالأساس بمسألة التّغطية الإعلاميّة لمسار العدالة الإنتقاليّة .
إنّ التّناول الإعلامي في هذا الباب يخضع لخصوصيّات معيّنة بإعتبار طبيعة المسار بما يقتضي الإحتكام لضوابط دقيقة يتعيّن أن يتقيّد بها الإعلاميّون .
غير أنّه يتّجه الملاحظة بأنّ مهام الإعلاميّين وأدائهم لا يتوقّف على التغطية الإعلاميّة لمسار العدالة الإنتقاليّة فحسب، بل لطالما كان مصدرا من المصادر الهامّة الّتي إستندت إليها لجان الحقيقة حال توثيقها لطائفة الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وإجرائها للتقصّي والبحث والتّحقيق بشأنها .

1/ الإعلام مصدر من مصادر رصد الإنتهاكات المعتمدة في أعمال لجان الحقيقة المختصّة بالتقصي والتّحقيق في الإنتهاكات

وقد يمتدّ الإحتكام أيضا للمصادر الإعلاميّة إلى حدّ إعتمادها من بين الأدلّة في الملاحقة القضائيّة بشأن أكثر الجرائم خطورة : جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة .

2/ إسناد المركز القانوني للشهود بالنّسبة للصحفيين من طرف المحاكم الجنائيّة الدوليّة الخاصّة بيوغسلافيا السّابقة وبرواندا .

وبالعودة لخصوصيّات التّغطية الإعلاميّة ذات الصلة بمسار العدالة الإنتقاليّة، يتعيّن الإشارة إلى مبدأ الحفاظ على السريّة المحمول على أعضاء الهيئة حال قيامهم بمهامهم وذالك بناءا على ما تظمّنته أحكام الفصل 69 من القرار عدد 1 لسنة 2014 المؤرّخ في 22 نوفمبر 2014 والمتعلّق بضبط النظام الدّاخلي لهيئة الحقيقة والكرامة .

3/ يلتزم أعضاء الهيئة وأعوانها وعملتها والمتعاونين معها بالمحافظة على السرّ المهني وواجب التحفّظ ويحجّر عليهم إفشاء أعمال الهيئة أو نشرها خارج ما يصدر في تقاريرها وبياناتها

وهي ذات التنصيصات الواردة بأحكام الفصل 31 من القانون عدد 53 المنظّم للعدالة الإنتقاليّة، وأضيفت إليها المقتضيات التّالية :

4/ ولا يحق الحصول على المؤيّدات والوثائق الّتي بحوزة الهيئة أو الإطّلاع عليها إلاّ من قبل المعنيين بها والمؤاخذين بموجبها، وفي الحالات الأخرى لا يكون ذالك إلاّ بمقتضى إذن منها أو من المحكمة .

نلاحظ إذن أنّ النقاد للمعلومة غير ممكن بالنّسبة للصحافيين في هذه المرحلة من مسار العدالة الإنتقاليّة، ومرد ذلك هو :

  • ضمان سير التقصي والتّحقيق بعيدا عن المؤثرات الخارجيّة والمخاطر المفترضة لتوظيفها .
  • حماية الضحايا خلال كامل مرحلة التقصّي والبحث والتّحقيق وحصص السماعات السريّة .
  • حماية الشهود .
  • حماية الجناة .

غير أنّه لا مناص من الربط المباشر مع وسائل الإعلام في مرحلة ما في مسار العدالة الإنتقاليّة، فذلك لوحده يمكّن المجتمع من الإطّلاع على ما أفضت إليه أعمال هيئة الحقيقة والكرامة في مرحلة التّقصي والبحث الموكولة إليها، كما يهدف ذالك إلى حشد وتعبئة الرّأي العام بشأن أهميّة مسار العدالة الإنتقاليّة ضمن المسار المجتمعي الشامل في الإنتقال الديمقراطي .

5/ جلسات الإستماع العموميّة بوابة التّواصل المباشرمع وسائل الإعلام وأداة فعالّة في إنجاح المسار

لا جدال في كون التّغطية الإعلاميّة الوطنيّة والدوليّة لجلسات الإستماع العموميّة تمثل مرحلة رئيسيّة في مسار العدالة الإنتقاليّة، ضرورة أنّ التغطية الإعلاميّة تمكّن الرأي العام من النفاذ فعليا إلى الوقائع والملابسات المتعلّقة بالإنتهاكات المعروضة على أنضار هيئة الحقيقة والكرامة، وذالك من خلال متابعة تصريحات الضحايا والشّهود والجناة، مباشرة عبر أجهزة الإعلام السمعيّة والمرئيّة أو الإلكترونيّة، كتغطيتها أيضا من طرف الصّحافة المكتوبة .
غير أنّه خلافا لمعايير المعتمدة في التغطية الإعلاميّة عموما فإنّ مواكبة الإعلام لهذا المسار يخضع لقيود غير مألوفة عادّة في المجالات الأخرى، وهي القيود المنصوص عليها بميثاق التواصل مع الإعلام والّذي أعدته هيئة الحقيقة والكرامة للغرض.

ولئن تبدو هذه القيود مجحفة ومن شأنها فرض تضييقا على العمل الإعلامي ومصادرة حقّه في النفاذ إلى المعلومة، إلاّ أنّ ذالك تقتضيه طبيعة أعمال الهيئة والّتي يفترض أن تحتكم بدرجة أولى إلى رغبة الضحايا وشروط الشهود وحتّى رغبة الجناة، بعدم وضعهم تحت الأضواء الإعلاميّة وإخضاعهم لاستجوابات الصحفيين.

كما أنّه بالنّظر إلى الطبيعة القاسية والمؤلمة للإنتهاكات موضوع النّظر خلال جلسات الإستماع العمومي، من المفروض أن تحتكم الهيئة إلى أقصى معايير الأمن والسّلامة والحماية والتجرّد خلال أداءها بجلسة الإستماع العمومي، وهي معايير مفروضة على الجميع في الحقيقة، وسائل الإعلام وسائر الحضور بالجلسة من منظمات المجتمع المدني، والأحزاب والمواطنين .
لذالك كانت تحجر بسائر أوجه التفاعل خلال الجلسة، من تصفيق، وتعقيب وتقييم وغيرها من السلوكيات الّتي من شأنها إرباك الضحايا أو الشهود أو المسؤولين عن الإنتهاك .
فمن هذا المنطق الّذي يضفي شبه القداسة على جلسة الإستماع العمومي كانت القيود مسلّطة أيضا على الإعلاميين .

إنّ القيود الّتي تفرض على الإعلاميين حال مواكبتهم لفعاليّات جلسات الإستماع العموميّة، سرعان ما تنجلي لاحقا، وذلك بمناسبة مبادرة الإعلام بطرح نقاش عام بشأن الحالات المعروضة بالجلسات وبشأن مسار العدالة الإنتقاليّة برمّته .
ويشهد هذا النقاش العام المعروض على الرّأي العام تداخل عدّة أطراف وجهات، معنيّة مباشرة وبشكل غير مباشر، بالمسار من أعضاء الهيئة ذاتها، إلى الضحايا والشهود وحتّى المسؤولين عن الإنتهاكات، مرورا بالأحزاب وجمعيات المجتمع المدني وأهل الإختصاص في القانون .
نقاش عام يديره الإعلام ويسعى من وراءه إلى التقييم والتفاعل مع المسار ونقده عند الإقتضاء، في إنتظار ما سيكشف عنه التّقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة حال تغطيتهم لجلسات الإستماع العموميّة .
هذا ويتّجه الإشارة في هذا الصّدد إلى كون التعاطي مع المسألة وفق ميثاق محدّد يشمل قيودا، كان تقريبا القاسم المشترك بالنّسبة للعديد من لجان الحقيقة على غرار الحالة المغربية حيث أبرمت هيئة الإنصاف والمصالحة إتّفاقيّة مع وسائل الإعلام السمعيّة والبصريّة، شملت تنسيق متواصل في برمجة وبث جلسات الإستماع العموميّة، وإنجاز وصلات إشهاريّة لمواعيد البث والإعلان عن تاريخ الجلسات بنشرات الأخبار، مع تأطير مستمر للطواقم الصحفيّة، بالإضافة طبعا إلى ضرورة إلتزام الصّحفيين بالقيود الواردة بالإتّفاقية والّتي تقتضيها المعايير المتّصلة بتنظيم جلسات الإستماع العموميّة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *