أوراقإصداراتالدولتونسليبيامصرمنتدى دعم

عدالة انتقالية مُرتبكة: العبر التي يجب إستخلاصها من تونس وليبيا

بعد عدة أيام من الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي بدأت في المدن البعيدة الفقيرة في تونس والتي أجبرت الديكتاتور زين العابدين بن علي على الهروب إلى منفاه، اندلعت احتجاجات واسعة في مصر، مما أدى إلى سقوط نظام حسني مبارك، وبعد عشرة أشهر من ذلك، قَتل الرجل الذي قاد ليبيا لمدة 42 عامًا وصاحب أطول فترة حكم بين القيادات السلطوية التي أَسقط حكمها في تلك الفترة بطريقة مُخزية.

ومصطلح «الربيع العربي» يدل على فترة نمو وتجديد، ولكن بدلًا من ذلك، بدأت فترة من ثورات مناهضة للدكتاتورية توعد بالتغيير السياسي والتحول الاجتماعي، وانتهت، مع استثناء وحيد، بتجدد القمع أو السقوط في هاوية النزاع المسلح. وهناك العديد من العوامل والاختلافات في السياقات التي يمكن أن تفسر لنا لماذا تقدمت عمليات العدالة الانتقاليّة في تونس بينما عُرقلت وتوقفت في أماكن أخرى بالمنطقة، بما في ذلك في ليبيا، ومناقشة تلك المسألة هنا قاصر ومُركز فقط على بعض أوجه التشابه والاختلاف في العمليتين، بما في ذلك ما دفع العمليتين للتقدم إلى الأمام وما أدى إلى عرقلة مسيرتهما.

حيث إن إسقاط الأنظمة الديكتاتورية في تونس ومصر واليمن وليبيا قد أتى انطلاقًا من شكاوى بسبب البطالة والتهميش والفساد والقمع السياسي، فإن ذلك جعل من المتوقع أن تلك الشكاوى والمظالم طويلة الأمد من شأنها في النهاية أن يتم مواجهتها إن لم تَحل بواسطة الحكومات التي تولت السلطة بعد فترات الحكم الاستبدادي.

ولكن ذلك للأسف لم يحدث، فباستثناء تونس، فإن البلدان التي خرجت من ثورات الربيع العربي، حتى تلك التي أطاحت بحكام مستبدين راسخين بالحكم لفترة طويلة، انزلقوا إلى قمع عنيف، مميت ومستمر كما هو الحال بالنسبة إلى مصر أو حروب لا تزال مشتعلة كما هو الحال بسوريا وليبيا واليمن.
وعلاوة على ذلك، فإن عدم الاستقرار، والصراع المستمر، وانتشار الأسلحة العسكرية وافتقار الحكم في ليبيا إلى المصداقية، أدى إلى تصدير عدم الاستقرار خارج نطاق الدولة الليبية وأثَّر على الدول المجاورة في المنطقة، بما في ذلك مالي والنيجر. وهناك فقرة تعبر عن ذلك المعني المتعلق بالعدالة الانتقاليّة يمكن اقتباسها في ذلك الصدد: «إن سياسات العدالة الانتقاليّة في العالم العربي، سواء في تعاريفها وأشكالها، من المرجح أن تأخذ مسارًا متميزًا عن السياسات التي سبقتها في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وأفريقيا. فكل سياق منهم مختلف، وبالتالي يتطلب مجموعة متميزة من آليات لتلبية الاحتياجات الحالية، وفي حين أن معظم أدبيات العدالة الانتقاليّة التقليدية تأتي من سياق يعتقد أن العدالة الانتقاليّة علاج لفترات ما بعد القمع والصراع.. فإن إتاحة الوقت لمناقشة، وفهم، واستيعاب العدالة الانتقاليّة يمكن أن يحدث حتى خلال فترات القمع والصراعات”.

الحرب والاحتياجات الإنسانية قبل السعي لتحقيق العدالة الانتقاليّة

تُعتبر أول نتيجة تحققت في البلدان التي حلَّت الحروب بها محل الاحتجاجات مثل سوريا واليمن هي أن الجرائم المرتبطة بالنزاع التي ترتكب في هذه الحروب قد طغت على مطالب محاسبة مرتكبي الانتهاكات المتعلقة بحقوق الإنسان وجرائم الفساد التي كانت منتشرة على نطاق واسع، والتهميش المرتكب من قبل الدكتاتورية الحاكمة فترة ما قبل الحرب. ففي سوريا، على سبيل المثال، تم التركيز على توثيق الجرائم ذات الصلة بالصراع وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها حكومة الأسد، والدول الإقليمية والجماعات المسلحة غير الحكومية، والقوى غير الإقليمية مثل روسيا وتركيا، أو حتى الولايات المتحدة، وبالتبعية أدى ذلك إلى بذل جهد محدود أو معدوم في توثيق أو التوصُّل لحقائق حول انتهاكات حقوق الإنسان المُرتكبة في عهد حافظ الأسد أو في فترة ما قبل الحرب، ويجدر القول هنا إن المظالم التي أدت إلى نشوب الثورة بالأساس ينبغي عدم نسيانها مهما كانت نتيجة ذلك النزاع المستمر.

والنتيجة الثانية التي أوجدتها العدالة الانتقاليّة كنتاج طبيعي للثورات التي تتحول إلى صراع طويل الأمد هو تعزيز الاحتياج إلى الاستجابة للاحتياجات الإنسانية كأولوية، خاصة بالنظر إلى اتساع نطاقها وضعف موقف العديد من الضحايا، مثل الأطفال واللاجئين. ويُمثِّل الوضع في اليمن مثالًا واضحًا على ذلك، حيث توجه المملكة العربية السعودية الضربات الصاروخية باستخدام أسلحة زودتها بها المملكة المتحدة والولايات المتحدة وقتلت من خلالها عشرات الآلاف من المدنيين وحُرم بسببها الملايين من اليمنيين من الحصول على الغذاء والرعاية الصحية.

إن تمهيد الطريق من أجل إجراء التحقيقات وملاحقة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لهو أمر في غاية الأهمية، ولكن لا ينبغي ألا يتم ذلك على حساب تجاهل آمال الضحايا والمواطنين الذين لديهم الحق في معرفة الحقيقة وجبر أضرارهم الناجمة من جراء العنف وحرمانهم من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية، تلك الأمور التي يعانون منها الآن بشدة. وبحسب خبرات المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة التي اكتسبناها سابقًا في الأماكن الأخرى، فإن توثيق سلوك الجماعات المسلحة وقت الحرب ومسؤوليتهم الجنائية لا يكون عادة يعتبره الضحايا والمواطنين أولوية ذات أهمية قصوى، بل بدلًا من ذلك فإن أولوياتهم تتجه إلى معرفة الحقيقة وجبر الضرر، فعندما يتم إشباع تلك الحقوق، فإنهم سيسعون لإقامة العدالة وجبر للأضرار والخسائر التي لحقت بهم.

أما الأثر الثالث المُحتمل هو أن المبادرات التي أُطلقت من أجل إنصاف ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان الفردية والفئات التي سبق وتم استهدافها لإنزال بها عقاب جماعي ومحاسبة مرتكبيها (وفي حالة سوريا لا يزال ذلك يحدث إلى الآن) تجاهلت الأنظمة السلطوية وركزت على محاكمة الأفراد على الجرائم التي لها علاقة مباشرة بالحروب والنزاعات وهذا يجعل النظر في انتهاكات حقوق الإنسان التي كانت سببًا في مطالبات وشكاوى الربيع العربي معرفة حدوثها من عدمه من خلال التحقيقات وتدابير البحث عن الحقيقة وجبر الضرر أمر غير محتمل. وما تم ذكره للتو لا يدل على أن ضحايا الجرائم ذات الصلة بالصراعات الأكثر حداثة سواء في سوريا أو اليمن أو ليبيا لا يستحقون العدالة؛ ولكن يعني ذلك أن دراسة كل من جذور الانقسام الطائفي، تاريخ النظام المستبد، وتأثير التدخل العسكري الأجنبي في هذه البلدان سيتم تأجيله أو إلغاؤه بالكامل لصالح توثيق الجرائم التي ارتكبت خلال الصراع. وعلاوة على ذلك، فإن التركيز على توثيق تلك جرائم على هذا النحو سوف – بالنظر لطبيعة ما يتم توثيقه – يعطي أولوية لمحاكمة مرتكبيها باعتبارها آلية للعدالة الانتقاليّة من حيث التمويل، واهتمام المجتمع الدولي والتغطية الإعلامية الغربية.

ولذلك ينبغي لأجندة العدالة الانتقاليّة لسوريا واليمن وليبيا أن توضح وبوعي أن هذه الدول على حد سواء هي في مرحلة ما بعد السلطوية، وربما تصبح بشكل نهائي في مرحلة ما بعد الصراع. ماذا يعني ذلك بالنسبة لليبيا؟ يعني ذلك أنه ينبغي أن يكون هناك محاولة لتعميق فهم أي أجزاء بالتحديد من خبرات البلاد متعددة مع الاستبداد والصراع والاضطرابات والتغيرات السياسية التي يمكن للعدالة الانتقاليّة معالجتها، ويعني ذلك أيضًا أنه ينبغي أن يكون هناك جهد لضمان أن المساعدات التقنية، والتمويل وتصميم وثائق الملائمة، والتركيز على تقييم المبادرات الجارية والمحتملة للعدالة الانتقاليّة في العموم لابد وأن تضمن الحق في معرفة الحقيقة، والحق في التعويض، وعند الوقت المناسب الإصلاحات المؤسسية كذلك، بحيث لا يتم تأجيلهم أو إعطاء أولوية أقل لهم من إجراء الملاحقات القضائية.

وفي ليبيا بشكل خاص، يجب أن يعني ذلك أيضًا ربط الأسباب الجذرية لاستمرار الصراع والعنف بالتوترات الطائفية وصراعات الهوية التي تم قمعها من قبل الدولة الليبية تحت حكم القذافي، والتي يتم استغلالها من قبل تدخلات دولة أجنبية ومنظمات غير حكومية، ويتم استخدامها الآن من قبل مختلف الجماعات المسلحة لتبرير وجودها وسلوكها. وتزامنًا مع انتظار تدعيم السلام الهش في ليبيا لتوحيد وإيجاد حل لتسوية النزاعات العنيفة على السلطة السياسية، قد يكون من الممكن محاولة استكشاف عمليات العدالة الانتقاليّة المناسبة التي يمكن أن تدعم وتوطد السلام وتوجد تسوية سياسية، وتؤدي في نهاية المطاف إلى التعايش داخل ذلك المجتمع الممزق.

مصطفى عبد الجليل

رئيس المجلس الانتقالي الليبي السابق

من ناحية أخرى، فإن عملية العدالة الانتقاليّة في تونس، تقدمت أشواط إلى الأمام على الرغم من التحديات والمعوقات التي شكلها انعدام الثقة بين الجماعات العلمانية والإسلاميين، وعلى الرغم من محاولات من الديكتاتور السابق وحلفائه للإفلات من العقاب. ما ينبغي لليبيا أن تتعلمه من تونس هو طرق إشراك المجتمع المدني ومجموعات الضحايا والمبادرات التي تم إطلاقها محليًا كي تساعد فيتخطى العقبات وتعزيز المكتسبات التي تحققت بالفعل على أرض الواقع.

أوجه التداخل والاختلاف في التحولات التونسية والليبية

إنه لأمر مهم أن يتم التأكيد على أنه على الرغم من إصباغ وصف للحدث الإقليمي على «الربيع العربي»، فإن هناك عوامل واختلافات مهمة موروثة في السياقات الليبية والتونسية (الأمر ذاته ينطبق على بقية البلدان التي شهدت عمليات تحول وتغيرات في تلك الفترة)، وهذا يساعد على فهم أسباب تقدم العملية الانتقاليّة في تونس بينما لم يتم ذلك في ليبيا أو في أي مكان آخر في المنطقة، فتونس، على حد تعبير المدير السابق للبرنامج التونسي الخاص بالمركز الدولي للعدالة الانتقاليّة “تبقى الزهرة الوحيدة في الربيع العربي”. فجغرافيًا تونس وتاريخها وتركيبتها السكانية وكذلك الحركات الاجتماعية المتواجدة بها والتي واجهت الدكتاتورية حتى قبل الربيع العربي تتمحور حول الحركات العُمَّالية المنظمة والمجتمعات المحلية المُهمشة في المحافظات والأحياء الأكثر فقرًا، كما أن القطاع الأكبر من المواطنين الشباب، الذي قد يكون عاطلًا عن العمل، ولكن نال قسطًا من التعليم وسعة الاطلاع خاصة فيما يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي الذكية شكل العامل الأكثر حسمًا في انتصار الثورة التي كانت لا تزال في طور التكوين في عام 2008.

ولدي أول رئيس للجمهورية التونسية في مرحلة ما بعد الاستبداد، واحد من أوضح تفسيرات لسبب عدم تحول العملية الانتقاليّة في تونس إلى نزاع مسلح كما حدث في ليبيا وأماكن أخرى في المنطقة، “فالتونسيون”، وفقًا للرئيس السابق مُنصف المرزوقي، “ليسوا أكثر ذكاءً ولا أكثر سلامًا أو تسامحًا من العرب الآخرين أو أي بشر.” ويقول: “ لحُسن الحظ سكان تونس هم أكثر تجانسًا بكثير من الدول المجاورة، فالأمة التونسية تتشكل من 99٪ من عرب مسلمين سُنة وتمثل الطبقة الوسطى نسبة كبيرة من المجتمع. جيشنا هو جيش مهني لا يوجد لديه تاريخ من التورط في أنشطة اقتصادية أو سياسية. المجتمع المدني قوي، يقظ ومسؤول، غير مرن لكن مسالم. والأهم من كل ذلك، تعلم كلا من العلمانيين والإسلاميين المعارضين للاستبداد أن يتجاوزوا خلافاتهم ويعملوا معًا على الأقل منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي. وبناء على ذلك، من السهل فهم أسباب صعوبة التوصل إلى توافق سياسي مشابه بالنسبة إلى الدول الأخرى حيث يوجد شعب ضخم العدد غير متجانس كسوريا أو كالبلدان التي يوجد بها مؤسسة عسكرية ضالعة بشكل عميق في السياسة والاقتصاد كما هو الحال في مصر أو البلدان التي لا تمتلك مجتمعًا مدنيًا قويًا كاليمن وليبيا.”

لقد كانت تحكم كلاً من ليبيا وتونس أنظمة الاستبدادية خلال فترات ما بعد استقلالها تاريخيًا، وتعتمد تلك الأنظمة الاستبدادية على ما تم وصفها بأنها انتهاكات من القمع والفساد للحفاظ على السلطة التي «يعزز بعضها بعضًا”. كل من بن علي والقذافي قدموا أنفسهم كحكام يعملون على حماية بلدانهم من الإسلاميين المتشددين ولكن نسخة ومفهوم العلمانية الخاصة بهم تجلت بشكل مختلف (بل وبطرق قد تعارض العلمانية أساسًا). قدم بن علي كموال للغرب بذات الطريقة التي قدم بها نفسه سابقه السلطوي الحبيب بورقيبة، قدم نفسه كشخص يقف بحزم إلى جانب الدول الغربية التي تجاهلت فساد نظامه طالما هو يتتبع أجندة مشتركة لمكافحة الإرهاب، أما القذافي، من ناحية أخرى، فصور نفسه بأنه مؤمن بالاشتراكية على النمط الناصري وباعتباره مؤيدًا [وممولًا] لحركات التحرر الوطني التي كانت معادية للحكومات الغربية. وهناك مقارنة بين بن علي والقذافي تقول: «إن مراقبو تونس كانون من السهل عليهم ملاحظة أن بن علي كان محبوبًا من سفارات الدول الغربية، معروفًا لدى العسكريين الفرنسيين والأمريكيين، لقد كان شخصًا يعتقد الدبلوماسيون أنه يمكن الوثوق به للقيام بالحفاظ على سياسات تونس العلمانية الموالية للغرب بعيدًا عن تأثير خطر جارتها الأكبر، ليبيا القذافي».

والقذافي، مثله مثل زين العابدين بن ًعلي، اضطر في نهاية المطاف للتعاون والعمل مع الجهود الغربية الرامية إلى مكافحة إرهاب تنظيم القاعدة، كما تودد علنا لزعماء غربيين مثل توني بلير، نيكولاس ساركوزي وسيلفيو برلسكوني، لقد أبرز ذلك أن مصلحته شخصية واستمرارية نظامه في السلطة من خلال ابنه كان أكثر أهمية له من أيديولوجيته المفترضة. وخلافًا لحكم الحزب الواحد في ليبيا القذافي، كان نظام بن علي يعقد انتخابات يمكن من خلالها – نظريًا – لأحزاب سياسية أخرى المشاركة، [حتى لو كان فوز بن علي محتماً]. وقد أعطت هذه الانتخابات نشطاء المعارضة التونسية والمنظمات العمالية والمعارضين الإسلاميين خبرات في كيفية تحدي الدكتاتورية، وأتت فرصة للتنظيم والحشد علنًا حتى في ظل ظروف قمعية، وهي الخبرات والفرص التي لم تكن متاحة لليبيين خلال فترة حكم القذافي.

تواجد المجتمع المدني ودوره في إبراز المظالم

إن تأثير فساد بن علي القابض على الدولة، وعدم المساواة وتهميش المناطق الريفية التي سببها السياسات الاقتصادية للبنك الدولي وقمعه العنيف لكل من الحركة الإسلامية والحركات اليسارية النشطة داخل الاتحاد العام التونسي للشغل تجمعت في النهاية وتحولت إلى مجموعة من المظالم التي تحفز للثورة، وقد انعكست هذه المظالم إلى حد كبير على تصميم آليات العدالة الانتقاليّة في تونس. من ناحية أخرى، لأن القذافي تعمد أن يشارك منذ بدايات حكمه وبسخاء الثروة النفطية مع السكان، قيل إن ليبيا «تتمتع بمستوى عال من المعيشة نسبيًا وفقًا للمعايير الأفريقية». ولكن هذا الحال لم يدم ومثله مثل حكام آخرين في الممالك الغنية بالنفط في المنطقة، فقد كان هناك مبادلة بين تحقيق نسبي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مقابل التنازل عن الحقوق السياسية والمدنية. وعلاوة على ذلك، كما يشير خوان كول، فإن القذافي «أصبح حاقد ضد قبائل الشرق والجنوب الغربي التي كانت تعارضه سياسيًا وحرمهم من نصيبهم العادل في موارد البلاد». ويقول كول إنه في العقد الذي سبق الإطاحة بالقذافي فإن: “الفساد الشديد وصعود قلة منتفعة على غرار النمط السوفيتي، بما في ذلك القذافي وأبنائه، قد أضر بالاستثمار وأثقل الاقتصاد. كان يتم التحكم بالعمال بصرامة ولم يكن بمقدرتهم أن يتفاوضوا جماعيًا بهدف تحسين أحوالهم، لقد كانت نسب الفقر في ليبيا وضعف البنية التحتية عالية في دولة نفطية لا ينبغي أن يكون ذلك حالها”.

وبالتالي، في حين أنه كان لدى الطبقة العاملة والمجتمعات الفقيرة بين سكان البلدين مظالم مشتركة تنطوي على أسياد وقمع السياسي وزيادة تهميش، فإن وجود مجتمع منظم وقوي ولديه خبرة نسبيًا وتقوده الطبقة العاملة في تونس شكَّل فارقًا سواء خلال الأحداث التي أدت إلى الفترة الانتقاليّة والتحول أو في عملية تحديد شكل مسار العدالة الانتقاليّة التي ستطبق في البلاد. ولم تكن الثورة في تونس لتتحقق إلا بفضل الطبقة العاملة والحركات التي يقودها الشباب الخبيرة في طرق مواجهة الاستبداد. المظالم، الفساد والبطالة، وقمع كل من الإسلاميين والنشطاء اليساريين – وكذلك الخبرات الفردية والجماعية المختلفة والمكتسبة من الألم والخسارة والظلم جعلت وضع خطة وبرنامج للعدالة الانتقاليّة أجل معالجة تلك المظالم التي عمت المجتمع أمرًا ممكنًا. هذه الحركات والأحزاب السياسية التي شَكلت في مرحلة ما بعد الاستبداد التي تنتمي للأسس اللازمة لإشراك المجتمع المدني وصنعت ووضعت سياسات العدالة الانتقاليّة الجارية حاليًا في تونس.

"لحُسن الحظ سكان تونس هم أكثر تجانسًا بكثير من الدول المجاورة، فالأمة التونسية تتشكل من 99٪ من عرب مسلمين سُنة وتمثل الطبقة الوسطى نسبة كبيرة من المجتمع. جيشنا هو جيش مهني لا يوجد لديه تاريخ من التورط في أنشطة اقتصادية أو سياسية. المجتمع المدني قوي، يقظ ومسؤول، غير مرن لكن مسالم. والأهم من كل ذلك، تعلم كلا من العلمانيين والإسلاميين المعارضين للاستبداد أن يتجاوزوا خلافاتهم ويعملوا معًا على الأقل منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي. وبناء على ذلك، من السهل فهم أسباب صعوبة التوصل إلى توافق سياسي مشابه بالنسبة إلى الدول الأخرى حيث يوجد شعب ضخم العدد غير متجانس كسوريا أو كالبلدان التي يوجد بها مؤسسة عسكرية ضالعة بشكل عميق في السياسة والاقتصاد كما هو الحال في مصر أو البلدان التي لا تمتلك مجتمعًا مدنيًا قويًا كاليمن وليبيا.”
محمد المنصف المرزوقي
الرئيس التونسي الأسبق
عملية صنع سياسات العدالة الانتقاليّة ونتائجها

يشير الباحث جلبير الأشقر فإنه من خلال المقارنة «فإن دول كسوريا وليبيا، وبسبب أنها كانت تُحكم من قبل أنظمة شديدة الاستبداد لم يكن هناك جماعات منظمة مستقلة سواء كانت سياسية أو حتى اجتماعية».‎
وستظل دائماً ما إذا كان التحول في ليبيا سيتغير إذا لم يكن هناك أشهر من عمليات الغارات الجوية من قبل القوات الغربية مسألة للبحث والمناقشة، ولكن من المؤكد أن ذلك الخليط من استجابة القذافي العسكرية للموقف والدعم العسكري الأجنبي للحركات المسلحة غيَّر وجه الثورة، لقد غيرت وحولت جماعات قبلية مختلفة كانت تجتمع على نطاق واسع وتُساند الحراك السلمي إلى ما يمكن وصفهم بالثوار أو متمردين محاربين في نزاع عسكري.

لقد تميزت عملية التحول في تونس بمشاركة إيجابية مهمة من قبل المجتمع المدني، لقد كانت التدابير الأولية للعدالة الانتقاليّة قصيرة الأجل ومخصصة لتلبية الاحتياجات الفورية للضحايا ووضع سبل لمواجهة الآمال العالية للشعب. ولذلك الغرض تم إنشاء وزارة لحقوق الإنسان والعدالة الانتقاليّة، وعرضت التدابير عاجلة للتعويضات.
في عام 2011، كان واحدة من الثلاث لجان مخصصة التي تم إنشاؤها «هي لجنة تقصي الحقائق الوطنية للنظر في الانتهاكات التي ارتكبت خلال الثورة ووثق هذه اللجنة 338 قتيلًا و2147 جريحًا كضحايا للثورة.

ومن بين جميع بلدان الربيع العربي التي مرت بتحولات فإن تونس وحدها هي من نجحت في تشكيل لجنة تقصي حقائق تلعب دورًا حقيقيًا “هيئة الحقيقة والكرامة”، والقانون الأساسي لعام 2013 الذي أسس تلك الهيئة كان نتاج مناقشات عامة واسعة النطاق حول الطريقة المثالية لطرح عدالة انتقالية تونسية، وقد مُرر القانون الحاكم للهيئة بعد نقاش مجتمعي رسم من خلال برلمان منتخب. وعملية النقاش المجتمعي في حد ذاتها تجربة جديدة وديمقراطية لدولة عانت سنوات من الاستبداد .

لقد تم تشكيل الهيئة نفسها من خلال عملية معيبة إلى حد ما ولكن تشاورية ومع ذلك، حتى مع النزاعات الداخلية والتحديات الخارجية التي مرت بها استطاعت هيئة الكرامة والحقيقة إصدار أكثر من 60.000 تصريح وعقدت عدة جلسات استماعية عامة. وبينما يتم كتابة تلك الكلمات تستعد الهيئة لإصدار تقريرها النهائي.

في المقابل، اتسمت محاولات ليبيا المُبكرة في صنع سياسات للعدالة الانتقاليّة في إطار المجلس الوطني الانتقالي غير المنتخب بانعدام الشفافية وتساؤلات حول مدى الشرعية ومخاوف من أن القوانين قد شُرعت لخدمة فئات معينة (مثل حماية أعضاء المجلس الوطني الانتقالي من الملاحقة القضائية المستقبلية واسترضاء الجماعات المسلحة) ووفقًا لخبير المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة السابق ماريكا فيردا «خلافًا لما حدث في تونس ولم يكن هناك مشاورات عامة واسعة على القانون (قانون 17) على الرغم من أهمية القضايا الاجتماعية على المحك وقد حدثت تعديلات وتغييرات من قبل المؤتمر الوطني العام لاحقًا أدت إلى تحسن الأوضاع (القانون رقم 29 ) مثل لجنة المصالحة وتقصي الحقائق والتي تشبه كثيرًا هيئة الحقيقة. ولكن على الرغم من هذه التغييرات، بقت تلك اللجنة غير مُفعلة، و”لم يكن هناك أي نشاط معروف للجنة خلال عام 2018».

وبعيدًا عن هيئة الحقيقة والكرامة، أسست تشريعات العدالة الانتقاليّة التونسية عدة مؤسسات لضمان استمرار عملية العدالة الانتقاليّة ويبدأ عملها بعد أن تُصدر هيئة الكرامة تقريرها، فقد أسس القانون عدة دوائر جنائية لسمع ونظر الدعاوى الجنائية التي تحيلها هيئة الحقيقة والكرامة إليها، أما في ليبيا فيُركز المدعون الجنائيون على المحاكمات الجنائية المنظورة أمام المحكمة الجنائية الدولية والتي تمت بصلة للجرائم ارتكبت خلال النزاع العسكري هناك.

وتمتلك كلًا من هيئة الحقيقة والكرامة في تونس ولجنة المصالحة وتقصي الحقائق في ليبيا سلطة تقدير سبل ومقدار التعويضات للضحايا جنبًا إلى جنب مع غيرها من أشكال جبر الضرر، وقد أسست القوانين الحاكمة للهيئتين صندوقًا لتمويل تلك التعويضات، ويشير التركيز على التعويض والتفضيل الواضح للنهج القضائي في التعويض إلى أن الموقف من التعويض في كلا البلدين (وربما في جميع أنحاء المنطقة) لا يزال مرتبطًا بدفع الأموال – مما قد يخلق مشاكل على المدى الطويل في البلدان التي اعتادت على الإيذاء.

وفي حين أن الثورات في كلا البلدين كان من أهم مسبباتها الشكوى من الفساد، فإن القانون الليبي لا يحتوى فقط على فقرة صغيرة من “تشجع عودة الأموال العامة المكتسبة بصورة غير مشروعة” التي إذا أعادها الجاني «طوعًا» سوف تنهي أي إجراء جنائي متخذ ضده. في حين أن النسخة التونسية يخلق عملية تحكيمية أكثر تعقيدًا، ولكن المحصلة واحدة: إحداث نتيجة من خلال المفاوضات بهدف عودة الأصول المسروقة لتجنب المسؤولية الجنائية. في تونس – والأمر ينبغي أن يكون كذلك في ليبيا-، صدر ما يسمى بـ»قانون المصالحة الإدارية» في تونس والذي يمنح العفو للمسؤولين الحكوميين الذين كانوا متواطئين في الفساد في عهد بن علي ولكن لم يتربحوا أو يستفيدوا منه وهو أمر يثير تساؤلات حول الشفافية في عملية التحكيم والتقاضي. وقد انتقد المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة هذا القانون، جنبًا إلى جنب مع منظمات المجتمع المدني والشباب الذين قاموا بالثورة. لم تمر ليبيا بالمشاكل ذاتها إلى الآن ببساطة لأنه لم يتم تنفيذه هناك. ولأن هذا العفو الشامل قد يشكل خطرًا أو حتى ينهي عملية العدالة الانتقاليّة برمتها سيكون من المهم بالنسبة للتونسيين أن يتخطوا الحدود الأيديولوجية والطائفية ويعارضوا أي إفلات من العقاب.

لقد اعترفت كل من الجهود التونسية والليبية في سياسات العدالة الانتقاليّة بمظالم مختلفة الأمر الذي شكَّل دلالة مهمة على تحولات البلدين. بالنسبة إلى تونس، فإن من أهم المظالم التي بات يُنظر إليها بشكل مختلف هناك هو تهميش المناطق التي استبعدت من قبل سياسات زين العابدين بن علي الاقتصادية والاجتماعية وكانت هدفًا للقمع لأنها معاقل الإسلاميين أو المعارضة اليسارية. وفي ليبيا، تم اعتبار نزوح المدنيين باعتباره انتهاكًا يتطلب تدخل سياسات العدالة الانتقاليّة. إن معالجة مسألة النزوح علاج كموضوع خاص بالعدالة الانتقاليّة هو أمر مهم؛ فإذا ما أخذ ذلك الأمرعلى محمل الجد في ليبيا، قد يساعد على تعويض الآثار المترتبة على اتفاقية مصراتة- تاورغاء التي ترعاها الأمم المتحدة التي تعطي تعويض لشعب مصراتة – الذين يتم النظر إليهم باعتبارهم معارضين للقذافي – حين يترك نازحين تاورغاء، الذين يتم النظر إليهم باعتبارهم موالين للقذافي، معسكرات النزوح الداخلي ويعودوا إلى مجتمعاتهم الأصلية لأنها على هذا النحو تقايض الحق في التعويض بحق النازحين في العودة، وهذه معضلة حقيقية.

ما الذي من شأنه أن يعطل العدالة الانتقاليّة؟

في حين أن كلًا من التشريعات التونسية والليبية نصت على إجراء مصالحة، نصت الإجراءات التونسية وسلطت الضوء على ما سمته “الكرامة” بدلًا من المصالحة في حين أن القانون الليبي لا ينص فقط على “أن الهدف هو الوصول إلى مصالحة وطنية” ولكنه يشير أيضًا إلى ما سماه “المصالحة المجتمعية”، هذه التأكيدات المختلفة المذكورة بالنصوص، تعكس سياقات البلدين وكيف تتم التحولات الخاصة بهما. وعلى عكس ليبيا، فإن الانقسامات بتونس ليست قبلية ولكن أكثرها دينية وعقائدية ومع ذلك، أدت هذه الانقسامات إلى عدم الثقة في وقت مبكر من عملية العدالة الانتقاليّة بين النشطاء العلمانيين، الذين رأوا أنها من شأنها أن تعطي الأفضلية لكثير من الإسلاميين، الذين كانوا ضحايا لانتهاكات حقوق الإنسان، وقد عرقلت هذه الانقسامات العدالة الانتقاليّة في تونس عدة مرات، وخلقت توترات بل وحتى حالات العنف السياسي.

لو أن هناك انقسامات تستطيع أن تُعطل العدالة الانتقاليّة في تونس فلن تخرج عن احتمال من اثنين، أن يزيد العلمانيون والجماعات العلمانية من حدة تلك الانقسامات، أو احتمال آخر لا يقل خطورة عن الأول ألا وهو إمكانية العفو عن مرتكبي جرائم الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان مما يُهدد بتقويض العملية كلها.

من ناحية أخرى، فإن ملامح اتفاق مصراته – تاورغاء الذي نص على التعويضات مقابل العودة وتم برعاية الأمم المتحدة يُبرز بوضوح إشكالية الإطار الذي تتم فيه عملية المصالحة في ليبيا. ومن المفترض أن الاتفاق يسعي “لتحقيق وتعزيز المصالحة والسلام والانسجام الاجتماعي بين مصراتة وتاورغاء”. غير أنه على أرض الواقع، قد يضفي شرعية على تنفيذ عمليات انتقامية، وهو بالضبط ما ينبغي لعملية العدالة الانتقاليّة أن تتجنب حدوثه. وكما نوقش في بداية هذه الورقة، فإن التحول من الاحتجاجات إلى الحرب أدى إلى عدم اعتبار تدابير العدالة الانتقاليّة التي تعاملت مع 42 عامًا من حكم القذافي أولوية والتركيز بدلًا من ذلك على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت خلال 9 أشهر من النزاع المسلح. وكان هذا النوع من النقلات النوعية خلال الفترات الانتقاليّة موضوعًا للبحث بالمركز الدولي للعدالة الانتقاليّة: «في اللحظات الانتقاليّة شديدة الحساسية، يمكن للقوى السياسية أن تُهمل بسهولة أو تلغي مطالب الضحايا بإقامة العدالة، في حين أن النهج المعيارية، التي يدعمها المجتمع الدولي في بعض الأحيان، يمكن أن تسحق المؤسسات الضعيفة وتؤدي إلى نتائج محدودة للغاية».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *