تحتل قضية الهجرة، مكانًا مهمًا في العلاقة بين البلدان المتقدمة والأخرى النامية، نظرًا لارتباطها بكل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذ يدفع انهيار الأوضاع السياسية والاقتصادية الأفراد للهجرة من الدول النامية إلى تلك المتقدمة.
وتُعتبر قضية الهجرة غير النظامية من أهم القضايا الاجتماعية، التي لاتزال تُؤرِّق المجتمع الدولي، وهي مُشكلة شديدة الحساسية لكونها تمسّ جميع شرائح المجتمع، بحيث أصبحت الظاهرة لا تقتصر على الشباب خاصة الذكور منهم، بل أصبحت تمسّ فئة الإناث والأطفال أيضًا.
فالهجرة في حد ذاتها ليست بفعل سلبي أو غير قانوني، وهي فطرة إنسانية طبيعية وظاهرة ومشروعة، ومبدأ أساسي من مبادئ حقوق الإنسان، حيث نصت المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن لكل شخص حُرية التنقل والمغادرة لبلده أو العودة إليها، ولكن في ظل بزوغ مفهوم السيادة الوطنية تدخلت التشريعات لتضع كثيرًا من العقبات والعوائق أمام تنقل البشر من حدود لأخرى، ومن ثم تجريم ذلك الانتقال في حالة عدم استيفائه تلك المعوقات والعقبات.
ومع اتساع هوُّة الفجوة الاقتصادية بين دول شمال وجنوب المتوسط، كذلك مع ازدياد الصراعات المسلحة في إفريقيا والشرق الأوسط، وبما لا يدع مجالًا للشك أن أحداث الانتفاضات العربية التي انطلقت في عام 2010 وما أُطلق عليه «الربيع العربي» قد أنتج العديد من التطورات في ملف الهجرة وازدادت نسبة المُهاجرين من المنطقة العربية خاصة من سوريا واليمن والدول التي تشهد تحولًا عنيفًا أو مسلحًا، وتطورت ملامح المُهاجرين ولم تعد تقتصر على العاطلين والطبقات الفقيرة فحسب، وتواجد أصحاب الشهادات العُليا من أبناء الطبقة المتوسطة، كذلك ظهر التواجد النسائي والذي لم يكن موجودًا من قبل، كما ظهرت العائلات كذلك، كما أنتج الفراغ الأمني الناتج عن تلك الصراعات رواج واستفحال ظاهرة تجارة تهريب المهاجرين في دول المصدر أو العبور كتونس وليبيا ومصر.
أما دول شمال المتوسط في أوروبا، فأدى صعود التيارات اليمينية المُحافظة، والتي هي بطبيعتها مُعادية للمُهاجرين وانتشار العمليات الإرهابية للجماعات الإسلامية المُتشددة (داعش) في أوروبا، كذلك الأزمات الاقتصادية المُتلاحقة، تجمعت كل تلك المعطيات لتجعل من الخيار الأوروبي الحالي خيارًا أمنيًا، وهو أن تنطلق حدودها من سواحل دول جنوب المتوسط بإقامة معسكرات قبول وفرز للاجئين والمهاجرين، أو بتطوير وتفعيل الجانب الأمني والتضييق على المنظمات العاملة في الإغاثة الإنسانية في حوض المتوسط، مما أدى إلى انسحاب بعضها من العمل بالفعل وتعرُض العاملين بها للمضايقات الأمنية والملاحقات القضائية خاصة في إيطاليا، كذلك العمل مع حكومات دول الجنوب على تغليظ العقوبات المحلية المُتعلقة بالتنقل أو التهريب.
ولكن في النهاية فالهجرة والتنقُل هي حق أصيل من حقوق الإنسان، ومهما فعل المُشرعون أو الساسة فإن الهجرة لن تتوقف، كما أن المعالجة القانونية والأمنية لهذا الملف لن تكون كافية، ويجب أن تكون المقاربة شاملة (حقوقية، قانونية، سياسية، اقتصادية، ثقافية، اجتماعية) لمُعالجة ملف الهجرة.
وقد حاول مركز دَعْم التحوُل الديمقراطي وحُقوق الإنسان (دَعْم) تناول هذه الظاهرة بالدرس، فقد نظم مركز «دَعْم» على مدار يومي 08 و09 ديسمبر 2018 بالاشتراك مع مركز «مدافع» ومنظمة «تاناروت» منتدى دولي حول «إشكاليات الهجرة غير النظامية على المستوى القضائي والحقوقي»، بمشاركة منظمات حقوقية من 10 دول. وكان المنتدى ثريًا بمشاركة جملة من الخبراء في المنطقة.
والتي لم تختلف رؤيتهم عن ما سبق وكانت تلك هي جملة المقترحات والتي تم تبويبها حسب محاور المنتدى:
المحور الأول: تعريف الهجرة غير النظامية والآليات الحقوقية والقضائية على المستوى الدولي والوطني:
- عدم تجريم الهجرة والعمل على تكريس مفهوم الهجرة الآمنة.
- التأكيد على التمييز بين اللاجئين والمهاجرين التي تقوم بها كثير من الدول من أجل التملص من الالتزامات الدولية تجاه اللاجئين.
- توفير الضمانات اللازمة لتكريس مفهوم الهجرة الآمنة من خلال وضع التزامات على الدول عبر حزمة من الآليات والإجراءات والسياسات المناسبة.
- العمل على زيادة الإنتاج المعرفي المُتعلق بقضايا الهجرة على المستوى المفاهيمي والقانوني والحقوقي.
- تنقيح التشريعات لتصبح السُلطة القضائية المصدر الوحيد لإصدار قرارات الترحيل على ألا تتضمن إعادة المُهاجر إلى موطنه الأصلي قسرًا.
- حث الدول الموقعة على الاتفاقيات المُتعلقة بالهجرة للمُصادقة عليها وتفعيل بنودها وكذلك الدول غير المُوقعة على التوقيع على هذه الاتفاقيات والمُصادقة عليها.
- تشديد العقوبات المُتعلقة بمهربي المُهاجرين في التشريعات الوطنية المختلفة.
- تفعيل آليات القضاء المحلي بما يُتيح التصدي لظاهرة تهريب البشر.
- العمل على ملاءمة قوانين وضوابط الهجرة في التشريعات الوطنية لجعلها قابلة للتنفيذ ومُتطابقة مع الآليات الدولية المعترف بها.
- العمل على وضع مراكز الاحتجاز والإيواء تحت الإشراف القضائي.
- العمل على عدم إبقاء المُهاجرين داخل مراكز الاحتجاز والإيواء فور استكمال إجراءات المُحققين المُتعلقة بطلبات الهجرة.
المحور الثاني السياسات الدولية للهجرة غير النظامية:
- مساعدة دول الممر من قِبَل المجتمع الدولي خاصة المُتعرضة للنزاعات المسلحة.
- ندعو دول العالم لتبني ميثاق مراكش بشأن «الهجرة الآمنة» واحترام بنوده كحد أدنى.
- السعي لتوفير الأمن الغذائي للمُهاجرين.
- العمل على عدم إعادة المُهاجرين إلى دولهم قسريًا.
- العمل على رفع كفاءة الأفراد والمؤسسات العاملة في التحقيق في طلبات الهجرة بصفة مستمرة عن طريق التدريبات اللازمة.
- العمل على عودة مراكب الإنقاذ الموقوفة عن عملها، ودعوة المجتمع الدولي لدعم عودتها مع زيادة عدد تلك المراكب من أجل عمليات الإنقاذ، وإدانة الإجراءات التي تتخذها بعض الدول الأوربية «إيطاليا» والتي تتسبب في عرقلة ثم وقف عمليات الإنقاذ الدولية في وسط المتوسط .
- العمل على وقف العمليات في أعالي البحر التي تستهدف إعادة اللاجئين والمهاجرين للدول التى فروا منها، العمل على عدم بقاء أو نزول المُهاجرين إلى الدول غير الآمنة.
- العمل على تشجيع الإعلام على تبني خطاب حقوقي وإنساني فيما يخص قضية الهجرة والمُهاجرين مع التأكيد على نبذ العنصرية والتمييز وخطاب الكراهية في الإعلام.
- العمل على إرساء حق النفاذ للمعلومة للمُهاجرين.
- العمل على إنشاء شبكة أو تحالف يضُم الجمعيات والمنظمات المُشاركة في منتدى دعم الدولي مع أهمية تعزيز العلاقات بالمنظمات الحقوقية والإنسانية والقوى الأوروبية والدولية والحكومات المُساندة لحقوق اللاجئين والمُهاجرين والتى تدعو وتتبنى سياسات إنسانية تجاههم.
- العمل على مزيد من إبراز عمل المنظمات المحلية العاملة في مجال الهجرة.
- العمل على تشجيع الأدب والفنون الذي يتناول قضايا الهجرة والمُهاجرين وإبراز المعاناة البشرية المسببة لتلك الظاهرة.
أخيرًا نتمنى من خلال هذا العدد أن نكون ساهمنا في إضافة معلومات مهمة وأفكار بناءة تُساعد المُهتمين والباحثين وصانعي القرار في إيجاد السُبل الملائمة لمعالجة ملف الهجرة معالجة عادلة وشاملة.
كما نتوجه بالشكر إلى شركائنا مركز مُدافع ومجموعة تاناروت اللذان لولاهما لما ظهر هذا المنتدى وهذا العدد بتلك الصورة نظرًا لما قدماه لنا من مُساعدات وتصورات في كافة مراحل الإعداد والتنفيذ، كذلك نتوجه بشكر خاص إلى الفنانة أسماء بشاشة والتي قامت بإهدائنا لوحاتها الرائعة لتكون شاهدة على ما كُتب داخل صفحات هذا العدد.
مفهومها:
إن الهجرة كمصطلح في حد ذاته لا يحمل معنى أو مفهومًا أو دلالة سلبية، على العكس من ذلك هو مصطلح يستدعي فكرة التبادل والتنقل في العالم، ولكنه أصبح اليوم مرتبطًا بالجريمة والخوف وعدم الأمان.
«الهجرة» في اللغة تعني الترك، وهي كمصطلح قانوني تعني ترك المواطن دولته التي ينتمي إليها ليستقر في دولة أخرى بشكل دائم أو مؤقت، فالفعل، يعكس حركة وتنقل الأفراد بشكل فردي أو جماعي. وهي قد تأخذ طابعًا جماعيًا وعلى نطاق واسع وهو ما يسمى بالمد الهجري.
والهجرة بما يعني تنقل أفراد إلى بلد غير بلدهم قد تكون شرعيَّة حينما تكون مطابقة للقانون النافذ، وسرية أوغير شرعيَّة أو غير نظامية، عندما تتم بالمخالفة للقانون المُنظم لدخول وإقامة الأجانب في الدولة المستقبلة.
نطاقها:
يُعرِّف فقهاء القانون الدولي الهجرة، بأنها مُغادرة الفرد لإقليم دولته نهائيًا إلى إقليم دولة أخرى. ومن هذا التعريف نجد أن فقه القانون الدولي قد اعتدَّ بنيَّة المُهاجر وعلى ذلك فإذا ترك الإقليم ونيَّتهُ العودة إليه بعد أي مدة كانت طويلة أو قصيرة فلا يُعتبر ذلك من وجهة نظر هذا الفقه هجرة.
وإن تعددت المسميات فهي كمُصطلح تُشير بشكل ضمني لحق الدولة في أن تحمي نفسها من وصول أعداد كبيرة من المُهاجرين. في الواقع، إن سيادة الدولة هي التي تُحدد مجال الهجرة السِّرية أو غير النظامية. فعن طريق قواعد القانون والقيود المفروضة على الدخول والإقامة والشروط القانونية لدخول سوق العمل، يُمكن تحديد نطاق عدم ال شرعيَّة. ففي عالم بدون قيود على الدخول والإقامة لن يعود هنالك معنى للهجرة غير النظامية. فهي كمصطلح لم يكن له وجود إلا بعد ظهور فكرة الدولة وحدودها السياسية ، فـ»الهجرة السرية» ليست سوى أحد الآثار للقيود المفروضة من طرف الدول حول حركة الشعوب، فهي قبل وجود هذه القيود ظاهرة طبيعية.
د. كريمة الطاهر امشيري
أستاذ مساعد بكلية القانون جامعة طرابلس
هجرة غير شرعيَّة أم غير مشروعة؟
بما أنه سبق وأشرنا أن الهجرة ظاهرة قديمة وطبيعية فهي إذن مشروعة لعدم مخالفتها مبادئ عُليا غير أنها صارت غير شرعيَّة بدخول التنظيم القانوني أو بتدخل المُشرِّع لتنظيمها بنصوص قانونية. «المشروعية» تعني ما كان مطابقًا للقانون الطبيعي وبخاصة العدالة المطلقة، أما «ال شرعيَّة» فهي ما كان مطابقًا للقانون الوضعي، فالمشروعية أعلى درجة من ال شرعيَّة فليس كل شرعي بمعنى قانوني هو مشروع، فقد يُشرِّع القانون للظلم وليس أدل على ذلك من أن بعض القوانين الوضعية تحمي الأنظمة الاستبدادية، وليس كل مشروع هو شرعي كما هو الحال بالنسبة للهجرة فهي كظاهرة مشروعة لكن بعض التشريعات جعلت منها غير شرعيَّة، لذلك نحن نُفضِّل استعمال مصطلح الهجرة غير ال شرعيَّة للدلالة على عدم قانونية الهجرة بالمخالفة للتشريعات النافذة في الدولة المُهاجر إليها، ولكن قد تكون هذه التشريعات غير مشروعة في ذاتها.
كما أننا نُفضِّل أيضًا مُصطلح السرية أو الخفية، ذلك أن عدم التسجيل في منظومة الوافدين أو سجلات المُقيمين الأجانب لم ينشأ عن نسيان أو سهو أو إهمال، بل عن إرادة واعية في كتمان الأمر، كما أن اختيار هذا المصطلح يجد تبريره أيضًا في أن المُهاجرين فيها يكونون في الخفاء، أو أن وجودهم سري داخل البلاد سواء منذ عبورهم الحدود أو في وقت لاحق لذلك.
في كل الأحوال، خفية أو غير شرعيَّة، هي محمولة على أنها خرق أو انتهاك للتنظيم والقواعد الإدارية التي تضبط تدفق المُهاجرين، فيُعد غير شرعي أو خفي كل دخول عن طريق الأماكن غير المخصصة لذلك أو خارج الساعات المقررة له، أو إذا تم الدخول دون المستندات الضرورية، فهي خرق مُتعمَّد لقيود قانونية وطنية بشأن دخول وإقامة الأجانب.
يُعرِّف فقهاء القانون الدولي الهجرة، بأنها مُغادرة الفرد لإقليم دولته نهائيًا إلى إقليم دولة أخرى. ومن هذا التعريف نجد أن فقه القانون الدولي قد اعتدَّ بنيَّة المُهاجر وعلى ذلك فإذا ترك الإقليم ونيَّتهُ العودة إليه بعد أي مدة كانت طويلة أو قصيرة فلا يُعتبر ذلك من وجهة نظر هذا الفقه هجرة
الهجرة غير النظامية وتهريب المُهاجرين غير النظاميين:
إذا كان مفهوم «الهجرة غير النظامية» مفهومًا عامًا يستوعب الحركة الدولية للأفراد عبر الحدود بالمخالفة لقوانين دولة العبور أو الدولة المستقبلِة، فإنه من المناسب أن نُفرِّق بين المُهاجرين السريين وفقًا لوسيلة الدخول للبلاد: فهناك المُهاجر السري المستقل الذي يعبُر الحدود بشكل فردي أو في مجموعة صغيرة من المُهاجرين معتمدة على قُدرة أعضائها الذاتية، وهناك وهي الأكثر خطورة وتطورًا، مجموعات المُهاجرين التي تعبُر الحدود بمعرفة وإشراف المُهربين والعصابات الإجرامية المتخصصة والتي تدخل في إطار الجريمة المُنظَّمة على نطاق دولي.
ويمكن أن نصف النوع الأول من الهجرة بـ»الهجرة غير النظامية البسيطة» وهي تلك الهجرة المتمثلة في المُهاجر المُستقل أو مع مجموعة صغيرة من المُهاجرين، لكن في المقابل، حينما يستعين المُهاجر بشخص آخر أو جماعة لقاء مقابل مادي، نكون أمام تهريب للمُهاجرين، وبناء على ذلك نعتقد أنه يجب ألا يُنظَر لتهريب المُهاجرين كمرادف للهجرة غير النظامية، بل كجزء من كلٍ أوسع وأعم، ذلك أنه إذا كان كلا المصطلحين يشيران لحركة عبور الحدود بالمخالفة للقواعد الإدارية المُنظمة لدخول وإقامة الأجانب، إلا أن العبور أو التنقل غير القانوني الذي يتم بمقابل مادي يُعتبر تهريبًا للمُهاجرين دون سواه.
بناء عليه الهجرة غير النظامية ليست مرادفًا لتهريب المُهاجرين، وإنما هو جزء منها فهي أوسع وأشمل، كلا المصطلحين يشير لحركة مرور وعبور للحدود بالمخالفة للقواعد الإدارية الخاصة بدخول وإقامة الأجانب، إلا أن المساعدة على العبور لغرض الحصول على الربح هي التي تُشكل جريمة تهريب.
أسباب تهريب المُهاجرين:
يتفق الجميع على أن حركة الهجرة غير النظامية ليست بالحديثة، لكن الاحترافية العالية والتنظيم الدقيق للمرور والتسلل هو الجديد في الأمر. إن التشدد في سياسة الهجرة وإغلاق الحدود مؤخرًا كان نتيجته أن أصبح اللجوء للمهربين أفضل الخيارات المطروحة فالمُعادلة كالتالي:
طلب هجرة متزايد نحو أوروبا كندا أمريكا + تشديد الشروط للدخول والإقامة = هجرة غير نظامية + تهريب للمُهاجرين.
هذه المُعادلة تقودنا للاستنتاج التالي:
إغلاق الحدود لا يضع حدًا للهجرة غير النظامية بل يزيد من قيمة المُهاجر كبضاعة قابلة للتهريب.
مدى سلامة المُواجهة الجنائية للظاهرة:
إذا كان تجريم سلوك ما من حيث المبدأ يُعد إجراءً مشروعًا مادام مُتناسبًا مع الغاية المستهدفة وهي الدفاع عن المجتمع، لكن قد يُصبح غير مُتسامح فيه إذا تجاوز غايته الأساسية أو أن تأخذ فكرة الدفاع عن المجتمع بُعدًا سياسيًا لا يتفق والفكر القانوني […] ففكرة الدفاع عن المجتمع لا يجب أن تطغى على بعض القيم الإنسانية الأخرى كالمُحافظة على الإنسان في كرامته.
لعل المعيار الثابت للجريمة المُتمثل في معيار الرفض وعدم القبول أي أن الجريمة هي دائمًا مرفوضة وغير مقبولة اجتماعيًا في مكان وزمان تجريمها ما يُرشدنا في تحليلنا لمسلك المُشرِّع بمختلف دول العالم في تجريم الدخول والإقامة غير المشروعة. فهل هذا التصرف يُقابلهُ رفض اجتماعي من قِبَل أفراد المجتمع هناك أو من قِبَل الأغلبية، وما هي القيم التي يمس بها؟
بإسقاط ما سبق ذكره على موضوع البحث ومسألة تجريم الدخول غير الشرعي نجد أن هذا الفعل في أغلب المجتمعات حاليًا وإن كان يُشكل مخالفة للقوانين المنظمة لهذه المسألة إلا أنه لا يُثير رد فعل اجتماعي عنيف في مُواجهته مما يدفع بنا للقول إن المُشرِّع بتجريمه لهذا السلوك وإن كان له حُرية مُطلقة في ذلك إلا أنه تجريم لا مُوجب له.
إن القول بمواجهة المُهاجر غير النظامي بالعقوبات الجنائية باعتباره خطرًا يُهدد مصلحة المجتمع ولابد للمجتمع من الدفاع لحماية نفسه في مواجهة هذا الخطر لا نرى فيه سوى انعكاس للتصور الوضعي للدفاع الاجتماعي الذي يرى أن الدفاع الاجتماعي يهدُف في المقام الأول إلى حماية الجماعة بغض النظر عن أي اعتبار آخر، ففلسفته تقوم على القضاء على حالة الخطورة ولو بوسائل تعسُفية إذا دعت الحاجة، في سبيل المُحافظة على الدولة وعلى المجتمع، فالسياسة الجنائية وفقًا لهذا الفقه الوضعي تقتضي إبعاد الخطر الإجرامي، بالاعتماد على مجموعة من الإجراءات الدفاعية المُختلفة، والتي تُسمى بإجراءات الأمان وهي إجراءات يُقصد منها ضمان حماية المجتمع بصفة خاصة ورئيسية.
إن هذه الصورة من صور التجريم ليست إلا تطبيقًا من تطبيقات نظرية العدو في القانون الجنائي، تلك النظرية المهجورة والتي بدأت تظهر من جديد من خلال تجريم سلوكيات المُهاجر غير الشرعي الذي يُمثل العدو المُهدد لأمن ومصلحة الجماعة.
إلا أن محتوى الأمن والمصلحة يكمن في مجموع قيم هذه الجماعة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أو غير ذلك، التي تُريد أن تحميها وتدافع عنها، فهذا المعيار الوحيد الذي يمكن الركون إليه في تحديد مشروعية الحرب من عدمها، وحينما تختفي القيم تختفي معها مشروعية المواجهة! وهذا يقودنا للقول إن المُهاجر يُعد عدوًا رغمًا عنه. أُعلنت الحرب ضده من الدول المُتقدمة غير أن سلاحها هنا القانون الجنائي وعقوباته الاحتجاز والترحيل قسرًا إلى بلده بدلًا عن القذائف والصواريخ.
تمهيد
قبل الحديث عن علاقة جريمة تهريب المُهاجرين بتلك الجرائم الواردة بنظام روما الأساسي لا بأس من التذكير ببعض التعريفات الأساسية والمُتعلقة بمفهوم الهجرة أولًا وبتعريف جريمة تهريب المُهاجرين ثانيًا.
أولًا: تعريف المُهاجر:
لا يوجد تعريف عالمي مُتفق عليه لمصطلح (مُهاجر) غير أن هذا المُصطلح يشمل جميع الحالات التي يتخذ فيها الفرد قرار الهجرة بحُرية دون تدخل عامل خارجي قهري. (1)
علمًا بأن المنظمة الدولية للهجرة تتبنى تعريفًا مفاده أن الهجرة هي تنقل شخص أو مجموعة أشخاص سواء بين البلدان أو داخل نفس البلد بين مكانين فوق ترابه. (2)
خالد زيو
محام أمام المحكمة العليا وعضو أول مجلس وطني للحريات العامة وحقوق الانسان في ليبيا
ثانيًا: تعريف تهريب المُهاجرين:
يُمكن تعريف تهريب المُهاجرين بأنه تدبير الدخول غير المشروع لشخص ما إلى دولة طرف ليس ذلك الشخص من رعاياها أو من المقيمين الدائمين فيها، وذلك من أجل الحصول بصورة مباشرة أو غير مباشرة على منفعة مالية أو منفعة مادية أخرى. (3)
دور القضاء في التصدي لظاهرة تهريب المُهاجرين:
تبذُل الدول وخاصة دول المقصد جهودًا كبيرة لمواجهة تدفق المُهاجرين، ومع ذلك فإن هذه الظاهرة مستمرة وفي ازدياد، وربما يرجع عدم تحقيق النجاح في مواجهة الظاهرة إلى تلك التحديات التي تواجه جهود الدول. تحديات يمكن أن نُجمل أهمها (4) بعُجالة هنا وهي:
1 – انعدام الثقة المُتبادلة بين الدول والتمسك المُفرط بمفهوم السيادة.
2 – تنوع وتباين الأنظمة القانونية.
3 – انعدام أو ضعف قنوات الاتصال المُباشر بين الأجهزة المختصة في الدول المختلفة.
4 – تباين واختلاف الأولويات بين الدول.
5 – تحديات ثقافية ولغوية.
إضافة إلى هذه التحديات التي تواجه التعاون الدولي عمومًا في مواجهة ظاهرة تهريب المُهاجرين فإن هذه المكافحة ظلت تفتقر إلى أهم أدواتها وهو القضاء. وهو ما يتعذر معه القول بوجود مكافحة قضائية فاعلة في مواجهة عصابات تهريب المُهاجرين.
هذا العجز القضائي يظهر سواء على صعيد القضاء الوطني أو القضاء الدولي:
بالنسبة للقضاء الوطني:
تبدو الأنظمة القضائية الوطنية في دول المصدر وفي دول الممر أنظمة مُترهلة عاجزة تفتقد للفاعلية، هذا العجز فاقمت منه الطبيعة العابرة للحدود لجريمة تهريب المُهاجرين وانغلاق هذه الأنظمة القضائية أمام التعاون القضائي مع الأنظمة القضائية الأخرى لأسباب عدة من بينها التمسك بمفهوم كلاسيكي قديم لفكرة السيادة، فضلًا عن عدم تفعيل أنظمة تدريب وتكوين حقيقية للقضاة. وبالتالي فإن خُلاصة كل ذلك كانت مُكافحة هذه الجريمة.
وبالنسبة للقضاء الدولي:
يعرف القانون الجنائي الدولي نوعين من المحاكم (محاكم خاصة ومحكمة دائمة)
بالنسبة للمحاكم الخاصة(5) فهي محاكم تنشأ بمناسبة جريمة مُعينة مُحددة وقعت وانتهت وبالتالي فلا علاقة لهذا النوع من المحاكم بجرائم متجددة تتكرر فصولها مثل جريمة تهريب المُهاجرين، وهو ما يُحتِّم استبعاد هذا النوع من المحاكم من نطاق بحثنا هذا.
أما المحاكم الجنائية الدائمة فمثالها الوحيد هو محكمة الجنايات الدولية، والتي يُنظم اختصاصها وعملها نظام روما الأساسي، وهذه المحكمة يَحُول اختصاصها الموضوعي الضيق بينها وبين النظر في جرائم تخرج عن نطاق النماذج التجريمية الأربعة التي تضمنها نظامها الأساسي وتحديدًا في المادة الخامسة منه والتي جرى نصها كما يلي: (يقتصر اختصاص المحكمة على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره وللمحكمة بموجب هذا النظام الأساسي اختصاص النظر في الجرائم الآتية:
أ – جريمة الإبادة الجماعية.
ب- الجرائم ضد الإنسانية.
ج – جرائم الحرب.
د – جريمة العدوان.
أركان جريمة تهريب المُهاجرين:
تقوم جريمة تهريب المُهاجرين شأنها شأن أي جريمة أخرى على رُكنين مادي ومعنوي.
ويتمثَّل الرُكن المادي لهذه الجريمة في سلوك إجرامي يتخذ صورة من ثلاث، تهريب المُهاجرين أو تسهيل تهريب المُهاجرين، أو تمكين شخص من البقاء في دولة ما دون وجه حق.(6)
أما الرُكن المعنوي فيتمثل في القصد الجنائي باعتبار أن جريمة تهريب المُهاجرين هي جريمة عمدية لا تقوم بوصف الخطأ.(8)
مع ملاحظة أنه وفقًا لنص المادة السادسة من بروتوكول مكافحة تهريب المُهاجرين فإن قيام جريمة تهريب المُهاجرين يتطلب قيام قصد جنائي خاص ولا يكتفي بالقصد الجنائي العام.(7) ويتمثل القصد الخاص في اتجاه إرادة الجاني إلى الحصول على منفعة مالية أو منفعة مادية أخرى.
هل تختص المحكمة الجنائية الدولية بنظر جريمة تهريب المُهاجرين:
كما أشرنا فإن نظام روما الأساسي حدد أربع جرائم على سبيل الحصر تختص المحكمة بنظرها وهي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة، وجريمة العدوان.
وعلى ذلك فإن القول باختصاص هذه المحكمة بالنظر في جريمة تهريب المُهاجرين إنما هو رهن بإدخال هذه الجريمة ضمن عباءة إحدى الجرائم الأربع المذكورة أعلاه.
ولعل أقرب النماذج الأربعة إلى جريمة تهريب المُهاجرين هو نموذج الجرائم ضد الإنسانية ولذا سنُركز بحثنا فيما يلي على تتبع أركان وشروط وتفاصيل هذه الجرائم مُقارنة مع جريمة تهريب المُهاجرين لبيان مدى التطابق والاختلاف بين النموذجين.
يُعرِّف الفقه الجرائم ضد الإنسانية بأنها جرائم يرتكبها أفراد من دولة ما ضد أفراد آخرين من دولتهم أو من غير دولتهم بشكل منهجي وضمن خطة للاضطهاد أو التمييز في المعاملة بقصد الإضرار المُتعمَّد بالطرف الآخر (نضار) غير أن نظام روما ذاته تبنى تحديدًا واضحًا للجريمة ضد الإنسانية، ووفقًا لنص المادة السابعة من نظام روما الأساسي فإن السلوك يُشكل جريمة ضد الإنسانية إذا كان يتضمن أحد الأفعال التي عددتها المادة المذكورة (كشرط أول) وأن يُرتكب الفعل في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي مُوجَّه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين وعن علم بالهجوم (كشرط ثان).
ووفقًا للفقرة 1/ك من المادة السابعة فإن أحد صور السلوك المُشكِّلة لجريمة ضد الإنسانية هو (الأفعال اللاإنسانية الأخرى ذات الطابع المُماثل التي تتسبب عمدًا في معاناة شديدة أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية).
بتحليل هذا النص يُمكن أن نُلاحظ أن به من السِّعة ما يسمح بإدخال أفعال كثيرة ضمن نطاقه ولعل من بينها جريمة تهريب المُهاجرين.
غير أن ما قد يُصعِّب من هذا الأمر هو الشرط الثاني الوارد بنص المادة السابعة وهو أن يُرتكب الفعل ضمن هجوم واسع النطاق أو منهجي مُوجَّه ضد مجموعة من السكان المدنيين وعن علم بالهجوم.
لا شك أن التعريف اللُّغوي لكلمة (هجوم) يَحُول دون إدخال جريمة تهريب المُهاجرين ضمن هذا النص، لأن الواقع يُفيد أن المُهاجر هو الذي يتقدم إلى المُهرِّب ويلتمس منه أن يقبله بل ويدفع له مقابل لقاء ذلك، مما يطرح وبحق التساؤل أين هو الهجوم؟؟
غير أن هذه الصعوبة تبدو صعوبة (لُغوية) فقط ذلك أن نظام روما ذاته عرَّف (الهجوم) تعريفًا أكثر سِعَة وبشكل يمكن معه اعتبار (عملية) تهريب المُهاجرين هي هجوم بالمعني القانوني – وهو ما يُهمنا هنا – وإن لم تكن كذلك لُغويًا.
وبيان ذلك أن الفقرة 2/أ عرَّفت الهجوم بأنه نهجًا سلوكيًا يتضمن الارتكاب المُتكرر للأفعال المُشار إليها في الفقرة (1) ضد أي مجموعة من السكان المدنيين عملًا بسياسة دولة أو مُنظَّمة تقضي بارتكاب هذا الهجوم.
وبعبارة أكثر مُباشرة فإنه إذا كان ما تقوم به عصابات تهريب المُهاجرين هو (أولًا) ارتكاب مُتكرر (ثانيًا) فعل لا إنساني يتسبب عمدًا في معاناة شديدة أو في أذى يلحق بالصحة الجسمية أو العقلية ويتم (ثالثًا) استنادًا وتطبيقًا لسياسة منظمة أو عصابة مختصة بالتهريب يقضي بارتكاب هذا الفعل فإننا – والحال كذلك – نكون أمام حالة واضحة ومُتكاملة الأركان والشروط بما يؤهلها لتدخل ضمن الحالات الواردة بالمادة السابعة من نظام روما الأساسي.
إن نظام روما الأساسي حدد أربع جرائم على سبيل الحصر تختص المحكمة الجنائية الدولية بنظرها وهي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة، وجريمة العدوان, وعلى ذلك فإن القول باختصاص هذه المحكمة بالنظر في جريمة تهريب المُهاجرين إنما هو رهن بإدخال هذه الجريمة ضمن عباءة إحدى الجرائم الأربع المذكورة أعلاه.
إن نظام روما الأساسي حدد أربع جرائم على سبيل الحصر تختص المحكمة الجنائية الدولية بنظرها وهي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة، وجريمة العدوان. وعلى ذلك فإن القول باختصاص هذه المحكمة بالنظر في جريمة تهريب المُهاجرين إنما هو رهن بإدخال هذه الجريمة ضمن عباءة إحدى الجرائم الأربع المذكورة أعلاه.
حاولنا في الأسطر السابقة تلمُس مدى التطابق بين جريمة تهريب المُهاجرين مع النموذج الوارد بنظام روما الأساسي. وسنحاول فيما يلي أن نلتمس طريقًا آخر لبحث مدى إمكانية القول باختصاص محكمة الجنايات الدولية بنظر جريمة تهريب المُهاجرين.
نُطل هُنا من سؤال أساسي مفاده ماذا لو أحال مجلس الأمن إلى المحكمة الجنائية الدولية ما ليس من اختصاصها؟
للإجابة نذكِّر أولًا بنص المادة 13 من نظام روما الأساسي والذي نص على أنه (للمحكمة أن تمارس اختصاصها فيما يتعلق بجريمة مشار إليها في المادة الخامسة وفقًا لأحكام هذا النظام الأساسي في الأحوال التالية: إذا أحالت دولة طرف إلى المدعي العام وفقًا للمادة 14 حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت.
ب/ إذا أحال مجلس الأمن متصرفًا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت.
ج/ إذا كان المدعي العام قد بدأ بمباشرة تحقيق فيما يتعلق بجريمة من هذه الجرائم وفقا للمادة 14.
ومؤدى النص السابق أن الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية تكون إما بناء على طلب من الدولة العضو أو بطلب من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أو بقرار إحالة من مجلس الأمن. استنادًا إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.(8)
نعود إلى سؤالنا أعلاه.
بلا شك إذا أحال المدعي العام للمحكمة أو طلبت دولة طرف من المحكمة النظر في واقعة ليست من اختصاصها فإن المحكمة ستقرر عدم اختصاصها وذلك استنادًا إلى اختصاصها الموضوعي المُقيد وفقًا للمادة السابعة سابقة الذكر.
أما إذا كانت الإحالة من مجلس الأمن وتبين للمحكمة أن ما أحاله إليها المجلس لا يدخل ضمن اختصاصها فإن الاتجاه الراجح هو انطباق ذات الحكم وهو أن للمحكمة أن تحكم بعدم اختصاصها.
غير أن بعض الفقه هنا يذهب مذهبًا آخر. ويرى أنه إذا كانت الإحالة من مجلس الأمن الدولي فإنه لا يعود للمحكمة أن تحكم بعدم الاختصاص. وسند هؤلاء أن مجلس الأمن عندما يُحيل الأمر إلى المحكمة فهو لا يتصرف استنادًا إلى نظام روما بل استنادًا إلى ميثاق الأمم المتحدة. وحيث أن الميثاق أعطى لمجلس الأمن السلطة العليا في حفظ الأمن والسلم الدوليين فإنه لا يعود بالإمكان الاستناد إلى اتفاقية ما لعرقلة هذه الصلاحيات المخولة للمجلس واستنادًا إلى نص المادة 103 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على أنه (إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة وفقًا لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام آخر يرتبطون به فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق)
فإن المحكمة الجنائية الدولية لا يعود بإمكانها الحكم بعدم الاختصاص استنادًا إلى أحكام نظام روما الأساسي بتعارضه مع ميثاق الأمم المتحدة (9)
الخلاصة:
القول إن مواجهة جريمة تهريب المُهاجرين لا يمكن أن تتم بشكل فعال بواسطة القضاء الوطني وحده، وأن الآليات القضائية الدولية يمكن أن تكون أكثر نجاعة في مواجهتها والتصدي لها، وإلى أن يتمكن الفكر القانوني الدولي من تبني إلزام صريح للمؤسسات القضائية الدولية بتبني صريح وواضح لاختصاص قضائي جنائي دولي للنظر في هذه الجريمة فإنه ينبغي العمل علي إعادة تفسير النصوص المتاحة بما يسمح للقضاء الدولي بتولي مهمة التصدي لهذه الظاهرة ما أمكنه ذلك. وبالطبع دون الإخلال بالتفسير القانوني السليم للنصوص خاصة وفقًا لمذهب الإرادة المحتملة للمشرع.
الهوامش
1/ أبو غانم، محمد محمود مساعد، جريمة التهريب المنظم للهجرة غير الشرعيَّة. مع دراسة تطبيقية على الجمهورية اليمنية، ص 14
2/ أبو غانم، المرجع السابق، ص 13
3/الفقرة أ من المادة 3 من بروتوكول مكافحة تهريب المُهاجرين عن طريق البر والبحر والجو المكمل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة عبر الوطنية.
4/ أبو غانم، المرجع السابق.
5/ ومثالها المحكمة الخاصة بقضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
6/عبد العظيم، عمرو مسعد، الموجهة الجنائية والأمنية لجرائم الهجرة غير الشرعيَّة، ص151- 156.
7/ عبد العظيم، عمرو مسعد، المرجع السابق ص159-160
8/المدحجي وائل، صورالأحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية ص109
9/ لمزيد من التفاصيل حول العلاقة بين مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية انظر يوبي عبدالله، علاقة مجلس الأمن بالمحكمة الجنائية الدولية.
المراجع
أولا/ الكتب والرسائل والمقالات:
1 – أبو غانم محمد محمود مساعد، جريمة التهريب المنظم للهجرة غير الشرعيَّة مع دراسة تطبيقية على الجمهورية اليمنية، دار النهضة العربية، 2014
2 – المدحجي وائل،صورالإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية، مقال من منشورات جامعة الأندلس للعلوم والتقنية، بدون ت.
3 – عبد العظيم عمرو مسعد، المواجهة الجنائية والأمنية لجرائم الهجرة غير الشرعيَّة، دار النهضة العربية، 2016، بدون ط.
4 – يوبي عبدالله، علاقة مجلس الأمن بالمحكمة الجنائية الولية، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة وهران، العام الجامعي2011-2012
ثانيا / الوثائق:
1 – ميثاق الأمم المتحدة
2 – نظام روما الأساسي
3 – بروتوكول مكافحة تهريب المُهاجرين عن طريق البر والبحر والجو المكمل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة عبر الوطنية.
تعتبر الهجرة ظاهرة قديمة قدم الانسان، متجددة بتجدد الأنظمة السياسية والاجتماعية والقانونية وذلك بالنظر لإرتباطها بالعديد من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدول.
لقد تطورت ظاهرة الهجرة بتطور المجتمعات البشرية وبتطور الأنظمة السياسية والقانونية التي وضعت حدودًا لحق التنقل للتصدي للهجرة وتحديد شروط إستقبال الوافدين نظرًا لإرتباطها الوثيق بمفهوم السيادة، لتتحول هذه الوسيلة التي كانت تعتمد لكسب الرزق وتحقيق التنمية الى أخطر الظواهر الاجتماعية، الأمر الذي جعلها تتخذ مكانة هامة ضمن تحديات المجتمع الدولي، فلم تعد مجرد ظاهرة مرتبطة ببعض الدول وبعض المجتمعات بل أضحت ظاهرة عالمية تعاني منها جميع الدول سواءًا الدول المتقدمة أو الدول النامية .
وعلى الرغم من أن ظاهرة الهجرة غير النظامية تعد ظاهرة دولية إلا أنه تمت مجابهتها بطرق مختلفة طبقًا لإختلاف الدول المعنية بها، ونقصد بذلك دول الإستقبال وهي التي تمثل وجهة المهاجر ودول المعبر التي يعبرها المهاجر لبلوغ وجهته ودول المنشأ وهي الدول المصدرة التي ينتمي لها المهاجر.
سندس بشناوي
قاضية
وتكمن أهمية التطرق اليوم إلى المقاربة الوطنية والدولية لظاهرة الهجرة الغير نظامية بإعتبارها أحد أهم الإشكالات التي تواجهها العديد من الدول التي تنظر إلى المهاجرين غير الشرعيين بوصفهم مصدر كل المخاطر والأزمات وسببا مباشرًا في إنتشار الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات والتطرف الديني والعرقي والعامل المباشر في عدم الإستقرار والإنفلات الأمني الأمر الذي زاد في تبرير إستعمال وسائل التصدي والردع لمواجهة هذه الظاهرة دون إيلاء إهتمام جدي بحقوق المهاجرين، مما أدى إلى هشاشة مراكزهم القانونية.
لقد تظافرت جهود المجتمع الدولي لمكافحة ظاهرة الهجرة غير الشرعية من خلال إبرام الإتفاقيات الدولية ومن أهمها إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية وبروتوكولها الملحق الخاص بمكافحة “جريمة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو” والتي مهدت لإتفاقيات إقليمية وثنائية بين دول العبور ودول الإستقبال وبين الدول المنشأ ودول الإستقبال بهدف ترسيخ التعاون الدولي للقضاء على هذه الظاهرة وخاصة من خلال إحداث لجنة حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة ولاية المقرر الخاص المعني بحقوق الانسان للمهاجرين، حيث حثت اللجنة على إيجاد السبل الكفيلة لحماية حقوق المهاجرين ،غير أن تحقيق المعادلة بين حقوق الانسان وحماية دول الإستقبال لإستقرارها وأمنها يبدو صعبًا.
إن تزايد عدد المهاجرين نتيجة للأزمات السياسية المتتالية التي عرفتها بعض الدول دفع العديد منهم إلى الدعوة لمجابهة وتأطير وضعية المهاجرين الغير نظاميين عبر إبرام الإتفاقيات الدولية التي سعت إلى إحداث نوعين من الآليات: آليات للتصدي لظاهرة الهجرة تصطبغ بالطابع الأمني أساسا، وآليات ذات طابع حمائي وحقوقي من جهة أخرى.
لكن على الرغم من ذلك تبقى هذه الإتفاقيات على أهميتها محدودة النجاعة وأهم مثال على ذلك الإتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال التي تم إبرامها سنة 1999 ولم تدخل حيز النفاذ إلا سنة 2003 حيث قامت العديد من دول المنشأ المصادقة عليها في حين تولت الدول المستقبلة عدم التوقيع عليها علمًا أنها تستقطب أغلب العمال المهاجرين سواءًا في أوروبا أو أمريكا الشمالية ودول أخرى كاليابان وأستراليا ودول الخليج وهو الأمر الذي جعل الإشكالية المتعلقة بتسوية وضعيتهم مستمرة ومتشعبة ومتعددة الأوجه.
تعريف الهجرة غير النظامية طبقا للمنظور الدولي:
قبل التطرق إلى كيفية التصدي للهجرة غير النظامية انطلاقًا من التشريعات يجب تحديد ماهية الهجرة غير الشرعية إنطلاقًا من بعض النصوص الدولية، حيث عرفت المفوضية الأوروبية الهجرة الغير شرعية بوصفها “كل دخول عن طريق البر أو البحر أو الجو إلى إقليم دولة عضو بطريقة غير قانونية بواسطة وثائق مزورة أو بمساعدة شبكات الجريمة المنظمة، أو من خلال الدخول إلى منطقة الفضاء الأوروبي بطريقة قانونية من خلال موافقة السلطات بالحصول على تأشيرة وثم البقاء بعد إنقضاء الفترة المحددة أو تغيير غرض الزيارة والإقامة دون موافقة السلطات”، وعرفته المفوضية الدولية لشؤون الهجرة بوصفه “إجتياز بلد بدون موافقة سلطاتها ودون أن تتوفر في الشخص العابر للشروط القانونية للمرور عبر الحدود لعدم حيازته على الوثائق القانونية اللازمة”
وعرفت الإتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين في المادة الخامسة المهاجر الغير شرعي هو “المهاجر الغير حائز على الوثائق النظامية” الأمر الذي يدفعنا إلى اعتماد مطلح الهجرة غير النظامية.
أثر تعريف الهجرة من المنظور الدولي يجب التطرق إلى أنواع الهجرة وهي الهجرة الشرعية أو القانونية التي نعني بها الهجرة المنظمة والمطابقة للقانون ولإجراءات السفر الجاري بها العمل، وهو النوع من الهجرة الذي يتم وفق المتطلبات والقواعد الإجرائية والموضوعية المعمول بها دوليًا والمتطلبة وفق كل تشريع كل دولة على حدة والتي من أهمها حمل المهاجر لوثيقة سفر قانونية، وأن لا يكون محجرًا عليه من مغادرة الدولة التي ينتمي إليها لأسباب قانونية وأن يكون متحصلًا على إذن شرعي للدخول إلى الدولة الراغب في الهجرة إليها وأن يقيم في الدولة المقصد وينهي إقامته فيها وفق المسموح به قانونًا والمقرر طبقًا لقوانينها وأنظمتها وما حصل عليه من مدة، وإطلاقًا مما سبق بيانه نستنتج أن مدى توفر الشرعية من عدمها يرتبط بمدى توفر علم الدولة بتنقل المواطن وووجهته وعلم الدولة الراغب الهجرة إليها ودخوله وإقامته بها.
فئات المهاجرين غير النظاميين التي حددتهم الاتفاقيات الدولية
أنواع الهجرة
إضافة للهجرة الشرعية التي سبق بيان الشروط المتعلقة بها وجب التطرق إلى الهجرة غير الشرعية أو الغير نظامية التي تنقسم طبقًا لقواعد القانون الدولي الخاص إلى نوعين، النوع الأول وهو الذي سبق تعريفه أي عدم حمل المهاجر لوثيقة سفر وعدم تمتعه بالإذن الشرعي للدخول الى الدولة المقصد والمغادرة من الدولة المنشأ ودخوله إلى الدولة المراد الهجرة إليها عن طريق غير مسموح ومتعارف عليه من سلطات تلك الدولة، أما النوع الثاني فهو يبدأ بطريقة غير شرعية أي طبقًا للوسائل المعتمدة سابقًا ولكن يقوم ذلك الشخص بتقنين وتسوية وضعيته طبقًا لقوانين دولة الإستقبال.
فئات المهاجرين
بالإطلاع على الإتفاقيات الدولية التي أحالت إلى وضعية المهاجرين لا نجد نظامًا قانونيًا موحدًا وآليات وقائية شاملة بهدف حماية المهاجرين بل نجد فقط الإجراءات المتعلقة بردع الظاهرة والمسؤولين عنها دون وضع قواعد قانونية تتلائم مع فئات المهاجرين المختلفة، أو معايير موحدة تساعد على الإحاطة بالظاهرة وتمكن التشريعات الوطنية والأنظمة القضائية من إتباعها لتحديد الآليات الواجب إتخاذها لمجابهة ظاهرة الهجرة غير النظامية.
تُحيلنا الإتفاقيات الدولية عامة إلى أربعة فئات من المهاجرين وهم الأشخاص الذين يهاجرون بطريقة غير قانونية دون أن تتم تسوية وضعيتهم، الأشخاص الذين يهاجرون بطريقة قانونية وتنتهي مدة الإقامة المسموح لهم بها، الأشخاص الغير مسموح لهم بموجب تأشيرتهم العمل بمقابل والذين يعملون بطريقة غير قانونية، وأخيرًا طالبي اللجوء الذين رفضت طلباتهم والذين لا ستجيبون إلى إتفاقية جنيف المتعلقة باللاجئين.
1 - المقاربات الدولية للهجرة غير النظامية
سعى المجتمع الدولي إلى تأطير ظاهرة الهجرة غير النظامية عبر إقرار مبدأ ضمان حقوق المهاجرين واحد أهم هذه الإتفاقيات هي إتفاقيات منظمة العمل الدولية التي اعتنت بحماية حقوق المهاجرين ومن أهمها الإتفاقية الدولية عدد 97 لسنة 1949 والإتفاقية عدد 143 لسنة 1975 وعدد 189 المتعلقة بالعمل اللائق، كما سعت منظمة العمل الدولية عمومًا إلى حماية حقوق المهاجرين على إعتبارهم الأكثر عرضة للإستغلال خاصة في البروتوكول المتعلق بمكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو المصادق عليها بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 55/25 لسنة 2000 وتعزز هذا التوجه الحمائي مع صدور البروتوكول المتعلق بمعاقبة الإتجار بالأشخاص وخاصة النساء والأطفال كتكملة لإتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة العبر وطنية بهدف حماية حقوق المهاجرين ومكافحة تهريبهم والتي كيفت تهريب المهاجرين كجريمة دولية محاولة تكريس مجموعة من المبادىء على غرار محاربة أنشطة الجماعات المنظمة لعمليات التهريب وضرورة معاملة المهاجرين معاملة إنسانية وخاصة ضرورة إتخاذ الدول الأطراف للتدابير والتشريعات اللازمة لتجريم تهريب المهاجرين.
لئن كانت هذه الإتفاقيات الدولية قد منحت حقوقًا للمهاجرين فإنها تبقى قاصرة على ضمان الحقوق المكفولة لهم نظرا لغياب الآليات الحقيقية والناجعة لمعالجة وضعية المهاجرين ورفض دول الإستقبال ضمان الحقوق الاساسية للمهاجرين.
وتعتبر اليوم إتفاقية حماية جميع العمال المهاجرين وأسرهم هي الأقدر نوعًا ما على مواكبة تطور ظاهرة الهجرة غير النظامية، إستنادًا لتكريسها المبادىء المتعلقة بحماية حقوقهم ومن جهة أخرى تحديدها للمعايير الدولية المتعلقة بالضمانات المكفولة للمهاجرين غير النظاميين ومن جهة أخرى التمييز بين فئتين وهما المهاجرين الحائزين على الوثائق النظامية القانونية المتعلقة بغقامتهم بصفة ومحدودة والغير حائزين على وثائق قانونية.
إضافة لذلك فقد كرست هذه الإتفاقية مفهوم التعاون والإلتزام بين دول المنشأ ودول الإستقبال ودول العبور لضمان الحق الانساني للمهاجر الغير الشرعي ومجابهة ظاهرة إستغلال المهاجرين وذلك بصرف النظر عن طرق إقامتهم بدول الإستقبال وضرورة إحترام هويتهم الثقافية.
نظريًا يبدو أن الإتفاقيات الدولية حاولت تأطير ظاهرة الهجرة غير النظامية وإخضاعها إلى مجموعة من المبادئ غير أن احترام الدول الأطراف لهذه المبادئ ليس أمرًا واقعا إستنادًا إلى العديد من الأسباب المتعلقة بالدول المستقبلة للمهاجرين والتي تسعى بالأساس إلى حماية إستقرارها الأمني وسيادتها وهنا سنذكر المثال الإيطالي حيث أصدرت إيطاليا قانون خاص بالهجرة سنة 1998 الذي يعد أول القوانين التي تعنى بالنظام القانوني للمهاجرين وتفعيل إجراء الإعادة القسرية وتنظيم مراكز حجز وايواء المهاجرين الغير شرعيين كما حدد هذا القانون مدة حجز المهاجرين والتي يتم على إثرها تحديد مصيرهم غير أن هذا القانون لم يكن كفيلًا بردع المهاجرين ونذكر هنا أحد الحوادث التي وقعت في أكتوير من سنة 2013 والمتعلقة بغرق سفينة تقل 300 مهاجر كان بإمكان أحد سفن الصيد مساعدتهم إلا أنها أبت ذلك خوفًا من أن تتم معاقبتهم إستنادًا إلى أن القانون الإيطالي يجرم كل طرق المتعلقة بمساعدة المهاجرين غير الشرعيين.
إن الإتفاقيات الدولية على أهميتها في السعي إلى مكافحة ظاهرة الهجرة الغير النظامية إلا إنها تبقى مجرد مجهودات لا تفي بغرض المجابهة الفعلية لهذه الظاهرة بجميع أركانها وتحقيق المعادلة بين ضمان حقوق الانسان ومكافحة الهجرة ومردود ذلك أساسًا هو غياب إستراتيجيات شاملة وسياسات طويلة الأمد من جانب دول الإستقبال والدول المصدرة لأن المجهودات الدولية في مواجهة ظاهرة الهجرة تبقى مجرد ردات فعل عن وضعيات بعينها يغيب عنها الطابع الشمولي، ولتأطير الهجرة غير النظامية يجب وضع المبادئ المتعلقة بطرق مجابهة هذه الظاهرة وتحديد الحقوق التي يتمتع بها المهاجرين و ملائمة القواعد الزجرية للوضعيات إنطلاقا من خصوصيتها.
ان المبادئ الأساسية لوضع إطار دولي شامل وقع التطرق لها في العديد من الإتفاقيات الدولية المتفرقة على غرار الإتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع المهاجرين وأفراد أسرهم 1990 وإتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة العبر وطنية 2000 وبروتوكوليها الملحقين المتعلقين بمنع الإتجار بالبشر ومكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو التي صادقت عليها دول قليلة خاصة إتفاقية حماية حقوق العمال المهاجرين التي لم تقع المصادقة عليها من قبل عديد من دول الإستقبال.
إن فعل التهريب يشتمل على نقل أفراد من دولة الى أخرى كسًبا لربح، على خلاف الإتجار بالبشر الذي يتم تجريمه بالإستناد إلى توافر عنصرين إضافيين يتجاوزان نطاق التهريب، أي يجب أن ينطوي الإتجار على وسائل ملتوية مثل القسر أو الإختطاف، ويجب أن يكون الفعل قد أُرتكب لغرض الإستغلال
إن التطرق إلى موضوع الهجرة غير النظامية أتخذ أشكالًا مختلفة ومقاربات متنوعة بتنوع الإشكالات المطروحة في علاقة أساسًا بمواجهتها كظاهرة تؤرق المجتمع الدول والتي يتم تكييفها بوصفها مصدر كل المخاطر التي قد تهدد دول الإستقبال وكوضعية تستحق مزيدًا من الإحاطة والحماية عندما يقع التطرق إليها من منظور حقوقي وانساني بالأساس، لذلك كان التطرق الى مسألة الهجرة في زمن غير بعيد مرتبط أساسًا بحقوق العاملين المهاجرين وأسرهم وبمسألة التمييز والإضطهاد الذي قد يتعرض له العامل المهاجر في دول الإستقبال التي كانت أثر الحرب العالمية تستقطب المهاجرين بوصفهم يد عاملة، لا بل كانت هذه الدول تجبر العاملين على مغادرة موطنهم الأصلي للمشاركة في عمليات الإعمار.
لم تتواصل هذه الرؤية وهذه المقاربة التي كانت تتخذها بعض الدول في حقبة تاريخية معينة بهدف حماية حقوق المهاجرين، فتغيرت المناهج والسياسات المعتمدة وبدأت دول الإستقبال تتصدى للمهاجرين وتضع قوانين وأنظمة معقدة للحد من الهجرة التي أضحت غير شرعية ومرتبطة أساسًا بالصبغة الإنتقائية، حيث أصبحت دول الإستقبال تسعى لإستقطاب المهارات البشرية و تضع حدودًا وعراقيل أمام الفئات التي كانت تعتبرهم وسيلة أعمال وتنمية والذين أصبحوا في نظرها مصدر كل المخاطر والجرائم ويشكلون تهديدًا لإستقرارها وأمنها.
من هذا المنطلق أصبحت الهجرة غير النظامية هاجس دول الإستقبال التي تسعى الى وضع سياسات أمنية ذات طابع زجري بالأساس، وإتخذ المجتمع الدولي زاوية نظر غير مختلفة عبر إبرام العديد من الإتفاقيات الدولية والإقليمية الهدف منها الحد من هذه الظاهرة وليس إحاطتها بمجموع الضمانات اللازمة لحماية المهاجرين وعلى الرغم من ذلك بقيت عاجرة عن التصدي لهذه الظاهرة التي إتخذت لها موقعًا من القانون الجزائي للعديد من دول الإستقبال ودول العبور ودول المنشأ.
نظرًا إلى الضغوط والوضعيات المأساوية المتعلقة بالمهاجرين والضغوط المتواصلة من قبل دول الإستقبال خاصة منها الدول الأوروبية بوصفها الوجهة الرئيسية للمهاجرين الغير شرعيين لدول أفريقيا لإجبارها على إتخاذ التدابير الضرورية لمجابهة الهجرة غير النظامية، تم إبرام العديد من الإتفاقيات الثنائية التي تطرقت إلى مجموع الإجراءات الواجب إتباعها إلا أن هذه الإجراءات في معظمها تأخذ طابعًا زجريًا وردعيًا مستبعدة الطابع الحمائي فهي مجرد إجراءات أمنية بحتة تتعلق بالإحتجاز الحدودي وعمليات إبعاد المهاجرين الغير نظاميين عن أقليم الدول المستقبلة للمهاجرين.
لقد عرفت منظمة الأمم المتحدة الهجرة غير النظامية بوصفها “دخول غير مقنن لفرد من دولة إلى أخرى عن طريق البر أو الجو أو البحر… ولا يحمل هذا الدخول أي شكل من تصاريح الإقامة الدائمة أو المؤقتة، كما تعني عدم إحترام المتطلبات الضرورية لعبور حدود الدولة.” ومن هذا المنطلق جاء التمييز بين جريمتين وهما الإتجار بالبشر وتهريب الأشخاص حيث عرف بروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو، المكمل لإتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة عبر الوطنية، تهريب المهاجر وفق العناصر التالية: تدبير الدخول غير المشروع لشخص ما إلى دولة طرف ليس ذلك الشخص من رعاياها أو من المقيمين الدائمين فيها.
أن تهريب المهاجرين والإتجار بالبشر كلاهما يندرجان ضمن الأفعال المجرمة على المستوى الدولي لذلك وجب التمييز بينهما لتحديد الأبعاد المتصلة بكليهما، إذ أن فعل التهريب يشتمل على نقل أفراد من دولة الى أخرى كسًبا لربح، على خلاف الإتجار بالبشر الذي يتم تجريمه بالإستناد إلى توافر عنصرين إضافيين يتجاوزان نطاق التهريب، أي يجب أن ينطوي الإتجار على وسائل ملتوية مثل القسر أو الإختطاف، ويجب أن يكون الفعل قد أُرتكب لغرض الإستغلال، بصرف النظر عن تحقق الإستغلال من عدمه، ومنه هذا المنطلق يجب التمييز بين الوسائل المعتمدة بين الجريمتين ففي جرائم الإتجار بالبشر تتمثل الوسائل في التهديد بالقوة أو إستعمال القوة أو أي شكل من أشكال القسر أو الاختطاف أو الإحتيال أو إساءة إستعمال السلطة أو إساءة إستغلال حالة اجتماعية أو وضعية هشة أو بإعطاء مبالغ مالية، أما بشأن جريمة الهجرة غير النظامية فتكون بناء على رغبة الشخص نفسه، وغالبًا ما يشرع المهاجر غير الشرعي بالإتصال بالمهربين من أجل مساعدته في تنفيذ رغبته إضافة لذلك تختلف الجريمتين في الغاية والهدف ففي جريمة الإتجار بالبشر تشمل الإستغلال الجنسي أو الإسترقاق أو الممارسات الشبيهة به وبيع الأعضاء على خلاف الهدف في جريمة الهجرة غير النظامية التي يسعى من خلالها المهربون إلى تحقيق منفعة شخصية قد تكون مالية أو مادية أو غير ذلك، وينتهي الإستغلال بوصولهم إلى وجهتهم، حيث تكون لهم حرية الإرادة.
تختلف كذلك الجريمتين من حيث إشتراط موافقة الضحية ففي جريمة الإتجار بالبشر لا يمكن الحديث عن موافقة الضحية، بصرف النظر عن ظروف موافقتهم في البداية، فإن تلك الموافقة لا معنى لها بالنظر الى أفعال المتاجرين التي تتسم بالإجبار أو الخداع، على خلاف الهجرة غير النظامية، فإن المهاجرين على علم تلم بكافة الظروف المحيطة بعملية التهريب التي تعتبر عمومًا مهينة وخطيرة، وبرغم ذلك، يوافقون على التهريب بإردتهم الحرة.
من هذا المنطلق نجد مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة الذي لعب دوراً هامًا في التصدي للهجرة غير النظامية وما قد ينتج عنها، من خلال إصدار القانون النموذجي لمكافحة تهريب المهاجرين في إستجابة لطلب الجمعية العامة وذلك لتعزيز جهود الدول الأعضاء، وتقديم المساعدة إليها لتمكينها من الإنضمام إلى إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية والبروتوكولات الملحقة بها وتنفيذها. من هذا المنطلق حددت المادة الأولى الهدف الأساسي المتمثل في تنفيذ بروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو المكمل لإتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية، مكافحة تهريب المهاجرين، تعزيز التعاون على الصعيدين الوطني والدولي وتسهيله من أجل تحقيق الأهداف المنشودة وحماية حقوق المهاجرين المهربين.
وبهدف مواجهة الهجرة غير النظامية وأثارها المأساوية تبنت المنظمة الدولية للهجرة العديد من الآليات الهادفة إلى تحسين أوضاع المهاجرين، ودعم إستراتيجيات وسياسات مكافحة تهريب المهاجرين لما له من آثار سلبية على مختلف دول العالم، عن طريق التنسيق والتعاون على المستويين الإقليمي والدولي بين كل السلطات والوكالات المعنية بحماية وأمن الحدود، بهدف ضبط منظومات معنية بإدارة الحدود.
2 - مقاربة التشريع التونسي للهجرة غير النظامية:
تختلف التشريعات الوطنية المتعلقة بالهجرة غير النظامية من دولة إلى أخرى وذلك بإختلاف الأهداف والسياسات المتبعة وخاصة الوضعيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الدول ومن هذا المنطلق كانت الغاية الأساسية للدول المغاربية من سن قوانين تعنى بالهجرة الغير نظامية التصدي لها خلال تجريمها ومعاقبة فاعليها والمشاركين فيها والمنظمين للهجرة السرية وأبرز مثال على ذلك هو التشريع التونسي حيث تضمن القانون عدد 06 لسنة 2004 المؤرخ في 03فيفري 2004 المتعلق بتنقيح وإتمام القانون عدد 40 لسنة 1975 المؤرخ في 14ماي 1975 المتعلق بجوازات السفر ووثائق السفر العديد من العقوبات الجزائية المختلفة بإختلاف الأفعال المرتكبة والمتعلقة بالهجرة والتي تتدرج من 3 سنوات الى 20 سنة دون أن يولي أهمية للحقوق المتعلقة بالمهاجرين أو بحمايتهم مستبعدًا بذلك التوجه الذي يتبنى نظرية «المهاجر الضحية»، معتمدًا بالأساس على آلية الردع والزجر وهي الآليات القانونية التي تتماشى مع التوجهات التي إتخذتها بعض الدول الأوروبية و من أهمها إيطاليا التي تعد أحد دول الإستقبال بالنسبة للمهاجرين التونسيين على إعتبارها أول الدول الأوروبية وأكثرها تضررًا من هذه الظاهرة التي أصبحت سواحلها الجنوبية قبلة لأعداد هائلة من المهاجرين غير القانونيين، وهو ما دفعها إلى سن أول قانون خاص للهجرة سنة 1998 والذي وضع لأول مرة نظام قانوني خاص بالهجرة غير النظامية من خلال ضبط إجراءات الدخول للإقليم الإيطالي وتجديد إقامة الأجانب وتأسس هذا القانون على أربعة آليات تتمثل في إعادة برمجة سياسات الهجرة من جديد، النظر في شروط دخول الأجانب لإيطاليا وسبل الإقامة بها، وإعادة تنظيم إجراءات منح الإقامة وتفعيل الإعادة القسرية للمهاجرين غير النظاميين وإحداث مراكز حجز وإيواء المهاجرين، وحدد القانون المدة القانونية للحجز هؤلاء المهاجرين ب30 يومًا، يتم بعدها تحديد مصيرهم بعدة طرق، إما السماح لهم بالإقامة والعمل في الأراضي الإيطالية أو ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية، أو محاكمتهم إذا قاموا بأفعال يعاقب عليها القانون في فترة تواجدهم بالدولة الإيطالية.
وعلى الرغم من الصبغة الزجرية لهذه الإجراءات إلا أنها أعتبرت غير كافية لردع هذه الظاهرة الخطيرة التي تهدد إيطاليا خاصة بعد تزايدها الكبير مع مرور الوقت، الأمر الذي مهد لظهور قانون جديد للهجرة سنة 2002 يعرف «بالقانون رقم 189 أو بقانون بوسي فيني»، جاء هذا القانون صارمًا من خلال تفعيل إجراءات الحبس والطرد حيث نصت المادة 13 «من القانون بسجن الأجنبي من سنة إلى أربع سنوات الذي صدر له أمر بالطرد ولكنه ما زال موجود على أراضي الدولة” وهذا بعد القبض عليه ومحاكمته
ولم يكتفي القانون بوضع عقوبات جزائية بل نظم إجراءات طرد المهاجرين غير النظاميين عن طريق المرافقة إلى الحدود لأنه يجب على السلطات مساعدته أو تنفيذ تحقيقات أخرى للحصول على مستندات السفر الخاصة بالمهاجر وفي حالة عدم وجود أي وسيلة نقل مناسبة تسمح بتنفيذ المرافقة إلى حدود البلد المنشأ للمهاجر فإنه يتم حجزه لدى مراكز الإيواء مؤقتًا، وعند إنتهاء هذه المدة التي مدها القانون من 30 يوم إلى 60 يومًا حسب نص الفصل الرابع عشر، وفي حالة عدم إمكانية تنفيذ حكم الترحيل يتم إصدار قرار بترك الأراضي الإيطالية خلال خمسة أيام ويتم الحكم عن طريق مستند مكتوب فيه النتائج الجزائية في مخالفة القانون إضافة إلى ذلك أصدر القانون الايطالي عقوبة جديدة متعلقة بالمهاجرين المقيمين دون تأشيرة إقامة بصرف النظر عن دخولهم بطريقة قانونية ويعتبرهم القانون وفي وضع غير قانوني وينطبق عليهم قرار الترحيل.
لم يكن التشريع التونسي بمنأى عن التخوفات المتعلقة بالهجرة الغير نظامية بل مثل أحد أهم التحديات الوطنية التي سعت إلى مجابهتها خصوصًا عبر تجريم الهجرة غير النظامية وتكريس عقوبات جزائية مختلفة بإختلاف الفعل المتعلق بالهجرة وبطبيعته وهو في الواقع ليس مختلف عن التشريعات المعتمدة في عدة دول اخرى ونذكر من أهمها مصر حيث أعتمدت نفس التمشي التشريعي وتدرجت في إعتماد العقوبات الجزائية، حيث نص القانون المتعلق بالهجرة غير الشرعية على 21 عقوبة وتضمن القانون في الفصل الثانى «الجرائم والعقوبات»، ليشمل تعريفات واضحة لنص الجرائم والعقوبات، وهى تتعلق طبقًا للمادة الخامسة من هذا القانون بعقوبة السجن بالنسبة لكل “من أسس أو نظم أو أدار جماعة إجرامية منظمة لأغراض تهريب المهاجرين أو تولى قيادة فيها أو كان أحد أعضائها أو منضمًا إليها” إضافة لتنصيصه صلب المادة الخامسة على أن “يعاقب بالسجن وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تزيد على مائتي ألف جنيه أو بغرامة مساوية لقيمة ما عاد عليه من نفع أيهما أكبر كل من أرتكب جريمة تهريب المهاجرين أو الشروع فيها أو تورط فى ذلك وتكون العقوبة السجن وغرامة لا تقل عن مائتي الف جنيه ولا تزيد على خمسمائة ألف جنيه أو غرامة مساوية لقيمة ما عاد عليه من نفع أيهما أكبر في أي من الحالات الآتية :إذا كان الجاني قد أسس أو نظم أو أدار جماعة إجرامية منظمة لأغراض تهريب المهاجرين أو تولى قيادة فيها أو كان أحد أعضائها أو منضمًا إليها، إذا كانت الجريمة ذات طابع غير وطني، إذا تعدى الجناة أو ارتكب الجريمة شخص يحمل سلاحًا، إذا كان الجاني موظفًا عامًا أو مكلفًا بخدمة عامة وأرتكب الجريمة بإستغلال الوظيفة أو الخدمة العامة، إذا كان من شأن الجريمة تهديد حياة أو تعريض صحة من يجرى تهريبهم من المهاجرين للخطر أو تمثل معاملة غير إنسانية أو مهينة، إذا كان المهاجر المهرب أمرأة أو طفلًا أو من عديمي الأهلية أو من ذوى الإعاقة، إذا أُستخدم في إرتكاب الجريمة وثيقة سفر أو هوية مزورة أو إذا أُستخدمت وثيقة سفر أو هوية من غير صاحبها الشرع، إذا أُستخدم في إرتكاب الجريمة سفينة بالمخالفة للغرض المخصص لها لخطوط السير المقررة”.
لقد كان المشرع التونسي مقارنة بنظيره المصري سباقًا إلى إقرار العقوبات الجزائية بالنسبة للمهاجرين غير النظاميين التي تراوحت بين 4 و20 سنة حيث نص القانون المتعلق بجوازات السفر ووثائق السفر لسنة 2004 ضمن الفصل 38 على أنه «يعاقب بالسجن مدة ثلاثة أعوام وبخطية قدرها ثمانية آلاف دينار كل من أرشد أو دبّر أو سهّل أو ساعد أو توسّط أو نظّم بأيّ وسيلة كانت، ولو دون مقابل، دخول شخص إلى التراب التونسي أو مغادرته خلسة سواء تمّ ذلك برًا أو بحرًا أو جوّا، من نقاط العبور أو من غيرها.والمحاولة موجبة للعقاب وكذلك الأعمال المعدة مباشرة لإرتكاب الجريمة» كما تضمنت العقوبات الأشخاص الذين يتولون إيواء المهاجرين بمقوله أنه «يعاقب بالسجن مدة أربعة أعوام وبخطية قدرها عشرة آلاف دينار كل من تولى إيواء الأشخاص الداخلين أو المغادرين للتراب التونسي خلسة أو مرتكبي الجرائم المنصوص عليها بهذا الباب أو خصص مكانًا لإيوائهم أو أخفاهم أو عمل على ضمان فرارهم أو عدم التوصل إلى الكشف عنهم أو عدم عقابهم. ويعاقب بنفس العقوبة المنصوص عليها بالفقرة المتقدمة كل من وفر وسيلة نقل مهما كان نوعها بهدف إرتكاب الجرائم المقررة بهذا الباب أو المساعدة على إرتكابها»، وقد ساوى المشرع التونسي بين الاشخاص المسؤولين عن تهريب المهاجرين سواء الى داخل التراب التونسي أو الى خارجه وجعل العقوبة «بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها اثنا عشر ألف دينار كل من تعمد نقل شخص أو أشخاص لغاية إدخالهم إلى التراب التونسي أو إخراجهم منه خلسة مهما كانت الوسيلة المستعملة».
لم يكتفي المشرع التونسي بالتنصيص على هذه العقوبات الجزائية المتعلقة بالمهاجرين والمسؤولين عن إيوائهم بل كذلك نص معاقبة «كل من شارك في وفاق أو كوّن تنظيمًا يهدف إلى إعداد أو تحضير (….) أو اداره أو إنخرط فيه أو تعاون معه أو ساعده بأي طريقة كانت سواء كان ذلك داخل البلاد أو خارجها. ويحصل الوفاق أو التنظيم بمجرد الإتفاق والعزم بين شخصين أو أكثر على إرتكاب الأفعال المذكورة» بالفصول السابقة ، كما شدد المشرع درجة العقوبات بالنسبة لفئة معينة نص عليها بصفة حصرية صلب الفصل 43 من القانون المتعلق بجوازات السفر ووثائق السفر ليكون العقاب بالسجن مدة إثني عشر عامًا وبخطية قدرها أربعون ألف دينار إذا أُرتكبت الجرائم المذكورة «سابقًا :ممن عُهد إليه بحراسة الحدود أو نقاط العبور أو الموانئ بصفة مباشرة أو غير مباشرة أو بمراقبتها، ممن عَهد إليه القانون مهمة معاينة هذه الجرائم وزجر مرتكبيها، من أعوان قوات الأمن الداخلي أو من أعوان القوات العسكرية أو أعوان الديوانة ،ممن إستغل صفته أو النفوذ الممنوح له بحكم وظيفته أو عمله، ضد طفل أو بإستخدامه.
أن هذه العقوبات على أهميتها في ردع المهاجرين عن إتخاذ سبيل الهجرة غير الشرعية للهروب من الأوضاع الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التي تعيشها دولهم، لا تفي بغرض صد المهاجرين وأبرزت عدم فاعليتها وعدم قدرتها على مجابهة هذه الظاهرة إنطلاقًا من العقوبات الجزائية التي تعتمدها دول المنشأ والسياسات الأمنية التي تعتمدها دول الإستقبال لا يمكن إلا أن تزيد الوضع تعقيدًا، وقد بينت الوضعية الراهنة ضرورة إنشاء إستراتيجيات دولية طويلة المدى لمكافحة ظاهرة الهجرة من جهة ووضع الضمانات اللازمة لحقوق المهاجرين الذين يعتبرون غالبًا ضحية لوضع اجتماعي أو سياسي معين.
في النهاية يجب أن نلاحظ بأن المنظمات الدولية وعلى الرغم من محاولاتها العديدة لإيجاد السبل الكفيلة بتأطير الظاهرة إلا انها بقيت غير قادرة على تحديد تعريف جامع وموحد للهجرة أو تحديد إحصائيات دقيقة لعدد المهاجرين ومعايير مضبوطة لتحديد مدى نجاعة الاجراءات المتخذة من قبل دول الإستقبال في مواجهة الهجرة الغير شرعية وغياب السبل الكفيلة للحد من هذه الظاهرة.
إن مجابهة الهجرة غير النظامية وتحقيق النجاعة في التصدي لأثارها يستوجب تعاونًا مستمرًا بين دول الإستقبال التي هي في الغالب دول الشمال، وبين دول الجنوب المصدرة للهجرة غير النظامية، وهذا التعاون أساسه التصدي بموضوعية لتجاوز الأسباب والدوافع المتصلة بظاهرة الهجرة غير النظامية، وأهمها الدوافع الاقتصادية والأزمات السياسية التي تعيشها أغلب البلدان العربية اليوم.
هل تفاقمت ظاهرة الهجرة غير النظامية بعد التغيرات التي حدثت في المنطقة العربية؟
ظاهرة الهجرة غير النظامية هي ظاهرة قديمة، أي هي موجودة ما قبل التطورات التي شهدتها المنطقة العربية بين 2010 و2011، لأن الدوافع الكامنة وراء هذه الظاهرة موجودة قبل الثورة، لكن بعد الثورة ربما توفرت الظروف الأمنية والموضوعية للقيام بموجات هجرة كبيرة في المنطقة.
بالنسبة لتونس هذه الموجات موجودة منذ سنة 2000 ولكن طبيعة النظام كانت التعتيم وعدم توفر معلومات، خاصة أن النظام وقتها كان يتشدق بنجاحاته الاقتصادية، لكن هذه النجاحات كانت تُكذِّبها الأزمة الاجتماعية التي كانت إحدى تعبيراتها هي الهجرة غير النظامية، بالتالي فإن دوافع هذه الظاهرة موجودة ما قبل الثورة، لكنها تعمقت بشكل أكبر نتيجة الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي ترتبت إثر الأوضاع ما بعد الانتفاضات العربية، لأن المسارات الاقتصادية لم تتغير كما أن الثورة قد أفرزت ضغوطات اقتصادية واجتماعية جديدة.
في تونس بعد 2011 كان الخطاب يُركز على الشباب ومشاكلهم، ولكن هناك وعي من الشباب أن التغير الاقتصادي سيتأخر، وهو ما أدى إلى حدوث موجة كبيرة بين 2011 و2012 فقد وصل أكثر من 35000 تونسي إلى السواحل الإيطالية. وزارة الخارجية تعترف برقم 22000 لكن تقديراتنا أن العدد أكبر بكثير، فالأرقام الرسمية تستند على المُهاجرين الواصلين للسواحل الإيطالية المارين عبر السلطات الرسمية الإيطالية أو الأممية، ولكننا نعرف أن عديد من التونسيين ينجحون في الوصول إلى إيطاليا دون المرور عبر هذه البوابات الرسمية.
قمنا بإنجاز دراسة سنة 2016 حول رغبة الشباب التونسيين في الهجرة وقد كانت قبل الثورة 35% أما أثناء الثورة، أي في ما بين 2011 و2012، انخفضت إلى 31%، ربما لأنها كانت فترة انفتاح والخطاب الأساسي ارتكز على الاستجابة لمطالب الشباب، وكانت الفترة تتميز بحالة حرية عامة تشمل حُرية التنظم وحُرية التعبير وحُرية تكوين الجمعيات، مما فتح نوعًا ما من الآفاق ولكن في المقابل هناك جزء آخر من الشباب كان يرى أن هذا الانتقال سيتأخر.
ما أهم مواصفات الفئات الاجتماعية التي تلجأ إلى الهجرة غير النظامية؟
ملامح المُهاجر غير النظامي تطورت شيئًا فشيئًا، فقد أصبحنا اليوم نرى من بين المُهاجرين غير النظاميين المُعطلين عن العمل من أصحاب الشهادات العُليا أو من هو في وضعية شُغلية هشَّة، كما أصبح هناك العنصر النسائي موجودًا ليس بنسب كبيرة ولكنه لم يكن متواجدًا قبل الثورة، وتبلغ النسبة الآن بين 3 و5%، كما من الممكن وجود عائلات فأصبحت بالتالي الهجرة غير النظامية مشروعًا عائليًا.
هناك فئة اجتماعية حافظت على وجودها وهي فئة المُعطلين والمُهمشين وهناك فئة جديدة هي التي لديها حظ من التعليم وفي بعض الوضعيات نجد العائلة وكذلك بعض الذين يشتغلون ولكن شُغلهم لا يُحقق لهم طموحاتهم باعتباره شُغلًا هشًا.
هذا ما يُمثِّل تغيرًا في ملامح المُهاجر غير النظامي
هذه الاحتجاجات الاجتماعية لها علاقة غير مُباشرة بالهجرة غير النظامية، التغير الذي حدث في العوامل الدافعة للهجرة بعد الثورة فقد كان هناك مطالب اجتماعية مُلحَّة جدًا، وهذا ما أدى إلى تفاقم الاحتجاجات في تونس، فبالأرقام مرت تونس من سنة 2014 وبلغ عدد الاحتجاجات حسب أرقام المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية 4900 إلى 10000 احتجاج اجتماعي سنة 2017، ولهذه الاحتجاجات علاقة غير مُباشرة بمسألة الهجرة غير النظامية، باعتبار عدم تعامل السُلطة مُتمثلة في الحكومات المُتعاقبة بعد الثورة لم تستجب بطريقة إيجابية لطلبات المُحتجين ولم تجد أي قناة للحوار والتواصل معهم رغم أن الحق في الشغل لم يكن المطلب الوحيد بل كانت هناك مُطالبة ببقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مثل الحق في الصحة والحق في التعليم والحق في التنمية المحلية والجهوية والحق في الماء، فقد تراجع دور الدولة في عدة جهات وهو ما أدى إلى وجود عوامل دافعة أكبر.
تعاملت الدولة مع الاحتجاجات الاجتماعية تعاملًا أمنيًا، فقد تعرَّض المُحتجون إلى القمع وإلى الملاحقات القضائية والإحالة إلى المحاكم، خاصة في الجهات الداخلية، وهو ما دفع بالشباب إلى الهجرة غير النظامية.
هناك ظاهرة أخرى عرفت ارتفاعًا بعد الثورة هي ظاهرة الانقطاع المدرسي، وهي ظاهرة كان مسكوت عنها، بعد صدور الأرقام الرسمية من الدولة آخر سنة 2013 أن هناك 100.000 مُنقطع كل سنة ولم يتم طرح ما هو مصير هؤلاء.
قام المنتدى التونسي بدراسة حول ظاهرة الانقطاع المدرسي سنة 2014، وحسب هذه الدراسة فهناك أكثر من نصف المُنقطعين عن الدراسة تستقطبهم شبكات الهجرة غير النظامية إضافة إلى شبكات التجارة الموازية والتهريب وحتى المجموعات الراديكالية.
كل سنة هناك 100.000 مُنقطع عن العمل تستقطب منهم منظومة التكوين المهني حوالي 27.000 وهي طاقة استيعابها، وهناك 70.000 يُلقى بهم إلى مثل هذه الظواهر، من العوامل المهمة أيضًا المناخ السياسي العام وحالة الإحباط الموجودة في البلاد فأصبح الخطاب السياسي يختزل الانتقال الديمقراطي في الانتخابات فقط بالرغم من أهميتها ولكنه همَّش الجانب الاقتصادي والاجتماعي، بل لقد انخرطنا منذ نهاية 2015 في مسار تماشى مع صندوق النقد الدولي، وأُجبرت الحكومة على القيام بعدة إجراءات وتدابير، خاصة تجميد الانتداب في الوظيفة العمومية وغيرها من الإجراءات التي ساهمت في مزيد من الاحتقان في الوضع العام، وخاصة وضع الشباب، كما أن هناك فقدان للثقة بين الشباب من جهة والعمل المدني والسياسي من جهة ثانية، وقد قُمنا بدراسة وتبين من خلالها أن بين 2 و3% من الشباب لهم نشاط مدني أو سياسي وحتى من يمارسون نشاطات مدنية وسياسية هُم مهمشون إذ يقومون فقط بالأدوار اللوجيستية والتعبوية، وبالتالي كأنها عملية إقصاء مُمنهجة للشباب من الحياة المدنية والسياسية.
من العوامل أيضًا تراجع دور الدولة في القيام بالخدمات الاجتماعية إذ هناك إشكاليات في القطاعات الأساسية في تونس في الصحة وفي التعليم وفي النقل، أي في كل ما له علاقة بحياة التونسيين، بالإضافة إلى الهاجس الأمني المرتبط بالعُنف والجريمة في الأحياء الشعبية خاصة وليس فقط المُتعلق بالإرهاب، إضافة إلى عدم تغير صورة الدولة فمازالت تُمثل الجهاز القمعي والعلاقة مازالت صدامية بين الشباب والأمن المُتمثِّل في مراكز الشرطة ومراكز الأمن في هذه المناطق، فالصورة الزجرية للدولة مازالت موجودة.
الفوارق الاجتماعية والاقتصادية التي قامت على أساسها الثورة بين جزء محظوظ وجزء من خريطة تونس غير محظوظ، ولهذه الفوارق تعبيراتها حتى داخل المناطق التي نعتبرها محظوظة باعتبار أن الأحياء الشعبية وأحزمة الفقر المُحيطة بالمدن الكبرى والمدن الساحلية تشتكي من نفس التهميش ونفس الفوارق التي تشتكي منها المناطق الداخلية.
لم تُغيِّر السياسات الاقتصادية والاجتماعية شيئًا منذ 8 سنوات، والنسب الرسمية المُتعلقة بنسب الفقر والبطالة ومُؤشر التنمية الجهوية يُبين أن الخدمات العمومية تراجعت. وبالتالي فإن من يشتغل شغلًا هشًا يعتبر نفسُه في وضعية عدم أمان واستقرار ويُصبح عمله الهش مصدرًا لتمويل الهجرة غير النظامية فقط لتغيير واقعه، وهذا ما نراه أيضًا فيما يخص الهجرة المنظمة إذ نرى آلاف الأطباء والمحامين وجامعيين ومهندسين يختاروا الهجرة رغم إمكانية العيش بالراتب المتوفر لهم، لكن الأمر أصبح ليس فقط متعلقًا بالأمور المادية والاقتصادية بل إن هناك أمورًا متعلقة بانعدام الأمان وانعدام الثقة في المستقبل.
هل ساهم التضييق في السياسات المُتعلقة بالمُهاجرين في أوروبا في تنامي ظاهرة الهجرة غير النظامية؟
بعد صعود الخطابات المعادية للمُهاجرين، وصعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أيضًا في الولايات المتحدة، أصبحت السياسات اليمينية المُعادية للمُهاجرين أكثر جرأة، ومرت إلى مراحلها القصوى التي تمثَّلت في التعامل مع أزمة المُهاجرين في اليونان وتركيا خاصة فيما يتعلق بالمُهاجرين السوريين، أما في البحر الأبيض المتوسط فتمثلت هذه السياسات خاصة في التضييقات التي تمت على سُفن الإنقاذ الإنسانية والتي كانت تلعب دورًا مهمًا في إنقاذ المُهاجرين ومساعدتهم إنسانيًا وكذلك تغيير صورة البحر الأبيض المتوسط كأكبر مقبرة في العالم.
بدأ التضييق على عمل المُنظمات التي تعمل في البحر الأبيض المتوسط لسحب عملها، ووصل الأمر إلى تجريم النشطاء الذين يقومون بهذه الأعمال، وهناك مُلاحقات ضد العديد منهم خاصة في إيطاليا، وكانت النتيجة أن هذه المنظمات انسحبت مُرغمة من عملها الإنساني.
تزامنت هذه السياسات بسياسات أخرى من الجانب الليبي، فقد قامت الحكومات الأوروبية بجملة من الاتفاقات مع الميليشيات الليبية لغلق طريق الهجرة عبر ليبيا، فهذه الميليشيات كانت تعتبر الهجرة غير النظامية مصدر تمويل لها، فجاءها طرف آخر ربما أعطاها تمويلًا أكبر مع اتفاقات أخرى غير مُعلنة، فتم التضييق على الهجرة عن طريق البحر، وقد زاد الخطر بعد انسحاب المنظمات الإنسانية خمس مرات حسب منظمة الهجرة الدولية.
الخيار الأوروبي واضح وهو لم يتغير، ويتمثَّل في غلق الحدود بل أصبحت الحدود الأوروبية تنطلق من السواحل التونسية والسواحل الليبية.
لم يُفلح الاتحاد الأوروبي في فرض منصات الإنزال في شمال إفريقيا، ولكنه حاول الالتفاف على هذه الفكرة، فتم إنشاء مراكز إيواء واستقبال في ليبيا والعمل على إجبار تونس على التعاون في مراقبة الحدود، فتم أخيرًا إهداءها سيارات رُباعية الدفع من طرف إيطاليا لمراقبة الحدود، وصدَّر كل الإشكاليات لتتحملها دول العبور أو دول المصدر.
كما يُطالب الاتحاد الأوروبي تونس بالتعاون فيما يخُص مسألة ترحيل المُهاجرين، ففي سنة 2017 هناك 2000 تونسي تم ترحيلهم من إيطاليا وإرجاعهم قسريًا إلى تونس دون ضمان الحد الأدنى من حقوقهم، وهؤلاء من الممكن أن يكونوا فريسة سهلة لأي مجموعة دون أي رعاية اجتماعية أو نفسية أو اقتصادية.
ما الإجراءات المُمكنة التي تُنظِّم ظاهرة الهجرة التي تُعتبر ظاهرة إنسانية؟
إن الهجرة لن تتوقف، وهي مُرتبطة بحق من حقوق الإنسان، وهو حق التنقل، ولكن لا يُمكن اختزال الهجرة غير النظامية في أنها أزمة إنسانية، بل هي أزمة سياسية، فهي أزمة سياسات دولية وأزمة سياسات وطنية متواطئة معها، وبالتالي يجب أن تكون المقاربة شاملة لمُعالجة الهجرة غير النظامية.
فرغم أهمية المُقاربة الإنسانية والحقوقية فهي غير كافية لمُعالجة الهجرة غير النظامية ويجب أن تتزامن مع مُقاربة سياسية وتنموية.
مقدمة
تُعتبر الهجرة غير النظامية واحدة من أهم الظواهر الخطيرة التي تعاني منها البلدان المتقدمة والنامية على حدٍ سواء، نظرًا لارتباطها بالعديد من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فسوء الأحوال السياسية والاقتصادية يدفع الأفراد للهجرة من الدول النامية إلى تلك المتقدمة.
فتجد دول عديدة في هذه الهجرات تهديدًا لمصالحها الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية، والأمنية.
ودول جنوب المتوسط بحكم قربها الجغرافي من أوروبا، مستهدفة من طرف شبكات الهجرة السرية سواء عن طريق هجرة مواطني دول جنوب الصحراء، أو تهجير مواطنين إلى دول أخرى، وأضحت تلك الدول ممرًا ومقصدًا للعديد من المُهاجرين غير النظاميين.
وعرفت ليبيا كغيرها من دول جنوب البحر الأبيض المتوسط خلال العقدين الأخيرين ومازالت تناميًا غير مسبوق لظاهرة الهجرة غير النظامية، وبلغ عدد المُهاجرين الذين وصلوا إلى إيطاليا عبر الشواطئ الليبية خلال الفترة من 1 يناير 2016 إلى 22 أكتوبر 2016 (168.542) مُهاجرًا وعرف أن هناك (4.164) شخصًا لقوا حتفهم في عرض البحر.. وقد سمحت حدود ليبيا المترامية الأطراف وهشاشة السلطة بأن جعلت منها بلد عبور ومقصد في آن واحد، الأمر الذي بات يهدد الاستقرار والسلم الاجتماعي على المستويين الوطني والإقليمي. وللمواجهة اتخذ المُشرع الليبي جملة من الإجراءات والتدابير القانونية من خلال تجريمها، وإنزال العقوبات بمرتكبيها، ويأتي في مقدمتها القانون رقم (6) لسنة 1987 بشأن تنظيم دخول وإقامة الأجانب في ليبيا وخروجهم منها، وأخيرًا القانون رقم (19) لسنة 2010 بشأن مكافحة الهجرة غير المشروعة.
د. امهيدي محمد امهيدي
الرئيس بمحكمة أجدابيا الابتدائية
وتتمحور إشكالية هذه الورقة في الكيفية التي عالج بها المُشرع الليبي ظاهرة الهجرة غير النظامية، وما هي الوسائل والتدابير التي تبناها للحد منها ومحاصرتها وتوقيع العقاب على مرتكبيها؟ وما هي حدود الأنظمة القضائية لمكافحة هذه الظاهرة؟
سنحاول الإجابة عن هذه الإشكالية من خلال ثلاث فقرات، سأبحث في الأولى الآليات التشريعية لمكافحة الهجرة غير النظامية، وفي الثانية الآليات التنفيذية لمكافحة الهجرة غير النظامية، بينما أبحث في الثالثة حدود الأنظمة القضائية لمكافحة هذه الظاهرة.
الفقرة الأولى
الآليات التشريعية لمكافحة الهجرة غير النظامية
نظرًا لأن قانون العقوبات لا يحتوي أحكامًا تعالج ظاهرة الهجرة غير النظامية، وإزاء تنامي هذه الظاهرة، كان لابد للمُشرع من أن يتدخل لسد النقائص في هذا المجال لأجل مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، فأصدر بذلك القانون رقم (6) لسنة 1987 بشأن تنظيم دخول وإقامة الأجانب في ليبيا وخروجهم منها والذي حل محل القانون رقم (17) لسنة 1962 بشأن دخول وإقامة الأجانب في ليبيا وخروجهم منها (أولاً)، ومن بعده القانون رقم (19) لسنة 2010 بشأن مكافحة الهجرة غير المشروعة (ثانيًا).
أولًا: القانون رقم (6) لسنة 1987 بشأن تنظيم دخول وإقامة الأجانب في ليبيا وخروجهم منها:
حدد هذا القانون شروط دخول الأجانب إلى ليبيا وإقامتهم بها وتنقلهم فيها، من حيث ضبط إجراءات دخولهم وإقامتهم وتنقلاتهم إذا كان حاصل على جواز، أو وثيقة سفر وتأشير صحيحة بالدخول، أو المرور، أو الإقامة.
ويُجرِّم القانون المُشار إليه الدخول إلى ليبيا والبقاء فيها بشكل غير نظامي، بيد أن هذا القانون لا يُميز بين المُهاجرين، أو اللاجئين، أو طالبي اللجوء، أو ضحايا الاتجار بالبشر، أو المُهاجرين ممن هُم عُرضة للضرر أو المُهاجرين الأطفال، أو غيرهم من المُهاجرين ممن هم بحاجة إلى حماية دولية لحقوق الإنسان.
وتم تعديل القانون رقم ((6 لسنة 1987 بالقانون رقم 2)) لسنة 2004 لتقيَّد شروط منح تأشيرات الدخول، واشترط التعديل على جميع الأشخاص من غير المواطنين باستثناء بعض الدول العربية الحصول على تأشيرة سارية لدخول البلاد، كما شدد هذا التعديل بعض العقوبات، ونص صراحة لأول مرة على مصطلح تهريب المُهاجرين، وعاقب على جريمة تهريب المُهاجرين بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن ألف دينار. كما يُنظم القانون رقم ((6 أيضًا ترحيل غير المواطنين إلى بلدانهم.
وقد جرَّم القانون دخول الأراضي الليبية والخروج منها من غير الأماكن المخصصة لها ، أو دون التأشير على جواز، أو وثيقة السفر، وقرر لها الحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر وبغرامة لا تزيد على مائة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين.
ثانيًا: القانون رقم (19) لسنة 2010 بشأن مكافحة الهجرة غير المشروعة :
بدايةً تجدر الإشارة إلى أن القانون رقم (6) لسنة 1987 بشأن تنظيم دخول وإقامة الأجانب في ليبيا وخروجهم منها يُعتبر مكملًا للقانون رقم (19) لسنة 2010 بشأن مكافحة الهجرة غير المشروعة في حالة عدم وجود تعارض بينهما.
وقد أصدر المُشرِّع الليبي القانون رقم (19) لسنة 2010 بشأن مكافحة الهجرة غير المشروعة بقصد تجريم ومكافحة الهجرة غير النظامية، كأول عمل تشريعي مُستقل يعنى بالتصدي لهذه الظاهرة الخطيرة.
وأورد المُشرع عدة نصوص لتجريم الهجرة غير النظامية والأفعال المتصلة بها وكذا العقوبات المقررة في حالات ارتكاب هذه الجرائم، وذلك على النحو الآتي:
1 – جريمة الدخول إلى الأراضي الليبية، أو الإقامة بها دون إذن، أو تصريح من الجهات المختصة بقصد الاستقرار فيها، أو العبور إلى دولة أخرى: حيث أسبغت المادة الأولى من هذا القانون صفة المُهاجر غير الشرعي على كل من دخل إلى أراضي ليبيا، أو أقام بها دون إذن، أو تصريح من الجهات المختصة بقصد الاستقرار بها، أو العبور إلى دولة أخرى. وعقوبة تلك الجريمة الحبس مع الشغل، أو بغرامة لا تزيد عن ألف دينار (م1و6).
2 – جريمة إدخال المُهاجرين غير الشرعيين إلى البلاد، أو إخراجهم منها، أو نقلهم أو تسهيل نقلهم، أو إيوائهم، أو إخفائهم، أو إخفاء أي معلومات عنهم، أو إعداد وثائق سفر مزورة، أو توفيرها، أو حيازتها لهم: وقد حاول المُشرِّع اللِّيبي أن يُشدد العقوبات الخاصة عن تلك الأفعال بالحبس مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف دينار ولا تزيد على عشرة آلاف دينار (م4/1).
3 – جريمة الانتماء إلى عصابة منظمة لتهريب المُهاجرين: وعقوبتها مشددة بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات وغرامة لا تقل عن خمسة عشر ألف دينار ولا تزيد على ثلاثين ألف دينار.
4 – جريمة تشغيل المُهاجرين غير الشرعيين: عاقبت المادة (3) من القانون كل من شغل مُهاجرًا غير شرعي بغرامة لا تقل عن ألف دينار ولا تزيد على ثلاثة آلاف دينار. وتضاعف العقوبة إذا كان الجاني ممن عهد إليه بالعمل في حراسة المنافذ، أو نقاط العبور، أو المواتي، أو الحدود، أو مراقبتها (م 4/2). وتكون العقوبة السجن وغرامة لا تقل عن عشرين ألف دينار ولا تزيد على خمسين ألف دينار، إذا نتج عن نقل المُهاجرين غير الشرعيين إلى الداخل، أو الخارج عاهة مستديمة، وتكون العقوبة السجن المؤبد إذا ترتب على الفعل الوفاة (م 5).
5 – جريمة عدم إبلاغ عن جرائم الهجرة غير الشرعيَّة: يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة وغرامة لا تقل عن ألف دينار ولا تزيد على خمسة آلاف دينار كل من يمتنع عمدًا عن اتخاذ إجراء مما يجب عليه قانونًا في الجرائم المنصوص عليها في قانون مكافحة الهجرة غير المشروعة فور إبلاغه عنها، أو إطلاعه عليها بحكم وظيفته، فإذا وقع الفعل نتيجة الإهمال كانت العقوبة الغرامة التي لا تقل عن خمسمائة دينار ولا تزيد على خمسة آلاف دينار (م 7).
6 – وجوب المصادرة: تحكم المحكمة بمصادرة المبالغ المحصلة من الجريمة، كما يحكم بمصادرة الأشياء ووسائل النقل أو الأشياء، أو الأدوات المستعملة، أو المعدة للاستعمال في ارتكاب جرائم الهجرة غير المشروعة، إلا إذا ثبت ملكيتها للغير حسن النية (م 10).
7 – إعفاء من العقاب: أعفى القانون كل من بادر بإبلاغ الجهات المختصة بمعلومات مكنت من اكتشاف الجريمة قبل تنفيذها، أو أدت إلى الحد من آثارها، أو اكتشاف مرتكبيها، أو القبض عليهم (م 8).
8 – الإبعاد: طبقاً للمادة (6) من القانون يجب إبعاد الأجنبي المحكوم عليه في إحدى الجرائم المنصوص عليها في قانون مكافحة الهجرة غير المشروعة من أراضي ليبيا بمجرد تنفيذه للعقوبة المحكوم بها. وإن كان المُشرِّع الليبي قد أغفل وضعية بعض الحالات الخاصة للمُهاجرين غير الشرعيين الذين يثبتون أنهم لا يستطيعون العودة إلى ديارهم خشية على حياتهم. كما أن المُشرِّع الليبي في قانون مكافحة الهجرة غير المشروعة لم يكفل للمُهاجر المبعد حق الطعن في قرار الإبعاد، بخلاف ما ذهب إليه المشرع الجزائري الذي أجاز الطعن في قرار وزير الداخلية المتضمن الإبعاد خارج الإقليم الجزائري، وذلك عن طريق دعوى يرفعها أمام القضاء الاستعجالي الإداري في أجل أقصاه (5) أيام تسري من تاريخ تبليغه بهذا القرار، وفي هذه الحالة، ونظرًا لحساسية الإجراء وخطورته، فإنه ينبغي على القاضي الاستعجالي أن يفصل في الدعوى في أجل أقصاه (20) يومًا ابتداء من تاريخ تسجيل الدعوى لدى كتابة ضبط المحكمة الإدارية .
9 – الضمانات القانونية للمُهاجر غير الشرعي: ينص القانون على معاملة المُهاجرين معاملة إنسانية تحفظ كرامتهم وحقوقهم وعدم الاعتداء على أموالهم ومنقولاتهم وذلك عند القبض عليهم (م 10)، ولكن على الرغم من هذا، فإن تقارير المنظمات الحقوقية تشير إلى وجود العديد من الانتهاكات لحقوق المُهاجرين بمراكز الاعتقال في ليبيا، كالاحتجاز التعسفي وظروف الاحتجاز اللاإنسانية، والتعذيب، والعمل الجبري، والعنف الجنسي، وسوء المعاملة .
وتجدر الإشارة إلى أن ليبيا قد صادقت على جملة من الاتفاقيات والبروتوكولات المكملة لها في مجال مكافحة الجريمة المنظمة وتهريب المُهاجرين، وهي على النحو التالي:
(أ) اتفاقية الأمم المتحدة لقمع الجريمة المنظمة عبر الوطنية نيويورك 15/11/2000: اعتمدت بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (25) في الدورة (55) في 15 نوفمبر 2000، وقد وقعت عليها ليبيا في 13/11/2001، وصدقت عليها في 18/6/2004.
(ب) بروتوكول مكافحة تهريب المُهاجرين عن طريق البحر والبر والجو المكملة لاتفاقية الأمم لقمع الجريمة المنظمة عبر الوطنية – نيويورك 15/11/2000: اعتمدت بموجب قرار الجمعية العامة رقم (25)، الدورة (55). وقد وقعت عليها ليبيا في 13/11/2001 ، وتم التصديق عليها في 24/9/2004.
(ج) الاتجار بالبشر: بروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص وبخاصة النساء والأطفال المكملة لاتفاقية الأمم المتحدة لمنع الجريمة المنظمة عبر الوطنية، نيويورك 15/11/2000: اعتمدت بموجب قرار الجمعية العامة رقم (25)، الدورة (55). وقعت عليها ليبيا في 13/11/2001، وصادقت عليها في 24/9/2004.
طبقًا للمادة 5 من بروتوكول مكافحة تهريب المُهاجرين عن طريق البر والبحر والجو المكمل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية لا يصبح المُهاجرون عرضة للملاحقة الجنائية، نظرًا لكونهم هدفًا للسلوك المُبين في المادة 6 من هذا البروتوكول, في حين نجد المُشرع الليبي قد أقر بالمسؤولية الجنائية للمُهاجر غير الشرعي
مسؤولية المُهاجرين الجنائية:
طبقًا للمادة (5) من بروتوكول مكافحة تهريب المُهاجرين عن طريق البر والبحر والجو المكمل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية لا يصبح المُهاجرون عرضة للملاحقة الجنائية، نظرًا لكونهم هدفًا للسلوك المُبين في المادة (6) من هذا البروتوكول.
في حين نجد المُشرع الليبي قد أقر بالمسؤولية الجنائية للمُهاجر غير الشرعي وأفردت له المادة (6) من قانون مكافحة الهجرة غير المشروعة عقوبة الحبس، أو الغرامة التي لا تزيد على ألف دينار والإبعاد عن التراب الليبي. الأمر الذي حمل البعض على المناداة بلزوم تعديل القانون المذكور بما يتناغم والمادة (5) من بروتوكول مكافحة تهريب المُهاجرين سالفة الذكر.
وإن كانت المحكمة العليا قد أكدت بمناسبة حكمها في الطعن الدستوري رقم 1/57 ق بجلستها المنعقدة بتاريخ 23/12/2013 أنه من المقرر أن الاتفاقيات الدولية التي ترتبط بها الدولة الليبية تكون نافذة مباشرة بمجرد إتمام إجراءات المصادقة عليها من السلطة التشريعية في الدولة، وتكون لها أسبقية التطبيق على التشريعات الداخلية، بحيث إذا حدث تعارض بين أحكامها وأحكام التشريعات الداخلية، فإن أحكام الاتفاقية هي الأولى بالتطبيق، ودون حاجة إلى تعديل أي تشريعات داخلية قد تكون متعارضة معها.
يبدو أن العديد من دوائر الجنح والمخالفات بالمحاكم الجزئية لم تعمد إلى تطبيق المبدأ المذكور في أحكامها بإهمال النصوص التي تُجرم وتُعاقب المُهاجر غير النظامي في القانون رقم (19) لسنة 2010 سالف الذكر، التي تتعارض مع حكم المادة (5) من بروتوكول مكافحة تهريب المُهاجرين المكمل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية التي تعفي المُهاجرون من الملاحقة القضائية باعتبارهم ضحية وليسوا مجرمين.
الفقرة الثانية
الآليات التنظيمية لمكافحة الهجرة غير النظامية
تتولى وزارة الداخلية (أمانة اللجنة الشعبية للأمن العام سابقًا) حسبما هو وارد في القانون رقم (19) لسنة 2010 مهام ضبط جرائم الهجرة غير النظامية وضبط الأموال المحصلة من الجريمة ووسائل النقل المستخدمة في التهريب وإحالة المقبوض عليهم إلى الجهات القضائية، ومراقبة المنافذ والحدود من خلال عدة أجهزة ومصالح وإدارات مركزية يأتي على رأسها جهاز مكافحة الهجرة ومصلحة الجوازات والجنسية التي نستعرض مهامهما وفق الآتي:-
أولًا: جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعيَّة:
تم إنشاء جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعيَّة بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 386 بتاريخ 4 يونيو 2014 مقره الرئيسي في طرابلس وله عدة فروع في باقي أقاليم الدولة، وهو يتبع وزارة الداخلية، إلا أنه يتمتع بالشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة، ومنح عدة اختصاصات تنفيذية .
ثانيًا: مصلحة الجوازات والجنسية:
ارتبط إنشاء مصلحة الجوازات والجنسية بدولة الاستقلال سنة 1951، ومرت بمراحل تطور عديدة آخرها سنة 2008 عندما تحولت الإدارة العامة للجوازات إلى مصلحة الجوازات والجنسية بموجب قرار مجلس الوزراء رقم (314) لسنة 2008 ومقرها الرئيسي في طرابلس، وهي تتمتع بالشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة، ولها فروع في كافة المدن الليبية وتضطلع المصلحة بالمهام الآتية:
1 – إصدار ومنح جوازات السفر والبطاقات الوطنية وتنظيم الحصول عليها.
2 – ضبط حركة الدخول والخروج إلى ليبيا عبر المنافذ المعتمدة.
3 – إصدار الموافقات بمنح تأشيرات الدخول والمرور للأجانب عن طريق القنصليات.
وتتبع المصلحة عدة إدارات لها علاقة مباشرة بمكافحة الهجرة غير النظامية وعلى رأسها إدارة مباحث الجوازات، وتتولى أعمال البحث والتحري وضبط المخالفين للقوانين المنظمة للدخول والخروج والإقامة في الأراضي الليبية. وكذلك إدارة المنافذ التي تتولى مراقبة الجوازات داخل المنافذ الرسمية الحدودية والبحرية والمطارات، بالإضافة إلى مكتب شؤون الأجانب وفروع مصلحة الجوازات المنتشرة في مختلف المدن الليبية.
بالإضافة إلى ذلك توجد إطارات أخرى تهتم بشؤون الهجرة منها وزارة العمل والتأهيل والتي تتولى الإشراف على عملية حصر العمالة الوافدة في مختلف المؤسسات في القطاعين العام والخاص، كما أن وزارة الصحة تتولى منح الشهادات الصحية التي هي شرط أساسي للحصول على الإقامة، أو العمل في القطاعين العام والخاص .
الفقرة الثالثة
حدود النظام القضائي اللِّيبي في مُكافحة الهجرة غير النظامية
بداية نود الإشارة إلى أنه إدراكًا من المُشرع اللِّيبي بمدى أهمية ودقة وخطورة جرائم الهجرة غير النظامية بالنظر للآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية المترتبة عليها، تم استحداث محاكم ونيابات جزئية لمكافحة الهجرة غير الشرعيَّة، وقد وقع ضبطها بموجب قرار المجلس الأعلى للهيئات القضائية رقم (10) لسنة 2006 بإنشاء محاكم ونيابات لمكافحة الهجرة غير الشرعيَّة، وقد نص هذا القرار في مادته الأولى على أن تنشأ بدائرة اختصاص كل محكمة ابتدائية محكمة جزئية لمكافحة الهجرة غير الشرعيَّة تختص بالنظر في الدعاوى الجنائية المُتعلقة بالجرائم المنصوص عليها في القانون رقم (6) لسنة 1987 بشأن تنظيم دخول وإقامة الأجانب في ليبيا وخروجهم منها، في حين نصت المادة الثانية من ذات القرار على إنشاء نيابة جزئية لمكافحة الهجرة غير الشرعيَّة بدائرة اختصاص كل نيابة كلية تختص بالتحقيق ورفع الدعاوى الجنائية ومباشرتها في الجرائم بالمخالفة لأحكام القانون رقم (6) لسنة 1987 المُشار إليه.
كما أصدر المجلس الأعلى للهيئات القضائية القرار رقم (62) لسنة 2010 بإنشاء محكمة ونيابتين جزئيتين متخصصتين. وقد نصت المادة الثالثة من هذا القرار على «تنشأ بدائرة محكمة شمال طرابلس الابتدائية محكمة جزئية تسمى (محكمة مكافحة الهجرة غير الشرعيَّة) تختص بالنظر والفصل في الدعاوى المرفوعة عن الجنح المنصوص عليها في القانون رقم (19) لسنة 2010 مُكافحة الهجرة غير الشرعيَّة وتتحدد دائرة اختصاصها بنطاق محاكم السواني وشمال وجنوب وشرق طرابلس الابتدائية»، في حين نصت المادة الرابعة من ذات القرار على إنشاء نيابة جزئية لمكافحة الهجرة غير الشرعيَّة بدائرة اختصاص محكمة مكافحة الهجرة غير الشرعيَّة المُشار إليها تختص بالتحقيق ورفع ومباشرة الدعوى في الجرائم المنصوص عليها في القانون رقم (19) لسنة 2010 المُشار إليه.
إلا أن تلك المحاكم المتخصصة لم تُفعَّل على أرض الواقع ولا ندري ما الأسباب الكامنة وراء عدم تفعيلها. ولكن تدق الصعوبة في مسألة الاختصاص القضائي بنظر جرائم الهجرة غير النظامية. فعملًا بمبدأ إقليمية القانون تمارس كل دولة سيادتها على إقليمها بتطبيق قوانينها داخل حدودها، بصرف النظر عن جنسية مرتكب الجريمة وذلك تطبيقًا للمادة (4) من قانون العقوبات الليبي التي تنص على أن “تسري أحكام هذا القانون على كل ليبي، أو أجنبي يرتكب في الأراضي الليبية جريمة من الجرائم المنصوص عليها فيه”. ويعني هذا المبدأ أن قانون العقوبات يُطبق على أي جريمة تقع داخل الإقليم الوطني بغض النظر عن جنسية مرتكبيه، أو المجني عليه، وينعقد الاختصاص القضائي وفقًا له بتحقق أحد العناصر المكونة للجريمة سلوكًا، أو نتيجة ولو كان الفعل غير معاقب عليه في البلد الأصلي، ومن ثم يجب تطبيق قانون العقوبات الوطني، وهو ما يفهم من نص المادة (5) من قانون العقوبات الليبي التي تنص على جريان أحكام قانون العقوبات على كل من ارتكب خارج البلاد فعلاً يجعله فاعلًا لجريمة وقعت كلها، أو بعضها في ليبيا أو شريكًا فيها.
غير أن هذا المبدأ يفقد صلاحيته للتطبيق بالنسبة لجرائم الهجرة غير النظامية باعتبارها عابرة للحدود، الأمر الذي يحتمل معه تنازع القوانين حيال الواقعة الواحدة، والذي يستتبع بالضرورة تنازعًا لاختصاص.
إن تحديد القانون الواجب التطبيق في جرائم الهجرة غير النظامية العابرة للحدود يقتضي تطبيق مبدأ عالمية النص الجنائي على جرائم الهجرة غير النظامية بحيث يسري النص الجنائي على كل جريمة يُقبض على مُرتكبها في إقليم الدولة أيا كان مكان ارتكابها وجنسية الفاعل، أو الجاني فالدولة التي تضبط المجرم عليها بمعاقبته ومحاسبته بحسب قانونها الوطني.
لكن الأخذ بمبدأ عالمية النص الجنائي على إطلاقه، بتطبيق قانون العقوبات على كل مجرم يقبض عليه في إقليم الدولة، أيًا كانت الدولة التي ارتكب فيها الفعل الإجرامي وأيًا كانت جنسية الجاني، قد يؤدي إلى تعارض بين قوانين الدول، إذ يجعل لكل دولة اختصاص بالنظر في أي قضية هي بالأصل من اختصاص قانون آخر، ويتعارض مع مبادئ قانون العقوبات نفسه الذي هو بالأصل قانون إقليمي، كل هذا يجعل تطبيق المبدأ أمرًا صعبًا من الناحية العملية، لذا فمن الأجدى تقييد المبدأ لينطبق على بعض الأنواع من الجرائم، منها جرائم الهجرة غير النظامية العابر للحدود، لتتضافر الجهود في مكافحة هذا النوع من الإجرام تشريعيًا وقضائيًا وتنفيذيًا.
التوصيات
1 – تعزيز التعاون الدولي والإقليمي في مجال مكافحة الهجرة غير النظامية، وحث البلدان كافة إلى الانضمام للاتفاقيات الدولية ذات العلاقة.
2 – ضرورة وجود تنسيق وتعاون أمنيين بين ليبيا ودول الجوار في مجال مُكافحة الهجرة غير النظامية.
3 – تعديل التشريعات الوطنية بما يتلاءم والاتفاقيات الدولية المعنية، وتغليظ العقاب فيما يتعلق بجريمة تهريب المُهاجرين بالنظر لخطورة الآثار المترتبة على تلك الجريمة.
4 – تفعيل محاكم ونيابات الهجرة غير الشرعيَّة، والرفع من كفاءة رجال الضبطية القضائية وأعضاء النيابة العامة والقضاة المعنيين بتطبيق قانون مكافحة الهجرة غير الشرعيَّة كل في مجال اختصاصه.
5 – تفعيل الاتفاقات الإقليمية والثنائية بين ليبيا ودول الجوار في مجال مكافحة الجريمة المُنظمة وعلى رأسها الاتفاقات المُبرمة مع إيطاليا ودول المغرب العربي، خصوصًا فيما يتعلق بتبادل الخبرات والمعلومات ومراقبة الحدود المشتركة.
6 – للتخفيف من حدة إشكالية الاختصاص، وبالنظر لخطورة جرائم الهجرة غير النظامية وتهريب المُهاجرين على نطاق واسع، وما ينتُج عنه من تبعات خطيرة، تبرُز الحاجة إلى استحداث محاكم دولية، أو إقليمه لمكافحة ظاهرة الهجرة غير النظامية على ضوء تجربة المحكمة الجنائية الدولية، أو إدراجها ضمن مشمولات الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
هل ترون أن ظاهرة الهجرة غير النظامية قد تفاقمت بعد التغيرات التي شهدتها المنطقة العربية؟
رغم أن الهجرة غير النظامية كانت موجودة حتى قبل التغيرات التي شهادتها المنطقة العربية وخصوصًا ليبيا ولكن الأمر مُتعلق بالنسبة وبنوع الانتهاكات التي أخذت أشكالًا وأنماطًا مُقلقة للغاية.
هل يمكن الرّبط بين الإجراءات المُتعلّقة بالهجرة في الضِفّة الأوروبيّة وتصاعد وتيرة الهجرة غير النظامية؟
رغم تغير سياسات الاتحاد الأوروبي القاسية والتي ضربت بعرض الحائط كل القيم والاتفاقيات التي صادقت عليها أوروبا ورغم ادعاء أوروبا أن عدد المُهاجرين الواصلين إلى شواطئ إيطاليا انخفض، يظل السؤال رقم الواصلين إلى إيطاليا قل ولكن كم الرقم الذي يدخل ليبيا وكم الرقم الذي يدخل البحر ويُفقد؟ هنا السؤال المهم؟
ما المواصفات الاجتماعية للفئة الأكثر انخراطًا في الهجرة غير النظامية؟
فئة القاصرين وغير المصحوبين أرقامهم كبيرة، كما أنه من المُلفت أعداد النساء التي هي في ازدياد.
هل يمكن اعتبار أن الهجرة غير النظامية تعود لأسباب اقتصادية بالأساس؟
لا يمكن الجزم بذلك لو تحدثنا على الأعداد التي تدخل ليبيا الكثير منهم طالبي حماية مثل السوريين واليمن والصومال وإريتريا، جميعهم فارين من النزاعات والخوف من الانتقام، حاليًا غالبية من هم في مراكز الاحتجاز في ليبيا هم من فئة طالبي اللجوء.
ما أهم تأثيرات ونتائج الهجرة غير النظامية؟
التأثيرات تطال دول المصدر والعبور والمقصد، ولكن التأثير الحقيقي هو بلد المصدر التي تَفرُغ من مواطنيها على دُفعات مُخيفة خصوصًا عندما يكون بينهم الأطفال غري مصحوبين والنساء وما يتعرضون له أثناء رحلاتهم، أعتقد أن العالم أصبح يتعامل ببشاعة حيال ملف الهجرة وجل التركيز على بلد العبور والمقصد، وأن المُهاجرين وطالبي اللجوء كانوا سببًا في عدم الاستقرار والفوضى في البلد المقصد.
هل تقتصر تأثيرات الهجرة غير النظامية على المُهاجرين أم تمتد إلى عائلاتهم والمُحيطين بهم؟ وما طبيعة هذه التأثيرات؟
لا يوجد أدنى شك أن كل المُحيطين بالمُهاجرين وطالبي اللجوء هم متأثرين بشكل مباشر من جميع النواحي النفسية والاجتماعية والاقتصادية، ففقد أبنائهم وذويهم وذهابهم لمصير الصحراء المجهول هو أمر مرعب، كما أن غالبية المُهاجرين وطالبي اللجوء يتعرضون للخطف والابتزاز وهو مُمنهج ويطال كذلك عائلاتهم حين يُطلب منهم دفع الأموال مقابل إطلاق سراح أبنائهم.
البعض يعتبر أن الهجرة غير النظامية خرجت من منطق الظاهرة المعزولة وتحوّلت إلى تقليد مجتمعي في تونس على سبيل المثال فهل هذا صحيح؟
كلام يُناقض الحقيقة، فكُل الهجرات لها أسبابها حتى التي يُقدِم عليها الشباب ويوصف أنه مُندفع ومُتهور ويلهث خلف سراب جنة أوروبا، هذا طرح يحاول يجد مبررات وأعذرًا على فشل تلك الحكومات، جميع الهجرات حتى ذات الدوافع الاقتصادية لم يُقدم عليها الشباب العربي إلا بعد أن استنفذوا كل سُبل العيش بل هم كانوا قابلين بالعيش تحت خط الفقر ولكنهم حُرِموا من ذلك، اجتمعت عليهم الأوضاع الاقتصادية والتضييق الأمني ناهيك على الشعور بالفارق الشاسع بينهم وبين دول تُعتبر جوار لهم على سبيل المثال دول الخليج.
نظرًا للتغيّرات التي طرأت على المنطقة بعد الثورة، هل يُمكن أن تتحول الهجرة غير النظامية إلى معبر للإرهابيين يصلهم بأوروبا؟
مُنذ القِدَم الهجرة موجودة وسوف تستمر فهي هجرة مُختلطة تجد في نفس الركب أو القافلة مُهاجرين ومعهم طالبي لجوء ومعهم مُهربين ومعهم مُجرمين «إرهابيين» ولم يثبُت أن الجماعات المتطرفة انتقلت كجمعيات عبر البحر أو حتى الصحراء بأعداد كبير حتى يُقال إنهم سوف يستغلونها كطريق إلى أوروبا، فالتطرف موجود في أوروبا من عدة أطراف وجل الأعمال التي حصلت في أوروبا كان أصحابها من مالكي الجوازات الأوروبية وهم مواليد أوروبا.
من حسب رأيكم يتحمّل المسؤوليّة أو ما ترتيب تحمل المسئوليات؟
المسؤولية يتحملها المُجتمع الدولي وصناع القرار، فالحل ليس بالمستحيل، التنمية في دول المصدر والحد من التدخل في دولهم وتغذية النزاعات سوف يكون له الأثر الكبير في الحد من الهجرة على الأقل تُصبح أكثر تنظيمًا وأمانًا على الأقل للأطفال والنساء.
هل يمكن اعتبار تفاقم ظاهرة الهجرة النظامية مؤشرًا على فشل الحكومات في استيعاب متطلبات وأحلام مواطنيها؟
لا يوجد أدنى شك.. فالحكومات وصُناع القرار هم سبب هذه الكارثة التي تقضي على عمر الشباب ومع الأسف يتزاحم الكبار والمتقاعدين على مناصبهم.
ما الإجراءات اللازمة لمُكافحة هذه الظاهرة على المستوى الحقوقي والقانوني؟
الاستمرار في مُطالبة السلطات وصُناع القرار بالالتزام بالاتفاقيات والمُعاهدات الدولية التي صادقت ووقعت عليها.
الضغط على الدول التي لم تُصادق مثل ليبيا أن تُصادق وتُفعِّل الاتفاقيات التي تُنظم وضع طالبي اللجوء.
أن يكون هناك عقد واتفاق أممي جديد يجعل من ميثاق الأمم المتحدة مرجعية في وضع ضوابط وخطة عاجلة لحل قضية طالبي اللجوء والحماية وأن تتحمل كافة الدول مسؤوليتها.
على المنظمات الدولية والمانحين من الاتحاد الأوروبي أن يُصَب دعمهم في صالح المشاريع الصغيرة والتنمية للشباب والقاصرين في إفريقيا ودول النزاعات.
لننطلق، عند الحديث عن الهجرة، من المبادئ العامة لحقوق الإنسان، وأهمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يضمن حُرية تنقل الأشخاص من بلد إلى آخر، وحُرية التنقل هذه تشمل الحق في التنقل داخل أرض البلد أو خارجه، ولا يُمكن لأي دولة أن تمنع ذلك، كما يحق، حسب اتفاقية جنيف، لكل شخص أن يطلب اللجوء في بلد إذا ما تعرض للاضطهاد في بلده، بسبب آرائه السياسية أو مُعتقداته الدينية.
التضييق الأوروبي على الهجرة:
ذلك هو المبدأ العام، لكن الواقع أن الانتخابات في جل الديمقراطيات الغربية التي كان تركيز أحزابها فيما مضى على تقديم برامج اقتصادية واجتماعية، أصبحت اليوم ترتكز، في أغلبها، على مُحاربة الهجرة وصد المُهاجرين، بل أصبح مقياس النجاح في الانتخابات، في أحيانٍ عديدة، هو مدى الحزم في مواجهة تدفقهم عبر البحر، والحد من قبول مطالب اللجوء، بناءً على أفكار مُسبقة نجح اليمين الأوروبي في ترويجها وهي أن المُهاجرين هو سبب كل أمراض المجتمع، ابتداء من البطالة إلى مظاهر العنف والتطرف.
وأمام صعوبة الحد من تدفق الهجرة غير النظامية، خاصة، بسبب المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في بلدان جنوب المتوسط وارتفاع نسب الفقر، والأزمات والحروب الأهلية التي تنشب أحيانًا في البلدان الإفريقية، فقد ركزت بلدان شمال المتوسط على الحلول الأمنية الصارمة ومُراقبة البحر بكل الوسائل الإلكترونية والبشرية المُمكنة، ووصل الأمر أخيرًا إلى منع منظمات المجتمع المدني من إسعاف المُهاجرين في البحر، مما جعل نسب الوفيات ترتفع رغم تراجع عدد المُهاجرين غير النظاميين.
مسعود الرمضاني
الناشط الحقوقي والرئيس السابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
فقد أغلقت إيطاليا موانئها أمام سفينة إنقاذ المُهاجرين “أكواريس” التي كانت تُقل حوالي ستمائة مُهاجر غير نظامي جرى إنقاذهم في البحر، مما جعل السفينة تنهي مهامها في البحر، مُرجعة الأسباب إلى المضايقات التي تتعرض إليها من دول مثل إيطاليا ومالطا وفرنسا، وصلت هذه المضايقات إلى حد منع السفينة من التسجيل في الموانئ، “فشلنا في الدفاع عن أنفسنا ضد غزو المُهاجرين” ( فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر)
أمام الأزمات الاقتصادية التي تهز أوروبا وفشل الأحزاب التقليدية في إيجاد الحلول المناسبة للقضايا الاجتماعية المُلحّة، وأمام تدفُّق المُهاجرين من دول الشرق الأوسط وإفريقيا، وسط خوف أوروبي شعبي من فقدان مواطن الشغل، في واقع هشاشة التشغيل التي تجتاح العالم، وفي واقع التقوقع داخل هويات مُنغلقة، والخوف من فقدان “الهوية الأوروبية”، تحولت الهجرة إلى قضية رئيسية يُستفتى من خلالها اليمين الأوروبي مدى إيمانه بالقيم الإنسانية التقليدية، وقد استغل اليمين الشعبوي هذا الخوف وركّز، خلال حملاته الانتخابية على “التهديدات” التي تواجه أوروبا، اجتماعيًا وثقافيًا: ففاز رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، من خلال شعاره في الذود “عن القيم المسيحية” وفازت الرابطة اليمينية الإيطالية بقيادة ماتيو سالفيني بفضل عدائها للمُهاجرين.
أمام الفوز الساحق الذي ما انفكت الأحزاب اليمينية تُحققه على خلفية الموقف الصارم إزاء المُهاجرين، بدأت الأحزاب الأخرى تُدرك أن الفوز في الانتخابات لا يُمكن أن يتحقق عبر الشعارات التقليدية حول العدالة الجبائية والتشغيل والرعاية الاجتماعية.. وأنه لا يمكن إقناع الناخب الأوروبي إلا بموقف واضح من قضية الهجرة وقبول المُهاجرين، لكن تبني الموقف اليميني المُتطرف يبدو صعب الهضم لدى الأحزاب الأوروبية التقليدية، يُضاف إلى ذلك الخشية من أن مسألة الهجرة ستتسبب في تفتت الاتحاد الأوروبي الهش، إذ يبدو أن كل بلد يُريد ترحيل الموضوع إلى البلد المجاور عوضًا عن إبداء شيء من التضامن، وهو ما دفع بوزير الداخلية الإيطالي، إنزو مافيرو ميلانزي، إلى “مُخاطبة ضمائر الحكومات الأوروبية” داعيًا دول الاتحاد الى إقامة منصات فرز “في دول المنشأ والعبور” للمُهاجرين حتى يتم التعامل مع مطالب اللجوء بأكثر سهولة، وكذلك لمحاولة “إقناع المُهاجرين بعدم المُضي قدمًا إلى أوروبا”.
إلا أن أهم ما جاء في تصريح الوزير الإيطالي هو دعوته أوروبا تغيير سياستها نحو الهجرة وطلب آلية إلزامية، تُلزم أوروبا بإعادة توزيع طالبي اللجوء. وذلك هو مربط الفرس وسبب الخلاف بين الدول الأوروبية.
تغيير تشريعات دبلن؟
تُريد إيطاليا التخلص من تشريعات دبلن التي تنص على أن مطالب اللجوء تُفحص في الدولة الأولى التي سجل بها الطالب وتُلح على ضرورة توزيع المُهاجرين على دول الاتحاد، وهو ما لم تقبله دول أوروبية أخرى من أمثال المجر والنمسا، ومعلوم أن كلًا من إيطاليا واليونان هما الأكثر عُرضة لقبول المُهاجرين، باعتبارهما بوابتي أوروبا في المتوسط، ولكن بعد الاتفاق الذي وقِّع مع تركيا سنة 2016، للحد من الهجرة غير النظامية، أصبحت إيطاليا الدولة والوجهة المُحبذة لراكبي قوارب الموت.
خلال الاجتماع الذي انعقد بمدينة بروكسل يوم الخميس 28 يونيو 2018، تعمق الخلاف بين مختلف البلدان الأوروبية حول من يتحمل مسؤولية المُهاجرين الوافدين، واللافت خلال القمة هو سيطرة خطاب اليمين المتطرف على النقاشات، سيطرة أعطت انطباعًا بأن الهجرة هي أهم القضايا الأوروبية وبأن القارة “تقبع تحت حصار المُهاجرين” وذلك رغم الانخفاض الكبير في عدد هؤلاء خلال الأشهر الأولى من سنة 2018 .
منصات الإنزال في بلدان شمال إفريقيا:
قُبيل قمة بروكسل، قال رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي، دونالد تاسك، إن المجلس سيُقدم مقترحًا نمساويًا دنماركيًا، يدعو إلى منصات إنزال خارج دول الاتحاد، سيتم فيها فرز المُهاجرين بين مستحقي اللجوء الذين يحتاجون إلى حماية دولية والمُهاجرين لأسباب اقتصادية، وتُدير هذه المنصات وكالات أوروبية، تقبل بالنظر في المطالب الأولى بينما يقع استبعاد الصنف الثاني بالسرعة اللازمة والكُلفة الأقل، وحسب مسودة الوثيقة التي قدمها تاسك للمجلس فإن “مثل هذه المنصات ستوفر إجراءات سريعة للتمييز بين الصِنفين وتقليص الحافز للشروع في الرحلات المحفوفة بالمخاطر” أي ركوب البحر إلى أوروبا .
للتذكير فقط ، فإن فكرة المنصات ليست جديدة تمامًا، إذ سبق لوزير الداخلية الألماني الأسبق، توماس ديميزر، أن اقترح سنة 2014 إنشاء “مراكز ترحيب” في إفريقيا بغية تقليص عدد الوفيات في البحر.
غياب الوضوح:
لكن الاقتراح، الذي صاحبه كثير من التكتم والغموض، بقيت عديد الأسئلة تحوم حوله دون إجابة، منها مثلا من سيُحدد مقاييس قبول مطالب اللجوء؟، وكيف سيتم التفاوض مع دول المنشأ؟، وماذا لو رفضت دول المنشأ عودة مُهاجريها الذين لم يقع قبول مطالبهم؟، خاصة إن هناك تعهدات بعدم إرجاع هؤلاء قسرًا إلى بلدانهم.
رفض دول شمال إفريقيا:
بعد تداول موضوع المنصات إثر اجتماع القمة الأوروبية في بروكسل في يونيو الماضي 2018، أجمعت المواقف الرسمية لبلدان جنوب المتوسط تونس والجزائر والمغرب وليبيا ومصر على رفض تركيزها، وهي من المرات القلائل التي تلتقي فيها هذه البلدان حول موقف تجاه السياسات الأوروبية.
وزير الخارجية التونسية، مثلًا قال: إن بلاده لا تقبل “بفتح هذه المنصات لاستقبال أو تجميع المُهاجرين غير الشرعيين ونرفض تمامًا إقامتها على أراضينا”.
ولا يختلف موقف المجتمع المدني التونسي عن الموقف الرسمي حول المنصات ولو، أحيانًا، لاعتبارات مختلفة، حيث عبر الاتحاد العام التونسي للشغل في بيان صادر بتاريخ 6 أوت/أغسطس 2018، عن رفضه أن تتحول تونس إلى منصة إيواء للمُهاجرين و”شرطيًا لحراسة الشواطئ الأوروبية”.
وعبَّر المُنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عن تثمينه للموقف الرسمي التونسي الرافض لتركيز المنصات وجدد دعوته الحكومة التونسية “للتمسك بهذا الموقف في وجه كل الضغوطات المُرتقبة والمساومات وذلك احترامًا للثورة التونسية ومبادئ دستور جانفي 2014” (3 جويلية 2018).
فشل محاولة أوروبية يمينية للتصدي للمُهاجرين:
محاولات عديدة لثني المُهاجرين سبقت اقتراح المنصات، منها الدعاية المضادة في البحر ومواجهة فرق الإغاثة، فخلال شهر أوت/أغسطس 2017، منع البحارة التونسيون سفينة “سي ستار” التي كانت تحمل نشطاء من مُنظمة “جيل الهوية”، وهي مُنظمة يمينية تدعو “للدفاع عن أوروبا” وترفع شعارات ضد المُهاجرين من قبيل “لا تجعلوا من أوروبا موطنًا لكم” من التزود بالوقود والغذاء في ميناء صفاقس، بعد أن وقع منعها من الإرساء في ميناء جرجيس، وذلك بعد توافد معلومات على أن السفينة تقوم بمهمة اعتراض السفن والقوارب التي تحمل مُهاجرين وتمنع عنهم الإغاثة والمساعدات الإنسانية، وكانت السفينة قد جمعت لهذا الغرض تبرعات قُدرت بحوالي 170 ألف يورو، خُصصت “لمطاردة المُهاجرين” ومنعهم من الوصول إلى سواحل أوروبا .
وكان الاتحاد العام التونسي للشغل قد توجه بنداء إلى البحارة التونسيين حتى لا “يتركوا باخرة العنصرية” تُدنس موانئ تونس. كما توجه المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بنداء إلى البحارة التونسيين حتى لا “يتعاونوا مع من يُروج للعنصرية والكراهية .”
خلال شهر أوت/أغسطس 2017، منع البحارة التونسيون سفينة “سي ستار” التي كانت تحمل نشطاء من مُنظمة “جيل الهوية”، اليمينية المدعوة “للدفاع عن أوروبا” والتي ترفع شعارات ضد المُهاجرين من قبيل “لا تجعلوا من أوروبا موطنًا لكم” من التزود بالوقود والغذاء في ميناء صفاقس، بعد أن وقع منعها من الإرساء في ميناء جرجيس
ليس رفض تونس فقط:
خلال زيارته لموريتانيا في جويلية الماضي، فشل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون في إقناع الرئيس الموريتاني، محمد ولد عبد العزيز، بخطته في إقامة محطة إنزال للمُهاجرين، إذ يرى هذا الأخير أن موريتانيا لن تقبل بذلك وأن “حل قضية الهجرة ليس في بناء مراكز الإيواء لاستقبال المُهاجرين، بل في معالجة أسباب الهجرة” التي تتلخص حسب رأيه في مُساعدة البلدان التي ينتمي إليها هذا الشباب على تخطي الفقر والبطالة ، مصر بدورها عبَّرت عن رفضها أن “تكون فِنائًا خلفيًا لحل مشكلات الهجرة الأوروبية.
تراجع أوروبي؟
خلال مؤتمر صحفي انعقد بتونس في 26 أكتوبر 2018، أكد جون كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، أن تونس لن تكون منصة لوضع مُخيمات المُهاجرين وفرزهم، “وأن طرح مثل هذه القضية ليس في جدول الأعمال، بل ولا يجب أن تُطرح أصلًا .
ويبدو أن هذا التراجع يعود إلى الموقف الرافض للبلدان الإفريقية، بعد أن تجندت بعض البلدان الإفريقية إلى جانب منظمة الوحدة الإفريقية لتعميم التصدي للمشروع لدى كافة بلدان القارة.
ونزل سقف المطالب الأوروبية من دول الجنوب إلى ما دون ذلك، حيث أكدت الناطقة باسم المفوضية، ناتاشا بارتو، في بداية نوفمبر 2018، أن الاتحاد يُحبذ “تسويات إقليمية لمسألة الهجرة والانزال” .
أي أن الاتحاد بدأ في تحضير اتفاقات مُحددة مع دول بعينها، تُقدم بمقتضاها الدول الأوروبية مساعدات مالية مقابل أن تلتزم دول جنوب المتوسط بمراقبة أكثر حزمًا للهجرة غير النظامية.
وهذا بالضبط ما يسعى إليه الاتحاد الأوروبي الآن، حيث تجري نقاشات مع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، حول “تمويلات سخية” مقابل القيام بإجراءات أكثر تشددًا لمراقبة الهجرة، ومن المتوقع أن تطلب مصر مساعدات مالية وقروضًا بتسهيلات مُجزية مقابل ذلك، وكذا الشأن بالنسبة لتونس والمغرب وليبيا .
ويبدو أن تونس قد بدأت إجراءات الصرامة مُنذ مدة، خاصة خلال السنة الحالية، حيث، وحسب دراسة قام بها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإن عدد المُهاجرين الذين وقع إحباط محاولة اجتياز المتوسط خلسة قد ارتفع من 3187 سنة 2017 إلى 6369 سنة 2018، وذلك حتى شهر سبتمبر 2018.
ترحيل في كنف السرية؟
إلى جانب ذلك وبناءً على اتفاق تونسي إيطالي يرجع إلى سنة 2011، فإن عمليات الإعادة القسرية إلى تونس تجري أسبوعيًا، حيث تصل رحلات أسبوعية من إيطاليا إلى تونس، تُقدر بحوالي أربعين مرحّلًا أسبوعيًا وذلك بعيدًا عن أنظار المراقبين وفي صمت تام من السلطات التونسية، مما آثار استياء مُنظمات المجتمع المدني 13.
تلخيص:
محطات الإنزال للمُهاجرين هو اقتراح من مجلس الاتحاد الأوروبي في جوان/يونيو الماضي، خلال قمة بروكسل، ويهدُف إلى منع وصول المُهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا عبر إنشاء مراكز إيواء لهم في بلدان جنوب المتوسط، شمال إفريقيا تحديدًا، وذلك من أجل فرزهم وفحص مطالب اللجوء وإعادة من يثبت أنه هاجر لأسباب اقتصادية واجتماعية إلى بلده الأصلي، ويأتي هذا المسار في إطار السياسة الأوروبية الهادفة إلى التقليص من تدفق الأجانب وتكليف جهات خارجية بذلك، ولكن وجد هذا التوجه مُعارضة كبيرة من دول شمال إفريقيا والشرق المتوسط، على غرار تونس والجزائر والمغرب ومصر وموريتانيا وليبيا، كما كان له ردود فعل سلبية من منظمات المجتمع المدني، وذلك ليس فقط رفضًا للسياسات الأوروبية التي لا تحترم السيادات الوطنية، ولكن كذلك لعدم احترامه لحقوق الإنسان إذ حسب معاهدة جنيف، فإن لكل شخص الحق في مغادرة بلده وطلب اللجوء في أي بلد آخر يضمن سلامته، كما أن كثيرًا من الأموال التي ستُقدَّم إلى الحكومات في جنوب المتوسط، “ستهدى” لأنظمة جلها، لا تحترم حقوق الإنسان ولا حق طلب اللجوء وليست لها الضمانات القانونية لحماية المُهاجر، وإن ستُقلل هذه المنصات من الوفود إلى أوروبا، فإنها لن تُقلل من محاولات ركوب البحر والبحث عن ظروف أفضل للعيش، أمام آفات الفقر والبطالة وعدم الاستقرار التي يعيشها هؤلاء المُهاجرين في بلدانهم.
وحتى في بلدان جنوب أوروبا حيث أُقيمت مراكز إيواء المُهاجرين الفارين من جحيم الحروب والفقر في بلدانهم، فإن الأوضاع كانت سيئة للغاية وتزداد سوءًا، كلما ارتفع عدد المُهاجرين غير النظاميين، فقد حذَّرت مُنظمة “أطباء بلا حدود” التي زارت مُخيم “موريا” في جزيرة “ليسبوس” اليونانية في يوليو/جويلية الماضي 2018 أن “الوضع هناك يتدهور بشكل كارثي في ظل استمرار الاشتباكات وأعمال العنف وحوادث العنف الجنسي والأمراض النفسية داخل المُخيم الذي يستضيف 8 آلاف مُهاجر في حين أن طاقة استيعابه القصوى لا تزيد على 3 آلاف” .
في السنوات الأخيرة، غلبت على السياسات الأوروبية، أكثر فأكثر المقاربة الأمنية، وأمام تواصل تدفق المُهاجرين، تسعى الآن بكل الطرق للتخلص من أزمة تدفقهم عبر ترحيلهم إلى بلد آخر من خلال إبرام صفقات مع الحكومات، وحسب المراقبين فإن كلا الحلَّين، الأمني أو الترحيل، غير ناجعين ما دامت هناك مُعضلات عميقة في جنوب المتوسط، منها الفقر والبطالة والقمع السياسي والحروب الأهلية.
وحتى اتفاق مراكش الأممي حول تحقيق “هجرة آمنة ومُنظَّمة ومُنتظِمة” التي صادقت عليه 164 دولة في العالم، خلال شهر ديسمبر الماضي، فقد أظهر انقسامًا حادًا ضمن دول الاتحاد الأوروبي، رغم صِبغته غير الإلزامية، حيث أثارت نقاط عديدة، منها “تحسين الخدمات الأساسية للمُهاجرين و”العمل على ألا يشوب تقديم الخدمات أي تمييز ضدهم” حفيظة حكومات اليمين في أوروبا.
أمام فشل كل المحاولات، ربما حان الوقت أن تنظُر أوروبا إلى الهجرة نظرة مُغايرة وتواجهها عبر استراتجية واضحة تستبعد ردود الفعل الأمنية، استراتيجية تأخذ في الاعتبار مبادئ حقوق الإنسان وتُكرِّس التضامن الدولي، عند ذلك فقط يتحول المُهاجرون، بكافة أصنافهم، من عبء إلى عامل إثراء تستفيد منه دول المنشأ والدول المُضيفة.