بقلم: مجدي عبد الهادي
باحث متخصص في الاقتصاد الكلي والسياسي وعلم الاجتماع الاقتصادي
مُقــدمة:
“صندوق النقد كان عاوز يخفض الجنيه 30%، قولتله مش هاعملها، وأعيّش الناس ازاي؟ يقولي لا مش هايحصل حاجة..، راجل عايز يغرّقك بأي طريقة، عشان يفضل شغّال معاك على طول، أعمل بقى إصلاحات، إعمل إصلاحات..، وكان في انتخابات مجلس شعب، كان بيقولي استنى بعد الانتخابات ومرة واحدة كده، خفّض 30%، من غير ما تقول لحد..، قولتله إيه خفّض 30% دي، دي معناها الأسعار تزيد ستين سبعين في الميّه، فلازم أزوّد مرتبات الموظفين، معناها يا افرض ضرايب يا اطبع ورق، التضخّم يزيد، تيجي تقولي بقى تعالى نعمل برنامج إصلاح اقتصادي تاني، مفيش مجانية تعليم، مفيش جيش،..مفيش مفيش”.
لم يكن ما سبق قول أحد الوزراء التكنوقراط المستقلين أو المُعارضين الوطنيين التقدميين، بل قول الرئيس السابق حسني مبارك في أحد خطاباته العلنية، وبعض النظر عما يتضمّنه من طرافة تتضمّن من الحقائق بقدر ما تتضمّن من الادعاء ، فهو شهادة رسمية شديدة الصراحة والوضوح من أطول رؤساء مصر بقاءً في السلطة، وأحد أكثرهم محافظّة في رؤاه الاقتصادية، عن خُلاصة تجربته مع صندوق النقد الدولي وما شابهه من منظمات.
فقد أدرك الرجل محدود الثقافة الاقتصادية، بتجربته العملية المباشرة، أن برامج الصندوق ما هي إلا سلسلة لا تنتهي من توصيات الإغراق النقدي والمالي؛ تؤدي بالبلد الضحية للعودة الدائمة إليه؛ للخضوع لاشتراطات جديدة متزايدة، لا تصبّ في أغلبها في صالح ذلك البلد وشعبه، بل لتعميق ضعفه وتبعيته، وقد صدّق على إدراكه ووعيه الدرس بالتزامه بسقف منخفض للديون الخارجية طوال العقدين الباقيين من حكمه، تاركًا مصر بدين خارجي منخفض بمقدار 35.21 مليار دولار عام 2011م ، لم يتجاوز قصير الأجل منه خمسة مليارات دولار بما يقل عن 9% من إجمالي الدين ، وبنسبة لكامل الدين الخارجي إلى الناتج القومي الإجمالي لم تتجاوز 15.3% .
فقد أدرك الرجل محدود الثقافة الاقتصادية، بتجربته العملية المباشرة، أن برامج الصندوق ما هي إلا سلسلة لا تنتهي من توصيات الإغراق النقدي والمالي وتؤدي بالبلد الضحية للعودة الدائمة إليه؛ للخضوع لاشتراطات جديدة متزايدة
وبالطبع هو ليس استنتاجًا مما يتطلّب كثيرًا من الذكاء؛ فلمصر تاريخ طويل من الاتفاقات المتكررة مع الصندوق منذ السبعينيات، خصوصًا منذ تبنّيها نموذج الانفتاح الساداتي أواسط سبعينيات القرن الماضي، يُلحظ ثباتها حدّ عدم الاختلاف الجوهري في خطوطها الأساسية وبنودها المحورية، فيسجّل مصباح قطب أن مصر أبرمت 16 اتفاقًا مع صندوق النقد منذ الستينيات حتى العام المنصرم 2023م، كانت حزمها هي نفسها تقريبًا طوال الوقت؛ بحكم وحدة وظيفة الصندوق نفسه واقتصارها على الحفاظ على الاستقرار المالي والنقدي بالأساس، مُلخّصًا الموقف في استنتاج منطقي مفاده أن تعاطي ذات العلاج 16 مرة، دون معالجة المرض، تعني أنه إما العيب فينا أو في الصندوق أو في كلينا .
بل إن مجلة ليبرالية كالإيكونوميست، أقرب لناطقة بلسان بعض دوائر الأعمال والسياسة الغربية، تسجّل في خلاصة تقرير لها عن الاقتصاد المصري مطلع العام الماضي 2023م أن مصر اليوم تقف بطريقة ما حيث كانت عام 2016م، عندما توصّلت لاتفاق مع صندوق النقد بمبلغ 12 مليار دولار، وبعدما طبّقت بعض الإصلاحات المالية كخفض الدعم، وتجاهلت ما يتعلّق بالتغييرات الهيكلية للاقتصاد بما يجعله أكثر تنافسية، فإذا بها قد عمّقت الأزمة بدلاً من أن تحلّها ، مُسجّلةً بشكل ضمني ما تراه سبب عدم نجاح البرنامج.
وهذا هو السؤال الذي سنحاول إجابته في هذه الورقة، بعد رصد مُوجز للأداء الاقتصاد الكلي لمصر طوال العقد الأخير، ومعه أبرز الجوانب النقدية والمالية التي تركّز عليها برامج الصندوق خصوصًا ، ما سنسبقه منطقيًا بمناقشة مُوجزة للأسباب الهيكلية لأزمتنا ولجوئنا للصندوق التي تمثّل بذاتها الخلفية الكبرى لأدائنا الاقتصادي، ثم نردفه بتفسير لأبرز أسباب فشل برامج الصندوق في مصر على ضوء تاريخنا وسوابقنا معه، التي لم تكن ناجحة جوهريًا بدورها؛ بحيث كان يجب الاسترشاد بها قبل العودة لتكرار الأخطاء على أمل تحقيق نتائج مختلفة!
ومن المهم الإشارة بخصوص هذا التقييم شديد الإيجاز إلى صعوبة، حد استحالة، الفصل بين ما هو آثار مباشرة لبرامج الصندوق من جهة وما هو نتاج مشكلات وانحرافات أداء الحكومة المصرية من جهة أخرى؛ ففي النهاية، الأخيرة هي المُطبّق الفعلي والنهائي لبرامج الأول، بل إنها مساهم أصيل في صياغتها الفعلية وواضعها الوحيد قانونيًا من الوجهة الإجرائية، كذا فإن كثيرًا مما يُعد إشكالات في الأداء الحكومي لا ينفصل عن، وربما بعضه مدفوع جزئيًا بـ، المنطق والإطار الكليين للتعامل مع الصندوق نفسه، كما سنشير في حينه.
وسيتركّز معظم التحليل في الجزء الثاني من الورقة على قضيتيّ سعر الصرف والدين العام المتشابكتين، كما سيقتصر معظم التقييم عمليًا على آثار اتفاق 2016م؛ لمرور فترة كافية نسبيًا لمراجعة آثاره بالمقارنة بالبرامج الأحدث، كذا لاضطراب الفترة اللاحقة بآثار فيروس كوفيد 19 وحرب أوكرانيا (إلى آخر حجج البليد)، كذا لسبب إجرائي لا يقل أهمية ولا يخلو من الدلالة، هو توقّف أغلب البيانات الرسمية عند أوائل عام 2022م، وبعضها حتى قبل ذلك، سواءً في إصدارات مؤسسات الحكومة المصرية أو بقواعد بيانات المنظمات الدولية.
اقتصاد مأزوم هيكليًا: لماذ نلجأ للصندوق ابتداءً؟
كما لا تُفهم قوانين الظواهر سوى في حركتها، ولا تُدرك كينوناتها سوى على ضوء وفي سياق تواريخها؛ كذا لا يمكن فهم أداء الاقتصاد المصري عمومًا، وتقييم دلالات وآثار برامج صندوق النقد المُنفّذة ضمنه خصوصًا، سوى على ضوء الحركة التاريخية والأزمة البنيوية لذلك الاقتصاد، التي سنحاول الاقتصار هنا على أكثر خطوطها عمومية وأهمية.
وأبرز سمة لهذا الاقتصاد منذ تبنّى نموذج الانفتاح الساداتي هي ركود التصنيع، فمنذ الثمانينيات استقرت الصناعة التحويلية عند متوسط عام 18% تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي، بينما هبطت الزراعة إلى متوسط 12% تقريبًا منه، لتستحوذ الخدمات على حوالي 55% من الناتج، وتترك الباقي للأنشطة الاستخراجية.
فمنذ الثمانينيات استقرت الصناعة التحويلية عند متوسط عام 18% تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي، بينما هبطت الزراعة إلى متوسط 12% تقريبًا منه، لتستحوذ الخدمات على حوالي 55% من الناتج، وتترك الباقي للأنشطة الاستخراجية.
هذا الهيكل القطاعي أنتج فجوة تشغيل مُزمنة في اقتصاد منخفض الادخار والاستثمار، والذي لم يعوّض الاستثمار الخاص فيه تراجع الاستثمار العام لا كمًّا ولا كيّفًا، وفي ظل استباق هيكل الطلب (الاستهلاك) لهيكل العرض (الإنتاج)؛ اختل توازنه الخارجي بعجز مُزمن في الميزان التجاري (فجوة تجارة)، حيث تجاوزت الواردات الصادرات بمتوسط عام تراوح ما بين ضعفين وثلاثة أضعاف طوال العدة عقود الماضية.
كذا أدى نفس هذا الهيكل القطاعي، بحكم تكوينه التقني المتأخر نوعيًا، إلى ضعف في نمو الإنتاجية؛ سواءً بحكم ضعف متوسط الفن الإنتاجي عمومًا (انخفاض مستوى التكوين الرأسمالي)، أو لغلبة قطاعات الخدمات والتداول على قطاعات الإنتاج السلعي (وبالتالي ارتفاع رأس المال العامل إلى رأس المال الثابت)، وبالتفاعل مع ضعف الجهاز الإداري وتراجعية النظام الضريبي، إلى بطء نمو الإيرادات العامة بالمقارنة بنمو النفقات العامة؛ ومن ثم عجز مُزمن في الموازنة (فجوة مالية)، ودين عام متصاعد، داخليًا وخارجيًا.وأدى التفاعل بين الفجوتين المذكورتين، فضلاً عن آثارهما كما خلفياتهما الاقتصادية نفسها، مُجسّدًا في الإفراط الحكومي في التمويل التضخّمي عبر التمويل المصرفي وطباعة النقد، إلى نمو متسارع للمعروض النقدي تجاوز نمو المعروض السلعي؛ فخلق (فجوة نقدية)، تمظهرت في تضخّم مُزمن داخليًا وتدهور مستمر لسعر صرف العملة خارجيًا.
تزامن مع هذه الاتجاهات الهيكلية، على مستوى التوازن الخارجي، اعتماد متزايد على التدفقات الخارجية ذات الطابع الريعي، فيما عُرف بالأربعة الكبار في مصادر النقد الأجنبي لمصر، وهى عوائد صادرات البترول والسياحة ورسوم قناة السويس وتحويلات العاملين بالخارج؛ لتغطّي مصر عجزها التجاري المُزمن بفائض ميزانها الجاري، من مصادر كلها ريعي، وأغلبها شديد التقلّب.
وفي هذا المجال احتلت تحويلات العاملين بالخارج مكانةً خاصة؛ حتى أنها لتكاد أن تكون قاعدة النموذج الاقتصادي ، رغم تقلّبها الشديد كما تُبيِّن اتجاهاتها العامّة طوال الفترة 1977 و2021م؛ ومن ثم خطورة الركون إليها كمورد أساسي لتدفّقات النقد الأجنبي عمومًا، ناهيك عن أن تكون قاعدة سدّ عجز تجاري مُزمن.
لكن الواقع أنها وصلت طوال عقد الثمانينيات إلى نحو نصف إجمالي الصادرات المصريّة، وما يقارب أربعة أضعاف الاستثمار الأجنبي المباشر وثُلث الاستثمار الإجمالي، وأكثر من مرّة ونصف المرّة المعونات الإنمائية، ونحو ثُلثيّ الادخار المحلّي، وما يقرب من نصف الادخار الإجمالي، واليوم بعد أكثر من ثلاثة عقود، لم تتغيّر الصورة كثيرًا، فعبر العقد الأخير (2013-2021م)، تجاوز متوسّط التحويلات نصف الصادرات، ونحو أربعة أضعاف الاستثمار الأجنبي المباشر، وأربعة أضعاف إيرادات السياحة، وما يقرب من أربعة مرّات ونصف المرّة إيرادات قناة السويس .
ومع هذا الدور الكبير للتحويلات الخارجية، دخل الاقتصاد المصري منذ السبعينيات في حلقة مُفرغة من «إعاقة التنمية»، حيث أدت تلك الحقن الخارجية لنوع من المرض الهولندي الذي يعيق التصنيع ونموّ التصدير، ومعهما النموّ الإنتاجي وموارد النقد الأجنبي، بما يؤدي لمزيد من الاعتماد على تلك الحقن الخارجية، لمجرد استمرار الاقتصاد دون توسّع حقيقي أو تطوّر نوعي؛ بحيث أصبح بحاجة دائمة لحقن خارجية مُتزايدة الحجم لسدّ العجوزات المتزايدة، الناتجة عن اتساع الفجوة بين الاستهلاك المُتزايد بسبب الآثار الكمّية للتحويلات، والإنتاج المحلّي المتباطئ بسبب الآثار الكيفية لها، بصيغة أخرى أصبح الاقتصاد يحتاج لموارد متزايدة لمجرد البقاء في مكانه .
ولم ينج هذا الاقتصاد، الراكد والمأزوم هيكليًا والمُنحرف ريعيًا، كذلك من إطار مؤسسي احتكاري محاسيبي، قتل المنافسة وجمّد مرونة الحركة؛ ليفاقم محدودية منافذ التراكم؛ ليصبح الاقتصاد بمجموعه أقرب للركود والهشاشة منه للنمو والصلابة؛ فأصبح يتعرّض لأزمة مالية ونقدية حادة كل عِقد تقريبًا، وفي هذا السياق، دون إغراق في التفاصيل، نفهم اللجوء المتكرر والمتزايد لصندوق النقد الدولي ورديفه البنك الدولي وغيرهم من الدائنين والداعمين.
لمحة عن الأداء الاقتصادي المصري بعِقد الاتفاقات المشئوم 2016-2023م:
إذا بدأنا بمعدل النمو الاقتصادي باعتباره انعكاسًا عامًا لكامل الأداء، فسنجد أن الناتج المحلي الإجمالي قد نمى من 332.44 مليار دولار عام 2016م إلى 476.75 مليار دولار عام 2022م حسب البيانات المُتاحة على قاعدة بيانات البنك الدولي ، والتي لم تُترجم بعد آثار ما جرى من تعويمات منذ ربيع ذلك العام، والتي لا يمكن خصم خسائرها بكامل نسبها بالتأكيد؛ باعتبار أن ارتفاعات الأسعار المحلية بالجنيه لاحقًا تعوّض جزءًا من خسارة سعر الصرف، كما حدث مع تعويم 2016م، عندما انخفض الناتج الإجمالي ما بين عامّ 2016 و2017م بنسبة 25.3% فقط، رغم انخفاض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار بنسبة 57% تقريبًا، كما يظهر بالشكل (1) بتاليه
لكن بأخذ تقدير عصام الجوهري الأستاذ بمعهد التخطيط القومي، في مقاله بمجلة الأهرام الاقتصادي الحكومية ، للناتج المحلي الإجمالي لعام 2023م بمقدار 357.83 مليار دولار؛ فإن صافي نمو الناتج الإجمالي يكون 7.63% خلال كامل فترة الثمانية أعوام 2016-2023م، بمتوسط نمو سنوي 0.954% فقط.
وكما نرى، فهى معدلات تقل كثيرًا عن معدلات النمو السكاني خلال نفس الفترة، التي بلغت متوسطًا سنويًا 1.59% بين عاميّ 2016 و2022م ؛ ما يعني تدهور متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
وبالطبع لسنا بحاجة لتفصيل ما جرى لـسعر صرف الجنيه المصري كأجلى مظاهر الأداء الاقتصادي وأبرز تطبيقات برامج الصندوق طوال العقد المُنصرم، فتراجع من حوالي تسعة جنيهات للدولار أواخر عام 2016م إلى حوالي 48 جنيهًا للدولار في الربع الأول من 2024م الجاري، بإجمالي انخفاض 81.25% كما يظهر بالشكل (2) التالي.
وقد انعكس هذا التدهور المتسارع في سعر الصرف، مُتضافرًا مع السياسة المالية التوسّعية عمليًا للحكومة (رغم تطبيق الإجراءات التقشّفية على أصعدة الأجور والدعم وما شابه)، والاختناقات الهيكلية على صعيد الجهاز الإنتاجي والبنية الاحتكارية على صعيد التداول، في ارتفاع معدلات التضخّم عبر معظم الفترة، فارتفع الرقم القياسي لأسعار المستهلكين من 66 نقطة في أكتوبر 2016م إلى 215 نقطة في فبراير 2024م (بفرض أسعار فبراير 2019م شهر الأساس بمقدار 100 نقطة) ، ما يعني ارتفاع إجمالي في المستوى العام للأسعار بمقدار 225%، بمتوسط تضخّم سنوي عبر كامل الفترة 28% تقريبًا، كما يظهر بالشكل (3) التالي.
وعادةً ما يكون المبرّر الأول الذي يجري تصديره لخفض سعر الصرف هو أثره الإيجابي على الميزان التجاري والجاري؛ من خلال أثره الإيجابي على الصادرات التي تصبح أكثر جاذبية، والسلبي على الواردات التي تصبح أكثر تكلفة، فكيف سلكت الاثنتان خلال الفترة؟
بالبدء بـالواردات المصرية من السلع والخدمات، فقد استمرت بالزيادة معظم سنوات الفترة، فارتفعت من 66.16 إلى 104.39 مليار دولار خلال الفترة 2016-2022م، مُستمرةً باتجاهها الصاعد منذ عقود، ما يعني أنها لم تنخفض أو تتباطئ رغم الخفض الكبير في سعر الصرف (الشكل (4)) ؛ ما يعكس محدودية مرونة الواردات المصرية؛ كون أكثر من نصفها واردات غذائية ومستلزمات إنتاجية.
أما الصادرات المصرية من السلع والخدمات، فقد كانت أكثر تقلّبًا، ورغم زيادتها بما يقرب من الضعف من عام التعويم 2016م حتى عام 2022م، بارتفاعها من 34.39 إلى 71.93 مليار دولار (شكل (5)) ، إلا أن أكثر من نصف هذا الارتفاع كان استعادة لقمتها السابقة عند مستوى 53 مليار دولار عام 2008م، والأهم أن هذا الارتفاع الكبير بين عاميّ 2021 و2022م كان يرجع في معظمه لأسباب خارجية كارتفاع أسعار الشحن من بعض الأسواق التقليدية وأزمة الطاقة بالصين والتعافي العالمي من إغلاقات كورونا ؛ مما لا يُفسّره التعويم بحدّ ذاته ولا تحسّن الأداء التصديري نفسه.
لهذا لم ينخفض العجز التجاري بأي شكل منذ تعويم 2016م حتى عام 2022م، عندما انخفضت الواردات جوهريًا لأول مرة في عام 2022-2023م (الذي لا تغطّيه بيانات البنك الدولي المُوضّحة بالشكل (5))؛ عندما اضطرّت مصر تحت ضغط أزمة النقد الأجنبي الحادّة طوال العام (التي أجبرتها على خفضين كبيرين للعملة)، للضغط الإداري المباشر على الواردات.
المُبرّر الثاني الذي يلحق بالمبّرر السابق مباشرةً، هو الأثر الإيجابي لخفض سعر الصرف على الجاذبية الاستثمارية للبلد؛ ومن ثم ارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر، الأمر الذي لم يحدث جوهريًا بدوره، حيث ارتفع بالكاد من 2.4% إلى 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي بين عاميّ 2016 و2018م، ليستمر بعدها بالهبوط مع إغلاقات كورونا، ليعود أخيرًا إلى مستواه السابق عند أول التعويم كما يظهر بالشكل (6) التالي .
علمًا بأن الارتفاع كنسبة من الناتج الإجمالي يتضمّن بعضًا من الخداع الرقمي؛ نظرًا لانخفاض الناتج الإجمالي نفسه بفعل انخفاض سعر الصرف؛ لهذا تظهر ضآلة الارتفاع بين العامين المذكورين بوضوح إذا نظرنا في القيم المُطلقة كما وردت ببيانات البنك المركزي المصري (شكل (7)) ، حيث نجد أن الاستثمار الأجنبي المباشر قد ارتفع من 7.933 مليار دولار عام 2016/2017م إلى 8.236 مليار دولار فقط عام 2018/2019م، بنسبة أقل من 4% لا تمثّل تغيّرًا معنويًا بأيّة حال، وإن كان قد ارتفع إلى حوالي 10 مليار دولار عام 2022/2023م مع التعويمين الذين هبطا بسعر الصرف إلى 31 جنيه للدولار، بارتفاع بنسبة 12% تقريبًا عن العام السابق، لكنها لا تعكس ارتفاعًا حقيقية في الجاذبية الاستثمارية؛ كونها بمجموعها وأكثر منها كانت حصيلة بيع أصول بما يقرب من ملياري دولار حتى أواسط عام 2023م .
هذه الاستجابة الضعيفة على صعيد الاستثمار الأجنبي المباشر، عوّضتها مصر بالاستدانة المُفرطة، بما فيها الاستثمار غير المباشر، مُجسّدًا في اجتذاب الأموال الساخنة عبر أذون وسندات الخزانة؛ ليقفز الدين العام الخارجي من 60 مليار دولار في الربع الثالث من 2016م إلى 165 مليار دولار في الربع الثالث من 2023م (شكل (8)) ، بزيادة بمقدار 175% خلال ثمانية أعوام، أو بمتوسط زيادة سنوية 22% تقريبًا، ولا غرابة في ذلك، فاتفاقات وقروض الصندوق، الهادفة أساسًا حسب المُعلن عنها للاستقرار المالي والنقدي، هي بحدّ ذاتها شهادة أمان وضمان تيسّر للدول الحاصلة عليها الاقتراض من الأسواق الدولية بسهولة، ورغم أنه لا يمكن لوم الصندوق على عدم رشادة الإدارة المصرية، يظل جديرًا بالذكر أن العديد من الدراسات يتهم تمويل الصندوق بالتسبّب بنوع مما يُطلق عليه “الخطر المعنوي” لم يستطع باحثو الصندوق أنفسهم إنكاره بالكامل ؛ حيث يشجّع بممارساته الدائينين والمدينين على تقليل حذرهم الائتماني والاستداني في أسواق رأس المال ؛ بشكل جعله مساهمًا رئيسيًا بتمويله في نشر الأزمات المالية في الأسواق الناشئة، الأمر الذي يزداد بخاصة في حالة الدول التي تحظى بمعاملة تفصيلية خاصة بفعل تسييس الصندوق .
وقد انعكس رصيد الدين الخارجي المُتصاعد في خدمة ديون خارجية متصاعدة طوال العقد الأخير بالمقارنة باستقرار واضح طوال العقد السابق عليه كما يظهر بالشكل (9) بتاليه ، لترتفع نسبة هذه الخدمة من 1.2% من الناتج القومي الإجمالي عام 2015م، إلى مستويات مرتفعة تاريخيًا، كمستويات 3.3% منه عام 2018م، و4.5% منه عام 2021م .
أما الدين العام المحلي، فقد تضاعف تقريبًا خلال أربعة أعوام فقط، بالارتفاع من 2.620 تريليون جنيه في يونيو 2016م إلى 4.742 تريليون جنيه في يونيو 2020م، حسب آخر بيانات مُتاحة على موقع البنك المركزي المصري، ولا يمكن في هذا السياق تجاهل المخالفة المؤسسية الجسيمة من المالية العامة المصرية لمبدأ وحدة الموازنة، وما يتصل بها من ضعف إفصاح وعدم شفافية، نتيجة المعاملات خارج الموازنة، خصوصًا في صورة الصنادق الخاصة المتزايدة مؤخرًا، في استعادة للتقليد سيئ الذكر من أيام مبارك، ويؤكّد آخر إصدار من تقرير “مرصد الاقتصاد المصري”، الصادر في ديسمبر 2022م، على دور هذه الوحدات خارج الموازنة في تفاقم المديونية؛ نتيجة صلاحياتها في الاقتراض خارج الموازنة، وكالعادة فما بدأ استثناءً، كخطأ في كل الأحوال، بنسب 24 و16% تقريبًا من إجمالي التغيّر في تلك الديون عاميّ 2016 و2017 على التوالي، اقترب في السنوات الأخيرة من نصفه تقريبًا، بالغًا نسبة شديدة الخطورة عند مستوى 43.6% من الزيادة في إجمالي تلك الديون في السنة المالية 2020/2021م .
وبطبيعة الحال، يتصل هذا النمو في الدين العام المحلي بتدهور وضع الموازنة العامة، فبخلاف استمرار العجز المالي في مفاقمة الدين العام، رغم ما حقّقته الحكومة من نجاحات في زيادة الإيرادات الضريبية بكافة أنواعها، والتي تحمّلها المواطنون رغم تدهور دخولهم الحقيقية، يبرز بشكل خاص، كأهم التحوّلات على صعيد الموازنة، النمو الانفجاري لمدفوعات فوائد الديون بشكل تجاوز كافة البنود الرئيسية الأخرى تقريبًا، كما يظهر بالشكل (10) بتاليه؛ بفعل الارتفاعات المتتالية في أسعار الفائدة المحلية؛ تحت ضغط الحاجة الحكومية لسدّ عجز الموازنة المتزايد، ومحاولة المركزي الحفاظ على جاذبية الودائع بالجنيه لتقليل خروج الأموال الساخنة، ولموجهة التضخّم المحلي الناتج عن التمويل التضخّمي الحكومي وتدهور سعر الصرف، فضلاً عن رفع الفيدرالي لأسعار الفائدة الأمريكية وتأثيراته على عمليات مراجحة الفائدة التي تتحرّك على أساسها هذه الأموال.
وحسب الإصدار سالف الذكر من تقرير مرصد الاقتصاد المصري ، استنزفت مدفوعات الفوائد حوالي 59% من الإيرادات الضريبية و32% من إجمالي الإنفاق العام في السنة المالية 2021/2022م، مُسجلّة بذلك أكبر بند منفرد فيه؛ ومُقلّصةً من الحيّز المُتاح للإنفاق الاستثماري والإنتاجي والاجتماعي بأنواعه؛ ما يفسّر التراجع بالقيم الحقيقية في الإنفاق على قطاعيّ الصحة والتعليم؛ بما يُقدّر بنسبة 1.30% و2% من الناتج المحلي الإجمالي على التوالي، ما ينخفض كثيرًا عن النسب المُقدّرة دستوريًا للقطاعين -بأكثر من الثلثين- عند 3% و6% من الناتج الإجمالي على التوالي .
هذا الانفجار في مدفوعات فوائد الديون لا يعمّق مشكلات العجز والمديونية مُفعّلاً حلقة خبيثة من التغذية الذاتية فحسب، بل يضغط كذلك على الموارد المُخصّصة لكافة أبواب الإنفاق الأخرى، فضلاً عن التأثير سلبًا على الاستثمار العام ونفقات تجديد وصيانة المرافق والخدمات العامة والاجتماعية؛ بما يعني تدهورًا حتميًا في البنية التحتية والمرافق العامة للبلد عمومًا، وفي معظم الأقاليم والمناطق الفقيرة خصوصًا.
وبالطبع انعكس هذا الإفراط في الاستدانة، مُتضافرًا مع إشكالات سياسية ومؤسسية أخرى، على نشاط القطاع الخاص بالتراجع، رغم أن رفع نسبة ووتيرة هذا النشاط أحد الأهداف الثابتة في إنجيل الصندوق، فقد زاحمته الحكومة النشاط، حتى أنها استفادت بحوالي 58.8% من إجمالي الائتمان المحلي في يونيو 2022م، فيما تراجعت حصّة القطاع الخاص إلى 32.2% منه، متراجعةً من أكثر من 50% من إجمالي الائتمان عام 2005م ؛ ما يعكس حالة المزاحمة الحكومية غير الكفؤة بالنظر للمؤشرات الأخرى.
لمحة عن الآثار الاجتماعية والسياسية بنهاية العِقد:
رغم أنه لا توجد بيانات رسمية حديثة عن اتجاهات الفقر، لا يتطلّب الأمر كثيرًا من التحليل لتوقّع الاتجاهات العامة، مع الانعكاسات التراكمية المُجمّعة لكل من تدهور سعر الصرف وارتفاع التضخم وتقليص الدعم والإنفاق الاجتماعي وزيادة أعباء الضرائب والرسوم الحكومية وأسعار الطاقة، فضلاً عن تراجع متوسط نصيب الفرد من الناتج الإجمالي، على ما سلف ذكره.
أما عن توزيع الدخل، فيتخذ عادةً نفس اتجاه الفقر؛ كون الدخول المُحوّلة عن من تم إفقارهم لا تتبخّر، بل تذهب لجيوب آخرين، سواءً داخل البلد فتفاقم اللامساواة، أو خارجه فتفقر البلد بمجموعه، كما أنه معروف عمليًا وتاريخيًا طبيعة إعادة التوزيع التراجعية، من أسفل السلم الاجتماعي لأعلاه، التي تؤدي إليها إجراءات وتفاعلات كتدهور سعر الصرف وارتفاع معدلات التضخّم ونمو الدين العام والاعتماد على الضرائب غير المباشرة.
ويمكن الاستدلال على اتجاه حالة الفقر والتوزيع بالنظر في تقديرات انخفاض متوسط الأجور الشهرية للمصريين من 456 إلى 240 دولارا خلال الفترة 2015-2021م (حسب بيانات موقع شركة معلومات الأعمال CEIC)، والتي وصلت إلى ما بين 130 و200 دولار عام 2023م (حسب بيانات موقع WageCentre )، بما تخفيه تلك المتوسطات من تدهور شديد لأجور أغلب القوة العاملة؛ كونها متوسطات إحصائية عادية تتضمّن تفاوتًا كبيرًا ما بين أعلى وأدنى الأجور؛ بما يعنيه ذلك من انخفاض أجور الغالبية العظمى من العاملين عن هذه المتوسطات المنخفضة نفسها.
كاتجاه عام، فالمُرجّح هو ضخامة موجات الفقر الناتجة عن التعويمات والتضخم؛ نظرًا لغلبة “ضحالة الفقر” في مصر، أي قُرب فئات اجتماعية واسعة من خط الفقر
وتشير بعض التقديرات إلى بلوغ متوسطات الأجور بالقطاع العام 2.8 ضعف نظيرتها للأجور بالقطاع الخاص الرسمي، و4.3 ضعف نظيرتها للأجور بالقطاع الخاص غير الرسمي، حسب التعداد الاقتصادي 2017/2018م، وهى التفاوتات التي تتسع برصد كافة التعويضات، بما تشمله إلى جانب الأجور النقدية من تأمين اجتماعي وصحي ومزايا عينية، ليرتفع متوسط تعويضات العاملين بالقطاع العام إلى ثلاثة أضعاف نظيرتها للعاملين بالقطاع الخاص المنتظم، وخمسة أضعاف نظيرتها بالقطاع الخاص غير المنتظم .
وبغض النظر عن التفاوت، فبافتراض 200 دولار كمتوسط متفائل ما بين هذه التقديرات، أو حتي 220 دولار تقريبًا كما قدّرت مجلة المديرين التنفيذيين الأمريكية أواخر العام الماضي ، والذي يجعل مصر الأخيرة عربيًا، ودون حساب أثر خفض سعر الصرف الأخير في مارس 2024م؛ يمكن استنتاج وقوع موجة فقر هائلة على مستوى عائلات الشغّيلة، بهبوط كافة الأسر وحيدة العائل والدخل، بمتوسط أربعة أفراد للأسرة (4.04 حسب تعداد 2017م )، إلى ما دون خط الفقر، بمتوسط 55 دولار للفرد شهريًا، تقل يوميًا عن مستوى 2.15 دولار المُحدد كخط فقر دولي مُطلق، وأقل بأكثر من النصف من مستوى 3.65 دولار المُحدد كخط فقر لمجموعة الدول المتوسطة/منخفضة الدخل التي تنتمي إليها مصر.
وكاتجاه عام، فالمُرجّح هو ضخامة موجات الفقر الناتجة عن التعويمات والتضخم؛ نظرًا لغلبة “ضحالة الفقر” في مصر، أي قُرب فئات اجتماعية واسعة من خط الفقر؛ بحيث يؤدي أي اهتزاز في وضعها المادي إلى وقوعها فورًا لما دونه وانضمامها لصفوف الفقراء رسميًا بالمعايير الدولية شديدة التحفّظ ، يؤيد هذا ما ذكره تقرير للبنك الدولي عن الفقر في مصر من اتساع نطاق “الفئات المُهددة بالفقر”، مُقدّرًا إياها بحوالي 30% من الشعب وفقًا لبحث الدخل والإنفاق لعام 2015م، بخلاف ما يقرب من 27.8% أخرى هي نسبة الفقر الرسمي وقتها؛ ما يمكن تخيّل معناه على صعيد نسبة الفقر الفعلية اليوم بعد كل ما جرى من صدمات تعويمية وتضخمية مما سلف بيانه عبر تسعة أعوام.
وبالطبع لم تعوّض زيادات الأجور التي أقرّتها الحكومة، والتي لا تُطبق سوى على عمال وموظفي الحكومة والقطاع العام وقطاع الأعمال العام، نسب التضخّم وانهيار العملة، خصوصًا أن برامج الصندوق تقشّفية الطابع في جوهرها تفترض ألا تجاري زيادات الأجور معدلات التضخّم؛ ما يعني حتمية انخفاض الأجور الحقيقية؛ ومن ثم مستويات المعيشة عمومًا، والحصص الدخلية للفئات العاملة خصوصًا.
لا عجب في تلكؤ الأجهزة الحكومية في إصدار تقارير بحث الدخل والإنفاق الأخيرة، كما رصد أحد التقارير الصحفية مؤخرًا ، من عدم انتظام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في إصدار آخر بحثين، حيث أصدر بحث 2017/2018 في يوليو 2019م، وأصدر بحث 2019/2020 في ديسمبر 2020م، فيما لم يصدر بحث 2021/2022 حتى تاريخه (مارس 2024م)، ما أكّد مصدرطلب عدم ذكر اسمه أنه ليس لأسباب فنية، وأن «الإجابة ممكن تودينا في داهية»، ما يدعمه ما نقلته جريدة البورصة، عن مصادر ذات صلة كما وصفتها، بأن بحث الدخل والإنفاق لعام 2019/2020 كان قد انتهى منذ فبراير 2020م، وما آخّر صدوره عشرة أشهر كاملة كان اعتراض جهات عُليا ارتأت في ارتفاع معدل الفقر تعارضًا مع الإنجازات التي قامت بها الدولة في العامين اللذيّن غطّاهما البحث.
مع ذلك تشير التقديرات الأحدث التي نقلها البنك الدولي عن مراسلاته الخاصة مع الحكومة المصرية -بمناسبة طلبها لقرض جديد- إلى ارتفاع نسبة الفقر إلى 32.5% عام 2022م ، والتي تظل أكثر تحفظًا من تقديرات هبه الليثي مستشارة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي بوصول نسبة الفقر إلى 35.7% ما بين عاميّ 2022 و2023م ، والتي سبّق وحمّلت برنامج الإصلاح الاقتصادي مع الصندوق عام 2016م مسئولية ارتفاع نسبة الفقر بحوالي 4.7% لم تكن حتمية بأيّ حال .
وتؤكد هذه التقديرات المحدودية الشديدة للآثار التعويضية لبرامج الحماية الاجتماعية؛ بالنظر إلى التدهور الذي مسّ دخول عشرات الملايين من المصريين، مقابل تغطية فقط 5.2 مليون مستفيد من برنامج الدعم النقدي عام 2022م مثالاً، والذي يستهدف الفئات الأولى بالرعاية حسب اسم البرنامج، بمبالغ شديدة الضآلة تبدأ من 325 جنيهًا في الشهر ، تعادل بأسعار وقتها حوالي 11 دولارًا لا غير، لا تكفي احتياجات أسبوع واحد بمعيار الخط الفقر الدولي.
وقد ارتفعت المصروفات العامة على إجمالي برامج الحماية الاجتماعية بالموازنة العامة اسميًا من 264.4 مليار جنيه في العام المالي 2018/2019م إلى 529.7 مليار جنيه في العام المالي 2023/2024م ، بارتفاع بنسبة 100% تقريبًا، لكنها تنخفض بحسابات القيمة الحقيقية؛ حيث تظل متأخرة عن نسب التضخّم وتدهور سعر الصرف، فعلى مستوى الأخير فقط، ارتفع سعر الدولار، الذي يعمل كمقياس ومخزن للقيمة في مصر؛ كبلد مرتبط نقديًا بالدولار ومرتفع الميل الاستيرادي، من حوالي 16 جنيه عام 2018م إلى أكثر من 47 جنيه منتصف مارس 2024م، بإجمالي نسبة ارتفاع 193%، تتجاوزها معدلات التضخّم النهائية على مستوى أسعار المستهلك النهائي؛ بفعل قنواته الأخرى.
وكما سبق وأدى برنامج الإصلاح الاقتصادي في التسعينيات إلى انخفاض نسبة مشاركة المرأة في قوة العمل من 24.5 إلى 21% منها خلال عشرة أعوام 1992-2002م، أدى الاتفاق الأحدث مع الصندوق إلى انخفاضها مرةً أخرى، بعد تعافيها منذ أوائل الألفية، من 24.5 % من قوة العمل عام 2017م إلى 17.4% منها عام 2020م، بانخفاض بنسبة 29% دفعةً واحدة خلال ثلاثة أعوام فقط، قبل أن تعاود التحسّن قليلاً إلى 18.6% عام 2023م .
وهو الانخفاض المفهوم على ضوء ما تتطلّبه برامج التثبيت مع الصندوق من خفض للتشغيل الحكومي الذي تفضّله نساء الطبقة الوسطى في مصر، علمًا بأن هذا الانخفاض يمثّل على الأرجح محصّلة لاتجاهين متناقضين من الانخفاض والارتفاع في توظيف النساء في نفس الوقت، أي انخفاض نسبة عمل نساء الطبقة الوسطى مقابل ارتفاع نسبة عمل نساء الطبقات الفقيرة الأدنى تحت ضغط تدهور دخولهم وأوضاعهم المعيشي مع صدمة التعويم الكبيرة عام 2016م؛ لتكون المحصّلة الكلّية على هذا الصعيد تراجع نسبة مشاركة المرأة بقوة العمل كمّيًا، وتراجع نسبة العمل اللائق –على الأرجح- ضمن جُملة عملها كيفيًا.
ومنطقيًا، تزامن كل ذلك مع تراجع مؤشرات الشمول والحوكمة، فحسب تقرير الرخاء العالمي الصادر عن معهد ليجاتوم ، تراجعت مصر على مستوى المؤشر العام من المرتبة 119 إلى المرتبة 121 (من 167 دولة) عالميًا خلال العقد 2013-2023م، ما يبدو للوهلة الأولى كتراجع محدود، لكن لأن الشيطان يكمن في التفاصيل، فإنه كمتوسط عام يخفي في باطنه حقيقة اتجاهات التراجع والتحسّن في المؤشرات الفرعية، حيث تراجع وثبت المؤشرين الفرعيين «الاحتواء الاجتماعي» و»تمكين الناس»، فيما تحسّن فقط المؤشر الفرعي «انفتاح الاقتصاد» الأكثر أهمية في نظر الصندوق، الذي اكتفي بالأحاديث الإنشائية عن ضرورات الشفافية والحوكمة والمسائلة وما شابه، فيما استمر ببرامج دعم وتمويل الدولة التي شهدت “أضخم تراجع في المسائلة السياسية على مستوى كامل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا طوال العقد الأخير”، على حد وصف التقرير المذكور، والذي تزامن مع تراجعها على مؤشر حرية الصحافة إلى المرتبة 170 (من 180 دولة) عالميًا عام 2024م، لتصبح “من أكبر سجون الصحفيين في العالم” حسب وصف منظمة مراسلون بلا حدود .
وهكذا نجد أنه بينما تحسّن مؤشر انفتاح الاقتصاد بثلاثة وعشرين مرتبة طوال العقد، وثبت مؤشر تمكين الناس عبر نفس العقد، تراجع مؤشر الشمول الاجتماعي باثنتى عشر مرتبة كاملة، لتصبح مصر في المرتبة 158 (من 167 دولة) عالميًا عام 2023م، وبتراجعات أكبر على مستوى المؤشرات الثانوية المكوّنة له، كالحوكمة والحرية الشخصية وغيره.
ولاشك في انعكاس كل ذلك على مؤشرات الرضا الاجتماعي والسعادة العامة، فيسجّل تقرير السعادة العالمي، الصادر عن شبكة حلول التنمية المُستدامة المدعومة من مؤسسة جالوب الأمريكية، تراجع مصر من المرتبة 104 عالميًا (من 155 دولة) بتقييم 4.73 متوسط الفترة 2014-2016م، إلى المرتبة 121 عالميًا (من 137 دولة) بتقييم 4.17 متوسط الفترة 2020-2022م، ما يعني هبوطها إلى الفئة الدنيا التعيسة على المؤشر تحت تقييم 4.5، وقُرب العُشر الأدنى منه عالميًا .
أبرز التعقيدات النقدية والمالية لبرامج الصندوق في مصر:في كتابه «التثبيت والتكيّف في مصر: إصلاح أم إهدار للتصنيع؟» ، الذي صدر لأول مرة بالإنجليزية عام 2001م، قدّم جودة عبد الخالق في الثلاثة فصول الأولى تقييمًا شاملاً لبرنامج التثبيث الاقتصادي والإصلاح الهيكلي الذي نفّذته مصر في التسعينيات، والذي يعتبر أكمل وأنجح اتفاق لمصر مع الصندوق والبنك بالمقارنة بأي اتفاق آخر، إنطلاقًا من أهدافه الأساسية على الأقل.والمُفارقة أن أيّة قراءة في هذا العمل الذي مرّ عليه عقدان، وعلى البرنامج -الذي عني بتقييمه- ثلاثة عقود، تعطيك شعورًا بأن لا شيء جوهري قد تغيّر أو اختلف من حينها، اللهم إلا في مدى حدّة وسرعة أو مرونة وتدريجية التطبيق الحكومي لبعض الإجراءات ، وبعض التفاصيل الفنية والإجرائية التي لا تغيّر من جوهر الأمر شيئًا.
فلم تختلف العناصر الأساسية لبرامج الصندوق، حتى أنه يصعب التمييز الجوهري بين برامج الثمانينيات والتسعينيات وبرامج العقدين الثاني والثالث من الألفية، فهى نفسها تقريبًا عناصر تحرير سعر الصرف ومعالجة التضخّم وخفض عجز الموازنة والدين العام وخفض التدخل الحكومي بالاقتصاد وتوفير حماية اجتماعية لتعويض الآثار السلبية للبرامج على الفئات الأفقر. والحقيقة أن بعضها كأهداف شديدة العمومية تبدو كأهداف لا غبار عليها، خصوصًا في سياق تبنّي اقتصاد حر، بل إن بعضها هو من أوّليات الرشادة الاقتصادية والإدارية عمومًا في أيّ دولة حديثة، لكن المشكلة دائمًا في الحلول التنفيذية المطروحة لتحقيقها، التي تنطلق من عموميات لا تراعي الحاجات والمتطلبات التنموية والاجتماعية الخاصة بالمجتمعات المعنية؛ ما يجعل حتى حسن النيّة منها عقارًا سامًا، فما بالك بسيء النيّة منها!
ولابد من الإشارة هنا لاتباع الصندوق لأسلوب ملتوي لفرض إملاءاته دون تحمّل مسئولية قانونية عنها ، حيث لم يعد يُعد برامجًا يتحمّل مسئوليتها بالمشاركة مع الحكومات، بل يطلب من الأخيرة التقدم بخطابات نوايا ببرامجها الإصلاحية، ويظل الصندوق يرفض المُقدم منها، ويفاوض على تفاصيله، حتى يصل إلى الصيغة النهائية التي يريدها، والتي أصبحت مشروطية معروفة لشدة ثبات واستقرار عناصرها الأساسية وخطوطها العريضة، حدّ وصفها الاقتصاديون المصريون بـ «الشربة”.
المهم أننا نواجه اليوم تقريبًا، بعد عدة اتفاقات مع الصندوق منذ 2016م، نفس الإشكالات التي كانت سببًا في عدم تحقيق برنامج التسعينيات المذكور لأهم أهدافه.
فلم ينجح خفض سعر الصرف في زيادة الصادرات أو خفض الواردات بشكل جوهري؛ لمحدودية انطباق شرط مارشال-ليرنر على الاقتصاد المصري، والذي ينصّ على أن خفض قيمة العملة الوطنية يؤدي إلى تحسين الميزان التجاري إذا كان مجموع كل من مرونتيّ الطلب المحلي على الواردات والطلب الخارجي على الصادرات أكبر من الواحد الصحيح، وقد أجمعت الدراسات تقريبًا على عدم انطباق الشرط المذكور على الحالة المصرية؛ لضعف مرونة العرض الإنتاجي في مصر؛ ومن ثم صعوبة زيادة الصادرات السلعية كاستجابة لانخفاض الأسعار النسبية، حتى في حال زاد الطلب عليها، كذا لضعف مرونة الطلب على الواردات؛ كون جزء معتبر منها سلع غذائية ومستلزمات إنتاج وسيطة، يصعب التخلّي عنها مع عدم وجود بدائل محلية عاجلة، وكانت أكثر النتائج الإيجابية تفاؤلاً، في دراسة غطّت الفترة 1960-2020م، هى انطباق الشرط على الاقتصاد المصري، ومن ثم إمكانية تحسينه للميزان التجاري، لكن فقط، في الأجل القصير لا غير .
مع فرض حرية انتقال رؤوس الأموال كجزء من الممارسات النيوليبرالية، تواجه مصر الثلاثية المستحيلة المُتمثلة في استحالة الجمع المُتزامن بين سعرصرف مستقر وسياسة نقدية مستقلة مع حرية انتقال رؤوس الأموال
أما الأكثر تشاؤمًا، فلم تكتف بالإشارة إلى انخفاض أو عدم معنوية مرونات الطلب على الصادرات المصرية؛ لارتفاع التنافسية الدولية فيها بحكم تخلّفها النوعي، أو لاعتمادها على أسعار دولية كصادرات النفط وما شابه بنسبتها المعتبرة؛ ومن ثم محدودية استجابتها لانخفاض سعر الصرف؛ ومن ثم عدم قدرته على تصحيح العجز الجاري، بل أضافوا ضررًا آخر لهذا الخفض، هو رفعه لتكلفة رأس المال، عبر قناة المُستلزمات الوسيطة المُستوردة؛ بما يعنيه من تثبيط الاستثمار والإنتاج؛ ومن ثم ترتيب مزيد من الانكماش على جانب العرض ؛ أي مفاقمة المشكلة التي يحاول الخفض معالجتها من الأساس.
ما يزيد الأمر صعوبة هو مواجهة مصر لخليط نقدي متفجّر يؤدي للخفض المستمر لسعر الصرف، ويزيد من عدم فعاليته في ذات الوقت.
فمع فرض حرية انتقال رؤوس الأموال كجزء من الممارسات النيوليبرالية، تواجه مصر الثلاثية المستحيلة المُتمثلة في استحالة الجمع المُتزامن بين سعرصرف مستقر وسياسة نقدية مستقلة مع حرية انتقال رؤوس الأموال، فالتمسّك بأي اثنين منها يعني التخلّي حتمًا عن الثالثة.
وهكذا فمع حاجة البلد للحفاظ على سعر صرف الجنيه مستقرًا؛ بالنظر لأهميته لاستقرار التعاملات وطمئنة الاستثمار الخاص عمومًا، ولاستقرار الميزان التجاري ومستويات الأسعار في بلد مرتفع القاتورة الاستيرادية خصوصًا، قإنها تضطر للإبقاء على أسعار الفائدة المحلية مرتفعة لجذب رؤوس الأموال والحفاظ عليها من الخروج من البلد؛ ما يسهّل عمليات مراجحة الفائدة فيجذب الأموال الساخنة بكل ما تسبّبه من هشاشة مالية وعدم استقرار اقتصادي ينفجران مع أي أزمة داخلية أو خارجية، كما حدث فعليًا في الربع الأول من عام 2022م؛ بما يجبر البلد على خفض سعر الصرف لمعادلة أوضاع العرض والطلب ما بين العملة الوطنية والنقد الأجنبي.
كذا تؤدي هذه الأرصدة المتوافرة من النقد الأجنبي بإغراء عمليات المراجحة، مع ما يُصدر بفضل وجودها من سيولة محلية، ومع سعر الفائدة المرتفع نفسه ابتداءً، إلى ارتفاع معدلات التضخّم المحلية؛ بما يضعف تنافسية الاقتصاد وقدرته التصديرية ويزيد ميله الاستيرادي؛ فضلاً عما ينتجه من أعراض تشبه المرض الهولندي من تشوّه الأسعار النسبية وتخصيص الاستثمارات وتقلّص التصنيع وتعطّل الطاقات الإنتاجية وانكماش نشاط القطاع الخاص؛ بما يفاقم بالتبعية مشكلة العجز التجاري ويعقّد إمكانات معالجتها؛ فتضيع المزايا القليلة لخفض العملة السابق، وتصبح البلد في وضع يتطلّب خفضًا جديدًا لسعر الصرف؛ لمعالجة أوضاع التوازن الخارجي.
ولمواجهة ذلك التضخّم المُحتمل عن توسّع السيولة بفعل هذه التدفقات الإيجابية من النقد الأجنبي، تقوم الحكومة بتعقيمها بشرائها ومراكمتها ضمن احتياطيات النقد الأجنبي بالبنك المركزي؛ ما يضطرها لإصدار سندات خزانة قد تتجاوز الحاجات التمويلية؛ ليتفاقم حجم الدين العام المحلي وفائض السيولة العاطلة بالجهاز المصرفي، مقابل تلك الاحتياطيات ، التي يمثّل تجاوزها للحد الآمن، المُقدّر بستة أشهر من الواردات، تكلفة إضافية قدّرها البنك الدولي عن فترة التسعينيات بما تراوح ما بين 1 و2% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا، تمثّل الفارق ما بين العوائد التي حصل عليها البلد من القدر الزائد عن حاجته من النقد الأجنبي، وما تكلّفه من دين محلي لشراء ذلك القدر منه .
من جهة أخرى، فإن رفع سعر الفائدة يرفع أعباء خدمة الدين العام المحلي؛ فيثقل الموازنة العامة بمزيد من الضغط التمويلي، بما يعقّد شروطه ويرفع تكلفته، فتتفاقم مشكلة الدين العام بكافة آثارها، بما يضعف المالية العامة والأداء الاقتصادي الكلي، ويرفع معدلات التضخم فيضغط على سعر الصرف الفعلي؛ ليعزّز بمجموعه حلقة خبيثة ما بين التغذية الذاتية للمديونية والخفض المتتالي للعملة.
إعادة اكتشاف العجلة: صندوق الدائنين ووكيل الدولارقبل ثمانية أعوام تقريبًا، كانت تقارير البنك الدولي تبشّر سريلانكا بإنهاء الفقر والرخاء العظيم القادم، بعد أن بدأت بتطبيق برامجه والأخذت بنصائحه هو وشقيقه صندوق النقد، الثابتة ثباتًا لاهوتيًا في خطوطها العريضة، رغم تاريخها الطويل في الفشل وإغراق الدول واحدةً تلو الأخرى في مزيد من المشاكل التي لجأت لهما لحلها، والتي نرى اليوم ما انتهت إليه.
ويبدو أن الأمر لا يختلف كثيرًا أو قليلاً مع مصر، فبحسن أو سوء نية، يحدثّنا نفس إصدار تقرير «مرصد الاقتصاد المصري» الصادر في ديسمبر 2022م، عن كيف مكّنت الإصلاحات، التي نفذّتها الحكومة منذ عام 2014م، البلاد من دخول الأزمات المتتالية بوضع أفضل لحسابات المالية العامة وباحتياطيات نقد أجنبي «وافرة» ، ولسنا بحاجة لتوضيح حجم التدليس والمُفارقة في هذه التصريحات حتى لو اكتفينا بمجرد المشاهدات المباشرة، من التدهور المُتسارع للجنيه المصري في العامين الأخيرين؛ بسبب تأزّم أوضاع المالية العامة وشُحّ احتياطيات النقد الأجنبي تحديدًا.
والواقع أن تاريخ الصندوق لا يخلو من الفضائح، سواء بغياب الشفافية في كثير من المواضع، كما يتجلّى في عدم علنية مضابط المفاوضات مع المسئولين كما في المفاوضات مع مصر، أو التسييس المُفرط مع إدعاء كاذب بالحياد والنزاهة، كما يظهر في تزامن اتفاقاته وبرامجه مع أثمان سياسية تقدمها الدول المستفيدة، كما تؤكد التجربة المصرية المرة تِلو المرة، أو حتى، أخيرًا وليس آخرًا، بالتلاعب الصريح بالبيانات .
لكن بعيدًا عن التكهّنات السياسية، أثبتت دراسة دريهر وزملائه عن الاقتصاد السياسي لتنبؤات الصندوق، والتي غطّت بيانات 157 دولة طوال الفترة 1999-2005م، انحياز توقّعات الصندوق لمعدلات النمو والتضخّم، فمالت توقّعاته للتضخم للانخفاض في الدول التي تصوّت إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية في اجتماعات الأمم المتحدة، وبالمثل للدول التي حصلت على قروض كبيرة منه؛ بما يعني حسب وصفه ميل الصندوق لنهج «التنبؤ الدفاعي»، وذهبت دراسة ألدينهوف لما هو أبعد، حيث أكدت تشويه الانحياز السياسي للتوقعات الاقتصادية للصندوق، وميله للتفاؤل النسبي في توقعاته النمو طويل الأجل للاقتصادات الصناعية، والميل الزائد للتفاؤل في توقعاته للاقتصادات النامية، أما الادهى، فهو ظهور علاقة معنوية بين أخطاء التنبؤ وصافي الائتمان الممنوح من الصندوق؛ بما يدعم الفرضية بميل موظفيّ الصندوق لشرعنة ممارساتهم الائتمانية بتوقعات مُفرطة التفاؤل.
من جهة أخرى، فأكثر ما يهم الصندوق هو الفتح الرأسمالي لمزيد من الاقتصادات والأسواق وتعزيز مواقع الرأسمالية المالية بها؛ لضمان استتباعها ضمن منظومة النقد والمال الغربية بالأساس، بغض النظر عن مدى نجاعة أو جدوى برامجه للدول المعنية، أو بالأحرى الضحايا، يؤكد هذا، كما لاحظ أرنست فولف ، منحه قروضًا عالية المخاطر لبلدان يعلم جيدًا مدى سوء أوضاعها المالية والاقتصادية وعدم قدرتها المُزمنة على سداد التزاماتها؛ ليس عن دوافع خيرية بالتأكيد، بل لاستدراجها لفخ المديونية؛ لتمكين الرأسمالية المالية الدولية من الحصول منها على تنازلات ما كانت ستقدّمها أبدًا في الظروف العادية، وما بيع مصر المتصاعد لأصولها المالية وأراضيها الوطنية سوى إحدى تجلّيات هذه الممارسات التقليدية للصندوق، الذي كان يصل لحدّ التنازل عن قروضه لهذه البلدان إذا ما ضمن التزامها باشتراطاته على أصعدة السياسات الاقتصادية المختلفة.
ولعلّ هذا الدور الأخير، الذي حدّده البعض بشكل أكثر تحديدًا بالدور المتخصص للصندوق كوكيل عن، ومؤسسة لإدامة، الهيمنة النقدية للدولار الأمريكي ، هو ما يفسر ما أثار عجب كثير من الخبراء من ربط مصر الجنيه بالدولار منذ التسعينيات، رغم كونه الاختيار الأسوأ في ظل وجود اختيارين أفضل كالربط بسلة عملات أكبر الشركاء التجاريين للبلد، وكالربط بحقوق السحب الدولية الخاصة التابعة للصندوق نفسه، وكيف كان أيّ من الخيارين سيؤدي لدرجة أكبر من الاستقرار، ودرجة أقل من الإضرار بالسياسة النقدية والاقتصادية والموقف التجاري لمصر؛ مع الاختلاف الهائل كمّيًا وكيفيًا بين الاقتصادين المصري والأمريكي؛ ومن ثم في مصالحهما والسياسات المناسبة لكلّ منهما، كما أشار –للمفارقة- خالد إكرام مدير مكتب البنك الدولي بمصر لأكثر من ربع قرن .
لقاء اللِئَام: تزاوج أنماط التراكم والتشويه
تضافرت هذه الأولويات لدى الصندوق مع تطبيق أحادي الجانب من طرف الحكومة المصرية، فعندما يتعلّق الأمر ببرامج ومطالب صندوق النقد والبنك الدولي بالإصلاح الاقتصادي في مصر، يلتزم النظام الحاكم فقط بما يتحمّله الشعب ويتمسّك بالاستقلال الوطني فيما يمسّ مصالحه الطبقية؛ لينتهي الأمر بطبقات الشعب العامل كالأيتام على موائد اللئام أو الفريسة التي يتداعى عليها اللصوص تداعي الأكلة إلى قصعتها.
فمن جهة، البرامج التي تطلبها هذه المنظمات لا تعبّر أساسًا عن متطلبات وظروف الاقتصادات النامية، بإطار نظري تقشّفي ضار بالتصنيع والتنمية، فلا تراعي الأولويات التنموية ولا الأبعاد الاجتماعية، بل تنطلق أساسًا وجوهريًا من مصالح الدائنين وملّاك الصندوق، سواءً اقتصادية أو سياسية، خصوصًا مع عدم شفافية كثير من اتفاقاته وعدم علنية مضابط أغلب اجتماعاته مع المسئولين المحليين.
ومن جهة أخرى، لا تطبّق أغلب الأنظمة الحاكمة من هذه البرامج سوى ما يمسّ الشعوب، ولا يتعارض مع استقرارها السياسي ومصالح شبكاتها المهيمنة، بل وقد تعمل كحليف للدائنين، لا كوكيل عن الشعوب؛ يدعم هذا عدم اهتمام الصندوق باعتبارات الديموقراطية الشعبية والتمثيل السياسي للأنظمة التي يتعامل معها، بل هو مشهور بتعامله مع بعض أكثر الأنظمة الانقلابية ديكتاتورية ووحشية في التاريخ.
لا تطبّق أغلب الأنظمة الحاكمة من هذه البرامج سوى ما يمسّ الشعوب، ولا يتعارض مع استقرارها السياسي ومصالح شبكاتها المهيمنة، بل وقد تعمل كحليف للدائنين، لا كوكيل عن الشعوب
وقد شهد تطبيق البرامج الأخيرة في مصر، كالعادة، تزامن تطبيق ما يخصّ الشعب من بنود، كلها أعباء بالطبع، من خفض لسعر الصرف وتقليص متسارع للدعم ورفع لأسعار الطاقة وفرض لضرائب ورسوم جديدة وخلافه، مع تجاهل تام، وصل حد المناقضة، لكافة الإصلاحات الهيكلية المتعلّقة بالأُطر القانونية والمؤسسية للاقتصاد؛ كالتوسّع في الصناديق الخاصة في تجاهل صارخ لمبدأ وحدة الموازنة العامة الذي يُعد أحد قواعد المالية العامة الحديثة، وكوضع قوانين لتخصيص المشروعات بالأمر المباشر بما يتعارض مع أبسط قواعد الكفاءة والنزاهة العامة ويفتح بابًا واسعًا حتميًا للفساد، وكالتوسّع في الأنشطة الاقتصادية برعاية مؤسسات سيادية بعيدًا عن أيّ رقابة أو محاسبة، ودون أيّ درجة من العلنية أو الشفافية، مما يُفترض أن يخضع له المال العام في أيّ دولة حديثة.
وهكذا، فبدلاً من أن تكون البرامج المُطبقة مُتسقة منطقيًا وبنيويًا بما يكفل لها أيّ قدر من النجاح الفني، بفرض جدلي بصحتها ابتداءً، وبدلاً من أن تستفيد الشعوب بمعالجة أوجه عدم الكفاءة الناتجة عن مصالح شبكات الفساد والبيروقراطية المحلية، فإنها في الواقع تدفع أثمانًا مُزدوجة لتزاوج مصالح الاثنين، فتدفع فاتورتها كاملة بفعل تكاليف البرامج المذكورة، وتظل تدفع فواتير أنظمتها ونخبها الطبقية والسياسية المتخلفة والفاسدة، دون أن تحصّل أيّ عائد بفعل عدم معالجة البرامج للمشكلات الحقيقية بالاقتصاد، المُتصلة بمصالح تلك النخب.
بصيغة أخرى، تنتهي برامج الصندوق في مصر لتزاوج نمطيّ تراكم واستغلال يتطفّلان على دماء الاقتصاد المحلي، من جهة نمط التقشّف والأمولة الذي يخطف الموازنة العامة والعملة الوطنية من المواطنين؛ ليحوّل مواردها عن الاستثمار العام والإنفاق الاجتماعي لصالح خدمة ديون رأس المال المالي داخليًا وخارجيًا، فضلاً عما ينهبه من أصول بأثمان بخسة مقابل ما لا يتم سداده منها، ومن جهة أخرى نمط أقرب للتراكم البدائي قائم على نوع من الإقطاع البيروقراطي المحاسيبي الذي يخطف السوق المحلي بسلطات الدولة القهرية لخلق ريوع احتكارية لهذا التحالف ما قبل -أو شبه- الرأسمالي .
والطامة الكبرى أنه بسبب هذه التناقضات، ينهار الرهان الأهم لكل هذه البرامج، وهو تشجيع الاستثمار الخاص، المحلي والأجنبي؛ لتفشل ولا تحقّق أيّ نتيجة إيجابية، وكما أشار نزيه الأيوبي ، لا يؤدي تطبيق برامج تقشّف في ظل نظام حكم بيروقراطي-سلطوي إلا لزيادة الكُلفة على المُستهدفين، وزيادة احتمالات حدوث ركود وانكفاء تجاريين.
فمن جهة النمط الأول، يؤدي تعميق الأمولة، أو تطوير القطاع المالي، لاقتصاد محدود التصنيع ومتخلّف الأساس العيني، إلى حالة عدم استقرار وتشوّه للأسعار النسبية وهياكل الأرباح لصالح الاستثمارات الخدمية والخفيفة قصيرة الأجل على حساب الاستثمارات الإنتاجية، ما يؤدي مع استدامة التضخّم وتحوّله للاعب مستقل، إلى تشوّه كامل لأنماط تخصيص رؤوس الأموال ولتفاقم الميل إلى المضاربة؛ ليصبح تطوّر القطاع المالي وبالاً على تطوّر القطاع الإنتاجي، و»بدلاً من أن يعمل على إنعاشه، إذا به يساعد على الإخلال بنظامه، إن لم يكن اضمحلاله»، ولا يجد النظام الاقتصادي بمجموعه طريقةً للاستمرار في مواجهة معضلة الاقتطاع المالي من فائض القيمة دونما إضافة إليه في سياق ركودي، سوى الضغط المتزايد على الأجور الحقيقية .
ومن جهة النمط الثاني، لا تكفي الحوافز المالية والنقدية التقليدية من ضبط سعر صرف ومن معاملة ضريبية ملائمة وتقليص للإجراءات الإدارية وخفض للرسوم الحكومية وللأجور الحقيقية وغيرها، لجذب الاستثمار الأجنبي، ولا حتى تشجيع المحلي بما يكفي، في ظل سياق مؤسسي احتكاري محاسيبي مُشوّه، يتراجع فيه حكم القانون والشفافية العامة والرقابة البرلمانية واتساق السياسات ..إلخ؛ بشكل لا يستطيع معه توقّع المستقبل لبناء إستراتيجياته وإدارة حساباته، ولا الاطمئنان لوجود قوانين ومؤسسات محايدة نزيهة تضمن له الحصول على حقوقه واستعادة استثماراته، حال الخلاف مع أيّ مؤسسة قوية أو جهة ذات حظوة.
يعني هذا تراجعًا، ظهرت بوادره بالفعل، في الاستثمار الخاص الإنتاجي عمومًا، بما فيه المكوّن المحلي القائم؛ ومن ثم زيادة مضطردة في الوزن النسبي للمكوّن الاحتكاري البيروقراطي المذكور، الذي لا علاقة له بمفهوم القطاع العام بأيّة صورة، ومن ثم تدهور معدلات الإنتاج والتشغيل والنمو، وتعاظم دور آليات الدولة والهيمنة البيروقراطية في إنتاج الثروة وتراكم رأس المال؛ أي تعزيز نمط التراكم البدائي المذكور، والذي خلافًا لنظيره في بواكير الرأسمالية، لا يجد أسواقًا خارجية واسعة لمنتجاته؛ مع تخصص مصر في منتجات محدودة العمق التصنيعي والقيمة المُضافة؛ فتكون النتيجة ركودًا أميل للانكماش على المستوى الكلي.
ويعني ذلك ضمنيًا محدودية عوائد الاستثمارات الهائلة التي تحُقن في مشاريع البنية التحتية، التي أصبحت جوهر الممارسة التنموية والدور الاستثماري الوحيد للحكومة في مصر برعاية برامج الصندوق والبنك الدوليين، والواقع أنه يمثل وجه آخر للقاء اللِئَام، فمن جهة هو يمثّل وجهة نظر النيوليبرالية عن دور الدولة في التنمية باعتباره تمهيدًا للاستثمار الخاص ببنية تحتية ملائمة، فيما يلائم من جهة أخرى الأنظمة السياسية التي توزّع هذه المشروعات الكبرى وأراضي الدولة على شبكاتها المحاسيبية (ونذكر في هذا السياق القوانين والقرارات الحكومية بالسماح بالتعاقد بالأمر المباشر تعديلاً على قوانين المناقصات والمزايدات التقليدية )، كما يمثل بالنسبة لها شكلاً من التنمية الاستعراضية في مشاريع كبرى ملموسة ظاهرة للعيان، تعمل كسياسة دعاية ورأسمال سياسي، وهى للمفارقة الساخرة، كتاريخ يعيد جدّه هزلاً على قول ماركس، ممارسة اقتصادية/سياسية أخذت صورتها الكاملة لأول مرة على أيدي النازيين قبل الحرب العالمية الثانية، حد اعتبرها البعض أحد الروافع الأساسية لتعاظم شعبية هتلر وتعزيز استقرار نظامه.
وقد لا يتوقّف الأمر على مجرد محدودية عوائدها، بل قد تغدو هذه الاستثمارات الهائلة في البنية التحتية مجرد إنفاقًا استهلاكيًا مُكلفًا إن لم تؤد لزيادة معنوية في الاستثمار، أو تصبح في أحسن أحوالها استثمارات سيئة إن حقّقت تلك الزيادة بوتيرة غير ملائمة اقتصاديًا وماليًا؛ بما يطيل فترات الاسترداد ويُخالف آجال الاستحقاق فيضعف الجدوى الاقتصادية بالعموم؛ فحتى الجدوى الاقتصادية تكتسب قدرًا من معناها ضمن ملاءمة زمنية وأولوية اجتماعية؛ فليس كل ما هو مُجد اقتصاديًا ملائم اجتماعيًا، ولا حكمة في جدوى اقتصادية طويلة الأجل مُنفصلة عن السياق الزمني المأزوم ماليًا، فلا تُراعى المواءمة بين عوائد الاستثمار واستحقاقات التمويل؛ لتنتهي لبيع أصول قيّمة ومنتجة فعليًا لتغطية تكاليف تمويل أصول لا يوجد ما يضمن أن تكون أكثر جودة (كما فعلت مصر عبر العامين الماضيين)، ناهيك بالطبع عن الموازنة ما بين المنافع طويلة الأجل والتكاليف قصيرة الأجل، التي تُبرّر بها التضحيات المطلوبة من أجيال كاملة اليوم؛ فلا يُعقل أن تنخفض مستويات معيشة الأجيال الحالية بما يصل بأبسط التقديرات إلى نحو 50% وأكثر خلال عقد واحد، فقط لتمويل مشروعات بنية تحتية، تشير التقديرات الكمّية عن العقدين الماضيين إلى المحدودية الشديدة لعوائدها، فزيادة بمقدار 1% في الطرق والسكك الحديدية والاتصالات مثالاً، لم تُزِد نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي سوى بنسب 0.03% و0.02% و0.02% على التوالي .
يعيد كل ذلك تأكيد الحقيقة التاريخية والحكمة الاقتصادية، لا تمثّل قلة الموارد أصل ولا جوهر أزمة الاقتصاد المصري، بل الاختلال السياسي والاجتماعي بآليات اتخاذ القرار الاقتصادي، وإلا لكانت المئة وعشرون مليار دولار التي حصلت عليها مصر –كأدنى التقديرات- خلال فترة البحث قد فعلت شيئًا أفضل كثيرًا مما وصلنا إليه، فعلى سبيل المقارنة، بلغ حجم مشروع مارشال، الذي نهض بكامل أوربا الغربية، بسكانها البالغين وقتها 135 مليون نسمة، وبعد كل دمار وديون الحرب العالمية الثانية، فقط 203 مليار دولار بأسعار 2019م.
فالأزمة الحقيقية، المُنتج النهائي لذلك الاختلال المذكور، هي في ثنائية “الهيكل الإنتاجي” شبه الصناعي المُنحرف ريعيًا، الذي تناولناه في أول الورقة، بتخلّفه الفني والاجتماعي وتبعيته الجيوتاريخية وتشويهه لآليات التخصيص الإنتاجي، و”الإطار المؤسسي” الاحتكاري المحاسيبي، الذي يمثّل نمط التراكم المذكور آنفًا جوهر وجوده، بإدارته غير التنموية للسياسات الاقتصادية الكلّية وتبديده للفائض الاقتصادي، فضلاً عن تفاعلهما اللاتنموي الذي يُديم وجودهما معًا بدعم خارجي مستمر مع كل تأزّم.
وقد قدّم عمرو عادلي مساهمة مهمة بشأن دور ذلك الجانب المؤسسي، في عمله المُقارن ما بين مصر وتركيا، الذي فسّر فيه اختلاف نتائج برامج التحرير الاقتصادي فيهما بينهما، على صعيد إعادة هيكلة الصادرات خصوصًا، بغياب أولوية الإصلاح المؤسسي والرغبة في إبقاء الأوضاع على ما هي عليه في الحالة المصرية، مقابل تقاطع مصالح النخب الحزبية الحاكمة في تركيا مع إصلاح المؤسسات على النحو الضروري لإعادة هيكلة الصادرات؛ ما أرجعه إلى الحالة السلطوية في مصر مقابل الديموقراطية في تركيا، ووريعية موارد دخل الدولة في مصر مقابل ضريبيتها في تركيا، ووجود قطاع خاص قوي في تركيا ما قبل برنامج التحرير الاقتصادي، فضلاً عن عوامل خارجية ساعدت على الإصلاح المؤسسي في تركيا .
ومن المهم الإشارة في هذا السياق لدور العامل الخارجي مُمثلاً في نظرة القوى الإمبريالية لمصر كـ “دولة وظيفية» تلعب دورًا إقليميًا في الاستقرار ضمن الهيمنة الأمريكية ولضمان أمن إسرائيل في المنطقة منذ أواسط السبعينيات، وكحاجز أمام الهجرة الأفريقية إلى أوربا مؤخرًا؛ بما يفسّر تساهل الصندوق والدعم الغربي المتكرر والمستمر مع كل أزمة، بالمقارنة بحالات مشابهة لم تنل ذات المعاملة، حتى وإن كانت الشروط تسوء كل مرة عن السابقة عليها، ولازلنا لم نعرف بعد شروط الصفقات الأخيرة كرأس الحكمة وغيرها، وما قد يكون وراء الرضا الأمريكي/الأوربي/الخليجي المفاجئ على مصر في ذروة أزمتها الأخيرة، من صفقات سياسية يرجح ارتباطها بسلبية الموقف المصري تجاه غزة الأبيّة؛ فليس هناك تفسير آخر لعشرات المليارات التي بدأت بالهطول فجأة على مصر ، بما توافق مع توصية مجلة الإيكونوميست، أوائل فبراير الماضي، بـ «ضرورة إنقاذ مصر رغم عدم استحقاقها الإنقاذ» .
خاتمة: هل في الإعادة –بالضرورة- فن وإفادة؟
كان هذا مسحًا عامًا، مُوجزًا ومركّزًا، لا يزعم أيّة شمولية، للأداء الاقتصادي الكلّي المصري في ظل الاتفاقات الأخيرة مع صندوق النقد الدولي، والأسباب الأكثر جوهرية لتعثّره الواضح، بما يتضمّنه ذلك من دروس مُستفادة لمصر كدولة نامية، وإعادة تأكيد لحقيقة صندوق النقد الدولي كمؤسسة استتباع وهيمنة عالمية.
ولا تمثل مصر حالة خاصة على أيّة حال، فهذا واقع أغلب التجارب الاقتصادية العربية للدول غير النفطية بالخصوص، كما رصدها علي القادري في سياق التحوّلات النيوليبرالية، حيث اتخذت تلك السياسات، وأدت إلى، ستة أبعاد ونتائج مترابطة ، أولاً فتح حسابات رأس المال وتقليص معدلات الفائدة وأسعار الصرف المتعدّدة إلى معدل وسعر واحد؛ ما أدّى إلى ضعف فاعلية السياسات النقدية كأداة تنموية وفقدان السيادة الوطنية عليها، وثانيًا تعاظم اللجوء للاقتراض الخارجي، كنتيجةٍ للآثار السلبية لهذه السياسات على موازين مدفوعات الدول العربية الفقيرة نفطيًا، فكانت النتيجة، ثالثًا، أن ارتفعت علاوة المخاطر ضمن معدلات الفائدة، بسبب مخاطر سعر الصرف ممزوجًة بحالة اللايقين بالمنطقة الناجمة عن الحروب، فامتنعت نتاجًا لكل ذلك تدفقات رأس المال وزادت صعوبة تمويل المشروعات الوطنية، فكان رابعًا، أن انخفض الاستثمار العام نتيجةً للسياسات النيوليبرالية ومتطلبات سياسات الاستقرار قصيرة الأجل في الموازنة العامة وميزان المدفوعات، ثم، خامسًا، ضربت الدولرة (أي تفضيل المواطنين حيازة الدولار بدلاً من العملة الوطنية) الصريحة أو الضمنية سوق النقد تدريجيًا، مُنتزعةً معها قضمةً ضخمة من السيادة النقدية كنتيجةٍ عامة لتدهور وعدم استقرار العملة الوطنية وإحلال الدولار محلّها كمخزن للقيمة، فتراكمت، سادسًا، الآثار الاجتماعية السلبية للتقشّف في الأجل القصير، لتُدفع لتدهور قوّة العمل ورأس المال الاجتماعي في الأجلين القصير والطويل معًا.
والواقع أن مصر لم تكن بحاجة لتكرار مثل هذه التجربة؛ ليس فقط لتجاربها القريبة، بل لأن لها خبرة تاريخية تسبق أغلب دول العالم مع نموذج صندوق النقد الدولي، وهو صندوق الدين الإنجليزي/الفرنسي الذي فُرض عليها أواخر عهد إسماعيل، وسيطر على كافة السياسات المالية والنقدية المصرية لعدة عقود، مُديرًا اقتصادها بالكامل لمصلحة سداد الديون، ومُدمرًا تجربة مصر التعليمية والصحية والاقتصادية عمومًا في حينه، هذا الصندوق كصندوق سداد ديون وفرض سياسات خارجية مثّل دون أدني مبالغة «بروتوتايب» صندوق النقد الدولي، ما يتجلّى فيه مظهر آخر -لكن مؤسف- للريادة والسبق المصريين على صعيدّ التجارب المالية والتبعية العالمية!
وبجمع أطراف الحديث، دونما تكرار للتفصيلات الفنية، يمكن إيجاز أبرز أسباب عدم نجاح برامج الصندوق الأخيرة، كسابقاتها على أيّة حال، وعدم نجاحها عمومًا كأغلب الحالات المماثلة، فى ثلاثة أسباب رئيسية:
أولاً: لا تنطلق صياغتها الفكرية من البداية من ظروف الاقتصادات المتخلفة شبه الصناعية كمصر؛ فلا تراعي الأبعاد الهيكلية الحقيقية لها، كما تختزل المشكلة في مجموعة التوازنات الكلّية، التي يمكن معالجتها في نهاية المطاف بخفض الطلب إلى مستوى العرض، حتى لو كانت المشكلة في قصور العرض المرتبط بحالة التخلّف الإنتاجي، والتي يتم تجاهلها باعتبارها من مسائل الأجل الطويل، وتركها للآمال بقدوم الاستثمار الأجنبي خصوصًا؛ ما يعني بالمُحصّلة تجاهل إشكالية التنمية المركزية، أو إرجائها في أحسن الأحوال.
ثانيًا: يتعامل الصندوق مع مستويين من أولويات الأهداف، تأتي ضمنها مصالح الدول النامية في المرتبة الثانية والأخيرة في أكثر التقديرات تفاؤلاً، إذا يظل الأهم والحاسم بالنسبة له هو الحفاظ على التوازنات الخارجية الضامنة لمصالح الدائنين، وليس المصالح التنموية للاقتصادات الأضعف، وما يجري على ذلك من استثناءات تحرّكه دومًا مصالح سياسية وإستراتيجية للدول المهيمنة على الصندوق؛ ما يعني في نهاية المطاف تركيزه معظم اهتمامه وقوته التفاوضية على ما يتعلّق بمصالح الخارج.
ثالثًا: لا تطبّق الحكومات من هذه البرامج سوى ما تتحمّل تكلفته الشعوب مادام لن يهدّد استقرارها السياسي، فيما تتجاهل بإصرار شبه ثابت أيّ إصلاحات هيكلية قد تمسّ سلطتها أو تتعارض مع مصالح شبكاتها الطبقية والاجتماعية المهيمنة، مهما كانت أهميتها لنجاح البرامج، وحتى ما قد تطبّقه من إصلاحات هيكلية، كالخصخصة وما شابه، لا يخلو من الفساد والمحاباة مما لا يخرج عن قوانين عملها الأساسية كأنظمة سياسية محاسيبية الطابع؛ بما يفرّغ برامج الصندوق مما قد تشمله من جوانب إيجابية محتملة، ويفشلها كليًا في نهاية المطاف.