بسّام بوننّي
صحفي وكاتب تونسي عمل بقنوات الجزيرة وسكاي نيوز وبي بي سي
تشهد تونس منذ ثورة السابع عشر من كانون الأوّل / ديسمبر 2010 حالة من الاستقطاب الحادّ، لم يُنهيها استحواذ الرئيس، قيس سعيّد، على السلطات كافّة، في أعقاب انقلابه على الدستور، في الخامس والعشرين من تموز / يوليو 2021. ولم يحد الوضع الماليّ الخطير الذي تعيشه البلاد، مع تفاقم ديونها الخارجيّة، عن القاعدة. فبالرغم من انحسار هامش الحريّة، إلّا أنّ الانقسام يبدو واضحا فيما يتعلّق بالخيارات الاقتصاديّة التي تسلكها تونس، بشكل عامّ، واللجوء إلى صندوق النقد الدوليّ من عدمه، بشكل خاصّ. وفي هذه الأثناء، يتعاظم النزيف، في ظلّ غياب أيّ رؤية واضحة للمستقبل القريب.
في صيف 2023، لم يُخف الرئيس التونسيّ، قيس سعيّد، تحفّظاته الشديدة على شروط صندوق النقد الدوليّ لحصول بلاده على قرض بـ1.9 مليار دولار، فذهب إلى حدّ وصف تلك الشروط بأنّها ليست إلّا «عود ثقاب مشتعل بجانب موادّ شديدة الانفجار». وأكّد موقفه ذاك، خلال اتّصال مع نظيره الفرنسيّ، إيمانويل ماكرون، بأن نقل إليه، حسب بيان للرئاسة التونسيّة، حرصه الشديد على السلم الأهليّ الذي «لا ثمن له». كما شنّ سعيّد هجمة على وكالات التصنيف الائتمانيّ، فدعاها، منذ تشرين الأوّل / أكتوبر 2021، إلى «ضرورة مراجعة آليات عملها»، مشدّدا على أنّ بلاده «ليست في موقع التلميذ ولا الوكالات في موقع الأستاذ الذي يُسنِد العدد كما يشاء».
وطلب صندوق النقد الدوليّ من السلطات التونسيّة رفع الدعم عن المحروقات والموادّ الغذائيّة الأساسيّة وتقليص كُتلة الأجور في القطاع العامّ وتفويت الدولة في حصصها في عدد من المؤسّسات المتعثّرة. ويخشى سعيّد سيناريو كانون الأوّل / ديسمبر 1983، حين اندلعت احتجاجات شعبيّة قمعتها قوّات الأمن، فيما اصطلح على تسميته بـأحداث الخبز»، عقب إعلان الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة، إلغاء الدعم على الموادّ الغذائيّة الأساسيّة. ولم تستعد البلاد استقرارها إلّا بعد تراجع الحكومة عن قرارها وتدخّل القوّات العسكريّة.
ولم يكن مفاجئا توقّف المفاوضات مع صندوق النقد الدوليّ، عام 2023، للحصول على قرض جديد، حتّى في ظلّ تلويح عدد من الشركاء الاقتصاديين تعليق دعمهم الماليّ لتونس، في انتظار التوصّل إلى اتّفاق. وفسّر سعيّد موقفه بضرورة «عدم التفويت في سيادة البلاد».
وصنّف الصندوق، بداية عام 2024، تونس ضمن قائمة سلبيّة، وهو ما من شأنه أن يُضعف فرص الخروج إلى أسواق المال العالميّة، خاصّة أنّ البلاد لا تزال من بين العشرين دولة الأكثر تداينا من الصندوق.وانضمّت تونس إلى صندوق النقد الدوليّ والبنك الدوليّ في الرابع عشر من نيسان / أبريل 1958.
صنّف الصندوق، بداية عام 2024، تونس ضمن قائمة سلبيّة، وهو ما من شأنه أن يُضعف فرص الخروج لطلب قروض من أسواق المال العالميّة
ولا يَبْدو الرئيس التونسيّ مُدركا لحجم المخاطر التي تتهدّد اقتصاد بلاده، بصرف النظر عن موقفه من التداين، إذ اقترح، في حزيران / يونيو 2023، على حكومته فرض ضرائب إضافيّة على الفئات الاجتماعيّة الميسورة حتّى «لا يخضع لأيّ إملاءات خارجيّة».
أزمة مُركّبة غير مسبوقة
وسعيّد، الذي يملك صلاحيات مُطلَقة، منذ 2021، لا يُقدّم أيّ بديل من شأنه أن ينتشل البلاد من مخاطر الإفلاس. فالمؤشّرات الاقتصاديّة تؤكّد دخول تونس منطقة الخطر، بتحقيق نسبة نموّ اقتصاديّ، خلال كامل سنة 2023، لم تتجاوز 0.4 % واستقرار متوسّط معدّل التضخّم عند 8 %، وارتفاع نسبة البطالة إلى أكثر من 16 %، وبلوغ أرصدة الديون الخارجيّة نحو 80 % من إجمالي الناتج المحلّي للبلاد، أي ما يُعادل 12.3 مليار دولار. وقبل ذلك، انهارت كمّية الواردات من القهوة من 10.8 ألف طنّ، نهاية أيار / مايو 2022، إلى 1.6 ألف طنّ، خلال الفترة ذاتها، عام 2023.
زد إلى ذلك أنّ الحكومة التونسيّة ماضية قُدُما، فعلًا، في تنفيذ شروط صندوق النقد الدوليّ، وإن بطُرُق ملتوية. فلئن لم تلجأ إلى رفع الدعم عن الموادّ الغذائيّة الأساسيّة، فهي أوقفت عمل تلك الآلية، ما أدّى إلى نقص حادّ في عدد من السلع. ويظهر ذلك جليّا في عجز الميزان التجاريّ الغذائيّ، إذ انخفض بنسبة 64 %، في تشرين الثاني / نوفمبر 2023، مقارنة في الفترة نفسها، عام 2022، جرّاء تراجع معظم الواردات، من حيث الكلفة، وفي مقدّمتها القمح الصلب بـ26.6 % والقمح الليّن بـ22.4 % والزيوت النباتيّة بـ22.7 %. وتبنّى الرئيس التونسيّ خطابا يستند لقراءة مؤامراتيّة لتفسير الاضطرابات التي تشهدها السوق المحليّة، باتّهامه أطرافا لا يُحدّدها باحتكار الموادّ الغذائيّة الأساسيّة وتخزينها، خارج المسالك القانونيّة.
كما أنّ الحكومة دعت منذ أيار / مايو 2022 إلى ضرورة تقليص التوظيف في القطاع العامّ، بهدف «مزيد التحكّم في كُتلة الأجور وترشيدها»، مُحدّدة نسبة الترقيات العاديّة بـ20 % فقط، ومُوجّهة نحو «عدم تعويض الشغور وتغطية الحاجيات المؤكّدة بإعادة توظيف الموارد البشريّة المتوفّرة».
والأسباب الرئيسيّة وراء المؤشّرات المُقلقة للاقتصاد التونسيّ هي ارتدادات الأزمة السياسيّة في البلاد والتقلّبات الجيوسياسيّة في المنطقة وفي أوكرانيا وتداعيات أزمة كورونا المُستمّرة إضافة إلى التقلّبات المناخيّة. ولئن كانت النقاط الثلاث الأولى منطقيّة بل ومتوقّعة، فإنّ النقطة الأخيرة لا تزال بعيدة عن مدار اهتمام كثيرين في تونس، بالرغم من دقّ السلطات، نفسها، ناقوس الخطر، إذ قدّرت وزارة البيئة، عام 2023، حاجة البلاد إلى حوالي 20 مليار دولار، خلال 7 سنوات، لتنفيذ استراتيجيّات متعلّقة بالتغيّرات المناخيّة.
بدائل غير آمنة
في المقابل، سلك الرئيس التونسيّ الطريق السهلة، بـ»التعويل على قدرات الدولة الذاتيّة»، وهي عبارة لطالما طبعت الخطابَ الاقتصاديّ للأنظمة الشعبويّة. فمن بين الخيارات التي لجأ إليها سعيّد اقتراضُ نحو 2.25 مليار دولار من البنك المركزيّ التونسيّ. ولئن انصبّ نقد معظم الرافضين لهذه الخطوة على مسألة ضرب استقلاليّة البنك المركزيّ، إلّا أنّ الإشكال الحقيقيّ لخيار الحكومة التونسيّة يكمن في أنّ القرض يهدف أساسا إلى تمويل نفقات الدولة، أي أنّه لن يخلق أيّ ثروة باتت البلاد في أمسّ الحاجة إليها، في ظلّ مناخ الأعمال الداخليّ المُتّسم بالضبابيّة وتراجع الاستثمارات الأجنبيّة بشكل لافت. وسبق هذه الخطوة اقتراضُ الدولة التونسيّة، في تموز / يونيو 2023 أكثر من 300 مليون دولار من المصارف والمؤسّسات الماليّة المحلّية.
وتُسوّق السلطات التونسيّة لهذا التوجّه على أنّه سيمكّن البلاد من التخلّص شيئا فشيئا من التبعيّة للخارج والحفاظ على سيادتها، وهو أمر مُجانب للواقع بشكل كبير. فعدم اللجوء إلى صندوق النقد الدوليّ مُقابل التعويل على السوق الماليّة الداخليّة قد يكون حلّا مُؤقّتا وليس دون تداعيات، ليس أقلّه مدى القدرة على الحفاظ على السيولة واستقرار النظام البنكيّ وتحسين نسب النموّ.
كما أنّه، وبعيدا عن سياسات الصندوق وإملاءاته، فإنّ الشروط التي طرحها على الحكومة ليست بمُجملها شرّا مُطلقا، لا سيّما فيما يتعلّق بعدد من الإصلاحات الهيكليّة المؤجّلة منذ عقود، كضرورة الحسم إمّا بتفويت حصص الدولة في مؤسّسات كبرى أو إصلاحها بشكل جذريّ يحول دون إفلاسها، بالإضافة إلى وجوب مراجعة عمل القطاع العامّ المتّسم بالترهّل والبيروقراطيّة وعدم الفاعليّة.
وفي الوقت الذي يحتدّ فيه الجدل بشأن اللجوء إلى صندوق النقد الدوليّ من عدمه، يسعى قيس سعيّد إلى تأمين الحدّ الأدنى من التوازنات الماليّة، لإدراكه بأنّ البلاد بحاجة إلى الاستقرار، في سنة انتخابيّة ستكون اختبارا حقيقيّا لشعبيّته. وبصرف النظر عن مواقف المعارضة التي تستند إلى نسب العزوف القياسيّة التي شهدتها العمليّات الانتخابيّة، عقب انقلاب سعيّد على الدستور، فإنّ ثلاثة أرباع من المُستطلَعة آراؤهم مازالوا يثقون بقائدهم، بينما عبّر 53 % من التونسيين عن رضاهم على أداء الحكومة ككلّ.
ويرى قطاع لا يُستهان به من التونسيين أنّ سعيّد نجح في تجنيب البلاد الوقوع مُجدّدا في «فخّ» صندوق النقد الدوليّ، خاصّة أنّ البلاد مرّت بمحطّتين رئيسيتين، عقب الثورة، الأولى، سنة 2013، حين تحصّلت على قرض بقيمة 1.4 مليار دولار، والثانية، عام 2016، بقيمة 2.7 مليار دولار. وفي كلتا المحطّتين، لم يخرج الأمر عن مجرّد خفض منسوب الاحتقان في البلاد، في تلك اللحظة، وترحيل التوتّر إلى المدى البعيد.
سيناريو مُتوقّع
وبالرغم من حنين قطاع لا يُستهان به من التونسيين للنظام الديكتاتوريّ، إبّان حكم الرئيس الراحل، زين العابدين بن علي، المرتبطِ بشكل عُضويّ بحالة من الاستقرار المُتوَهَّم، سواء على المستوى الاقتصاديّ أو على مستوى القدرة – وإن كانت طفيفة – على خفض حدّة الاحتقان الاجتماعيّ، فإنّ شبح الإفلاس ما كان ليتبدّد، حتّى لو لم تندلع ثورة السابع عشر من كانون الأوّل / ديسمبر 2010. فمنذ نهاية تسعينات القرن الماضي، حذّرت رسالة ماجستير تضمّنت دراسة استشرافيّة تحت عنوان «الوضع الأمنيّ في تونس في أفق عام 2010»، أعدّتها الولايات المتّحدة بطلب من الحكومة التونسيّة، من أنّ البلاد تتأثّر بشكل بالغ بارتفاع نسب البطالة والانكماش الاقتصاديّ وتوتّر الأوضاع في الشرق الأوسط. وخلُصت الدراسة، التي لم يتسرّب منها سوى ملخّصها، إلى أنّ «استمرار النموّ الاقتصاديّ والإنفاق على البرامج الاجتماعيّة سيُمثّلان الأدوات الأساسيّة لمنع الاضطرابات. وفي حال فشل هذه التدابير، سيتدخّل الجيش التونسيّ لأداء مهامّه بالسيطرة على الوضع». وتُؤكّد هذه الوثيقة وقوع تونس، منذ نحو ثلاثين عاما على الأقلّ، في مستنقع اقتصاديّ واجتماعيّ لن ينتشلها منها سوى مراجعة شاملة لسياسات البلاد.
فتح سعيّد جبهات عدّة، منذ استيلاءه على السلطة، عام 2021، إذ بات في مواجهة مباشرة مع الأحزاب السياسيّة المعارضة واتّحاد الشغل ورجال الأعمال، داخليّا، وحكومات غربيّة عدّة وجهات مانحة وعلى رأسها صندوق النقد الدوليّ، خارجيّا.
وقُبيل رحيل بن علي، لم تكن هناك أيّ مؤشّرات على أي انفراجة سياسيّة وشيكة تُعيد مُراجعة التوجّهات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي بدأت تداعياتُها تُلقي بظلالها على المشهد العامّ في البلاد، أكثر من أيّ وقت مضى. بل بالعكس، شهدت تونس تعاظما للفساد، ليس من وجهة نظر التونسيين فحسب، بل حتّى في تقديرات الموقف التي كانت تصدر عن شركائها التقليديين، وعلى رأسهم الولايات المتّحدة. وذكر السفير الأمريكيّ آنذاك، روبرت غوديك، أنّه « من المؤكّد أن تثير القصص العديدة عن الفساد العائليّ – في إشارة إلى الدائرة الضيّقة لبن علي – غضب الكثير من التونسيين. ولكن، بعيدًا عن الشائعات حول الاستيلاء على الأموال، فإنّ هناك إحباطا من فكرة أنّه بالإمكان للأشخاص ذوي العلاقات الجيّدة أن يعيشوا خارج القانون».
ولم تأت ثورة السابع عشر من كانون الأوّل / ديسمبر 2010 بإنجازات اقتصاديّة واجتماعيّة تُذكر، بل تفاقمت الفوارق بين الجهات واتّسعت الهوّة بين مختلف فئات الشعب، بالرغم من أنّها رفعت شعار «خبز – حرّيّة – كرامة وطنيّة».
وسعت معظم الحكومات المتعاقبة على شراء السلم الأهليّ، بفتح الباب بشكل عشوائيّ أمام التوظيف في القطاع العامّ والمؤسّسات المملوكة للدولة وتشريك الاتّحاد العامّ التونسيّ للشعل، كبرى النقابات في البلاد، في الحكم أو تحييده والاندفاع بشكل غير عقلانيّ نحو سياسة اقتصاديّة تقوم أساسا على التداين.
بيد أنّ سعيّد فتح جبهات عدّة، منذ استيلاءه على السلطة، عام 2021، إذ بات في مواجهة مباشرة مع الأحزاب السياسيّة المعارضة واتّحاد الشغل ورجال الأعمال، داخليّا، وحكومات غربيّة عدّة وجهات مانحة وعلى رأسها صندوق النقد الدوليّ، خارجيّا. كلّ ذلك مع الإبقاء على سياسات التقشّف المؤلمة، دون بوصلة أو خارطة طريقة تُنقذ البلاد من أزمة تتعاظم ككرة الثلج كتلك التي حذّرت دراسة «الوضع الأمنيّ في تونس في أفق عام 2010» من مغبّة السقوط في براثنها.
وبالرغم من أنّ وزارة الماليّة أكّدت نجاح تونس في سداد أقساط الدين الداخليّ والخارجيّ كافّة، عام 2023، فإنّ هناك دعوات، خاصّة داخل الاتّحاد الأوروبيّ، إلى إعداد تمويلات طارئة، تحول دون فشل البلاد في الإيفاء بالتزاماتها، لا سيّما فيما يتعلّق بتزويد سوقها الداخليّة بحاجياتها الغذائيّة والطبّية.
وتسعى تونس، حسب ميزانيّة عام 2024، إلى الحصول على قروض بقيمة 9.1 مليار دولار، من بينها 5.25 مليار دولار كقروض خارجيّة. لكنّ الحكومة لا توضح كيفيّة تعبئة هذا الحجم الهائل من القروض والأطراف التي ستلجأ إليها.