أوراقإصداراتالدولتونسليبيامصرمنتدى دعم

التحديات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية الأسباب والواقع والآفاق

الفهرس

تقديم

تحاول هذه الورقة شرح مدى التزام الدول العربية بتوفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها و حقيقة استجابتها للعهود والصكوك الدولية التي انضمت إليها في هذا الشأن. كما تبين هذه الورقة تأثير العولمة على السياسات العامة في المنطقة، ومخاطر الخضوع” لنصائح” المؤسسات المالية العالمية على الاوضاع الاجتماعية للشعوب، خاصة لدى الطبقات الفقيرة والمتوسطة. ومن ثم تبين الورقة أبعاد هذه السياسة الليبرالية وسياسات الاصلاح الهيكلي في الانتفاضات المتكررة ، فهي انتفاضات ناتجة، اساسًا ،عن البطالة والفقر في منطقة تعرف نمواً ديمغرافياً فريداً، كان يمكن أن يشكل طاقة انتاج مهمة ودافعا أساسيا للتنمية .
ونحاول في تحليلنا التأكيد على مخاطر الانغلاق السياسي والتفرد بالسلطة واحتكارها وعلاقة ذلك “بخصخصة الدولة” وتنامي مظاهر الفساد المالي والاداري، مما يشكل عقبة امام كل الحقوق، بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ويؤثر سلباً على التنمية والتشغيل والتوازن بين مناطق البلد الواحد .
الى ذلك نسعى من خلال بحثنا إلى شرح الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى الانتفاضات العربية والانتكاسات التي تلت موجة الربيع العربي ،سواء بسبب الحروب الأهلية(سوريا، اليمن) أو التدخلات الخارجية(ليبيا ، اليمن، العراق..) أو الصعوبات الناجمة اغفال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية رغم حضورها التشريعي في الدستور(تونس)، مما يشي بمخاطر انزلاق المسار الديمقراطي في تجربة النجاح الوحيدة المتبقية من انتفاضات 2011. أما جائحة كوفيد 19، فإنها لم تزد منطقة منهكة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وأمنيا الا تأزماً، مضيفة مزيداً من التهميش والفقر للفئات الاكثر هشاشة، وخاصة النساء والشباب.
ونرصد ايضا التحديات الداخلية والمتمثلة في الازمة السياسية المرتبطة بوجود طبقة حاكمة تتمسك بالسلطة وترفض الاصلاح ونبحث في ارتدادات ذلك على الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية ، خاصة بعد ان جرفت العولمة بقايا مكتسبات الدولة القومية وحرمت البلدان الصغيرة والضعيفة من صياغة اقتصاديات مستقلة والزمتها بالانصياع لما تفرضه المؤسسات المالية والتجارية العالمية ، جاء ذلك بعد عقود من فرض الحكومات العربية مقايضة سلب شعوبها الحقوق المدنية والسياسية ، مقابل بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في واقع ما سمّي “دولة الرعاية”.
وامام هذا الوضع المعقد، عاشت المنطقة العربية جمودا زاد من تأزيم اوضاعها ، فلاهي قادرة على حماية الدولة القومية امام شبح العولمة الزاحف ، ولا هي تمكنت من الانخراط في الاقتصاد العالمي والاستفادة من تقنياته واقتصاده الرقمي واستمر الانغلاق السياسي وتقييد الحريات مقابل الانفتاح الاقتصادي،، مما ساهم في مزيد التبعية وتعميق الازمة بكل ابعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ازمة ساهمت في انفجار الثورات العربية، التي فاجأت الجميع بزخمها الشعبي ووضوح شعاراتها المنادية بالعدالة والديمقراطية والحرية ، لكن ارتباك النخب السياسية المعرضة وافتقارها للبدائل الاقتصادية والاجتماعية الناجعة ومحدودية استقلال قرارها السياسي والاقتصادي والمالي ، كل ذلك يشي بان المنطقة ،وان حركت بعض الركود الذي لازمها لعقود، فهي مقبلة على مزيد الهزّات . .

أهمية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية

لاشك أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية هي إحدى أهم أركان حقوق الإنسان لأنها توفر له امكانية العيش بأمان عبر متطلبات الحياة الأساسية أي الغذاء والصحة والماء والتعليم والبيئة السليمة وغيرها، ويمثل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر سنة 1966 اضافة حقوقية مهمة للشرعية الدولية لحقوق الإنسان ممثلة بالإعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، باعتبار انه لا يحدد فقط الحقوق الاساسية الحيوية ، بل وكذلك يطالب الدول باتخاذ الاجراءات اللازمة “بأقصى ما تسمح به مواردها المتاحة” بمنح هذه الحقوق وذلك بضرورة احترامها اولا وحمايتها من الانتهاكات ثانيا ، وثالثاً عبر القيام بالإجراءات التشريعية والقانونية والمالية للإيفاء بها.

لكن مدى ايفاء الدول بالتزاماتها يختلف باختلاف النظم السياسية والظروف الداخلية، اقتصاديا واجتماعيا والمحيط الدولي والعلاقة مع المؤسسات المالية الدولية والشروط التي تفرضها احياناً، خاصة وان عديد الدول العربية في شمال افريقيا، قد خضعت منذ اواسط سبعينيات القرن الماضي الى برامج اصلاحات هيكلية استوجبت فتح الحدود والانفتاح اكثر على الاستثمار الاجنبي والتجأت في احيان عديدة الى الاقتراض من المؤسسات الما لية العالمية، مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ،التي تفرض شروطا تمس من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، مثل فرض التقشف في الموازنات العمومية وخصخصة المؤسسات الحكومية والتقليص من الانفاق العمومي وتجميد الاجور وتعويم العملة وتحرير الاسعار …

وكانت من أهم نتائج هذه السياسات التقشفية، التي تحد من تدخل الدولة التعديلي وتحرر اسعار المواد الأساسية، انتفاضات عديدة عرفتها عديد البلدان العربية مثل تونس (1978و1983) ومصر (1977) والمغرب (1984) ، ادى ما افرزته من تراكم الى انتفاضات ما سمّي “بالربيع العربي” التي طالبت الى جانب الحرية والديمقراطية بالعدالة الاجتماعية التي تعني ، توزيع عادل للثروة بين مناطق الوطن الواحد والفئات الاجتماعية بعد ان عمّقت السياسات الليبرالية من التفاوت الاجتماعي والجهوي…

منطقة التناقضات

عمّقت النظم السياسية التي حكمت المنطقة الأزمة الاجتماعية رغم وفرة الموارد ويُشار الى العالم العربي ،عادة، على انه منطقة التناقضات بامتياز ،بين ما يحتويه من ثروات طبيعية وطاقات بشرية مقابل الفقر والتهميش وارتفاع البطالة خاصة لدى شباب كان يمكن ان يشكل طاقة انتاجية حيوية، لكنه يعيش الاحباط والعجز والتهميش وذلك نتيجة لخيارات اقتصادية واجتماعية خاطئة ونظم سياسية متسلطة ورافضة لأي تغيير في تركيبتها العاجزة عن اي اصلاح. وحتى وان اختلفت نظم الحكم ، فان حقوق المواطنين الاساسية ، بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، تظل اما غائبة او احيانا هشة أو مبتورة .

أما الحقوق النقابية ، فإنها غائبة في اغلب البلدان أو احياناً تكون النقابات رافداً للسلطة السياسية وصداً لها ، فاذا ما اعتبرنا ان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تشمل حقوق العمال وحمايتهم من العمل القسري ومنحهم الأجر العادل و توفير ظروف العمل الآمنة و تمكينهم من الحق في الاضراب و الحماية الاجتماعية ، فإن الدول الخليجية، التي تضم أكبر قدر من العمالة الاجنبية تفوق عدد السكان الأصليين أحيانا ويرتكز اقتصادها على الريع، لا تتوفر فيها المؤسسات الحامية لهذه الحقوق ، من نقابات مهنية ومنظمات مجتمع مدني مستقلة واحزاب سياسية معارضة…وهذا لا يطرح فقط اشكالية مدى تطابق النصوص الدستورية العربية مع العهود الدولية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، بل وكذلك صعوبة واحيانا استحالة وجود الضمانات المؤسساتية والقضائية لتحقيقها .

أما البلدان التي تدور فيها رحى حرب اهلية، فإن اوضاعها لم تكن جيدة قبل الحرب بسبب انظمتها السياسية القمعية، وذلك رغم مصادقتها على العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، وزادت الحروب الأهلية من تعقيد أوضاع مواطنيها، نظرا لغياب الدولة المركزية وصراع الجماعات المسلحة وتزايد عدد اللاجئين ، فتغيب ادنى الحقوق، حتى الحق في الطعام والسكن والامن ، لذا انتشرت المجاعة والامراض الفتاكة ، في بلد مثل اليمن اين تدور حرب اهلية تشعل لهيبها اطراف اقليمية تدير صراعاتها بالوكالة.

انهيار السياسات الإصلاحية الاقتصادية: دول الرعاية أم دول الرعايا؟

أما البلدان العربية التي عُرفت بوجود “دولة الرعاية الاجتماعية ” لعقود بعد استقلالها ، فإنها سجّلت تراجعا حاداً منذ سبعينيات القرن الماضي مع برامج الإصلاح الهيكلي وسيطرة النزعة الليبرالية وسياسات الخصخصة الجامحة ، مما هيأها إلى انتفاضات متكررة ،

 فبعد الاستقلال عرفت عديد البلدان العربية مثل الجزائر واليمن وسوريا ومصر فترة من “اشتراكية الدولة” تواصلت الى حدود اواخر ستينيات القرن الماضي ، صاحبها تأميم لاهم القطاعات الاقتصادية واصبح بمقتضاها القطاع العمومي المحرك الاساسي للاقتصاد وضابط لسياسته ومحدد لتوجيهه ، وتحققت العديد من المكاسب الاجتماعية ، مثل تعميم التعليم وتأمين الرعاية الصحية والاجتماعية لتشمل جل الشرائح الاجتماعية وفتحت أبواب الادارة الحديثة إلى مئات الآف الموظفين ، الذين شكلوا بيروقراطية حكومية قوية بعد ان انتشر التعليم العمومي …

لم تعترف حكومات تلك الفترة بان حقوق الانسان كل لا يتجزأ وان المواطن لا تكتمل مواطنته الا اذا نال كل حقوقه ، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحريته في التعبير واختيار من يمثلونه وأن الحماية الاجتماعية ليست كافية للقضاء على الفقر والفوارق الاجتماعية إلا إذا صاحبتها استراتيجية تعزز مبدأ المساواة والمشاركة الشعبية الفعلية في ادارة السلطة وتضمن تساوي الفرص للتنمية كحق انساني ولم تدرك ، أو انها تغافلت بسبب تمسكّها بالسلطة وخشيتها من امكانية ازاحتها ، بان البيروقراطية التي انشأتها لم تكن دائما ذات جدوى اقتصادية وانها اضافة الى الفساد المالي والمبالغ الهائلة التي ستدفعها الانظمة لحماية نفسها امنياً وعسكرياً ، داخلياً وخارجياً، ستنهك ميزانياتها وستضطر إلى التداين مما يجعلها فريسة للمؤسسات المالية العالمية التي ستفرض عليها شروطا مجحفة ، من بينها التفريط في المؤسسات العمومية للخواص والتخلي عن الرعاية الاجتماعية وتحرير الاقتصاد وفتح بلدانها إلى الاستثمار الداخلي والخارجي.

وامام الضغوطات المتواصلة ، رُفع الدعم على المواد الاساسية والطاقة فتسبب ذلك في ازمات اجتماعية واحتجاجات ، صاحبتها انتفاضات محدودة ، خلفت ضحايا بالعشرات ومحاكمات عديدة لشباب المناطق الفقيرة.

الدول العربية المصدرة للطاقة و"المرض الهولندي" والتقشف:

يعتقد الخبراء ان دول الخليج وبقية الدول العربية المصدرة للنفط والغاز مصابة بالمرض الهولندي ، اي ذلك المرض الذي اصاب هولندا في اواسط القرن الماضي بعد ان اكتشفت كميات ضخمة من الغاز الطبيعي في بحر الشمال فتحول اقتصادها الى اقتصاد ريعي وتحول المجتمع الى مجتمع استهلاكي بعد ان قرر العزوف عن العمل في القطاعات التي تنتج الثروة مثل الزراعة والصناعة…

وان غيرت هولندا ونوعت اقتصادها واصبحت من اهم اقتصاديات العالم ، فان الدول العربية المصدرة للنفط والغاز لازالت تحمل نفس المرض ، فاقتصادها الريعي الذي يعول على تصدير النفط والغاز بنسبة تفوق الثمانين بالمائة، لازال يتلقى الصدمة تلو الاخرى، مما يخفض من ميزانياتها ويحملها على التداين، لكن والاهم انها تتخذ اجراءات تقشفية تسعى للتقليل من انفاقها العمومي عبر تقليص الدعم والترفيع في الضرائب، مما يدفعها إلى أزمات اجتماعية مثل حالتي العراق والجزائر…

برامج االصالح الهيكلي : التنمية أم النمو ؟

برامج الاصلاحات الهيكلية التي تطبقها عديد البلدان، خاصة في شمال افريقيا ليست وليدة اليوم فقد وقعت أربع دول عربية على برنامج اصلاح الهيكلي في ثمانينات القرن الماضي ، المغرب (1984) ثم تونس (1986) فالأردن (1989) ثم مصر (1991) وبالنتيجة فرض صندوق النقد الدولي اجراءات جديدة ابتداء من تحرير الاقتصاد الى الحد من الدعم للمواد الغذائية والاساسية وفتح هذه البلدان للاستثمارات الاجنبية وتخفيف الاجراءات الجمركية وتحرير سوق العمل… وطبعا كان يفترض ان تحقق مثل هذه الإجراءات نتيجة ايجابية على الاقتصاد والشعوب، لكن على عكس المتوقع، فقد تدهورت الأوضاع الاجتماعية أكثر وارتفعت نسب البطالة ومعها نسب الفقر. وبدلاً من أن تصبح هذه البلدان ذات قدرة تنافسية واقتصاد متطور في ظل التجربة الليبرالية، فان الانغلاق السياسي فسح المجال للفساد المالي وتركيز الثروة بين أيدي النخب الحاكمة والدوائر المحيطة بها .

و حتى الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية الطفيفة فإنها خلقت مزيداً من التعقيدات الاجتماعية في جل البلدان العربية، حيث أدى التركيز المفرط على النمو والتوازنات المالية الكلية إلى اغفال التنمية، التي تهتم اساسا بتحقيق اصلاحات عميقة على النسيج الاقتصادي وتنتبه الى الاختلال بين المناطق …

 والأدهى أن نسبة النمو لم تتطور كثيراً في العقدين الاخيرين، رغم فتح الأسواق وتشجيع الاستثمار، ولم تحد من نسب البطالة، بل إن النسب ارتفعت بشكل غير مسبوق، فنسبة البطالة في المنطقة العربية تمثل ضعف المعدل العالمي (10 بالمائة سنة 2017 مقابل نسبة عالمية ب5.5 بالمائة) ونسبة البطالة ضمن خريجي التعليم العالي تصل الى أكثر من 30 بالمائة في تونس والاردن ومصر.

كما ان تشجيع التصدير، باعتباره أحد المكونات الاساسية للاقتصاد الليبرالي، الذي تبنته اغلب الدول العربية ضاعف من حدة الاختلال والتباين بين الجهات والمناطق داخل البلد الواحد ، بين جهات ومناطق قريبة من الشواطئ والموانئ والمطارات والبنوك وجهات داخلية مهمشة، حيث نتج عن الشغف بالتصدير والاندماج في السوق العالمية في تونس مثلا ،ان تعمّقت الهوة بين شريط ساحلي يحوز على استثمارات عالية ، 84 بالمائة من المناطق الصناعية و90 بالمائة من مجمل المؤسسات الاقتصادية و95 بالمائة من المؤسسات الاقتصادية الاجنبية وبين جهات داخلية ذات بنية تحتية مهترئة وبطالة عالية ونسب فقر عالية…

المؤسسات المالية الدولية لم تساعد على تنمية الاقتصاد

ما يمكن الخروج به بعد عقود من الاتفاقات المبرمة بين المؤسسات المالية الدولية وبين عديد البلدان العربية ، مثل مصر وتونس والمغرب، انها لم تقلص من عجزها التجاري ولم تصلح موازناتها ولم تحد من دينها العام ولم تعالج ازماتها الدورية. كما انها لم تحقق “عدالة اجتماعية” ترنو اليها شعوب المنطقة ، وكل ما اكدته هذه “الشراكة” التي تلزم الحكومات بالحد من التدخل وتقليص الانفاق العام، وزيادة الضرائب ، خاصة غير المباشرة ، بناء على التوصيات التي تسديها هذه المؤسسات فإنها لم تحقق الرفاه المنشود، وحتى تشجيع القطاع الخاص الذي من المفروض ان ينشئ ديناميكية اقتصادية ، فانه في واقع الاستبداد وغياب الشفافية في اسناد المشاريع وهشاشة الاستقرار السياسي لم يحقق النمو المرجو. كما ان الوضع يزداد تعقيدا بالنسبة لمشكلة البطالة ، فمصر التي تشهد صعوبات اقتصادية غير مسبوقة وتظل غير قادرة على تشغيل من 700 الف الى 800الف مواطن يدخلون سوق الشغل سنويا تعيش اوضاعا صعبة مع تنامي مظاهر الفقر و”رأسمالية المحاسيب” وفي تونس ترتفع نسب البطالة من سنة الى اخرى مقارنة بسنة 2010،حيث وصلت نسبتها الى 18 بالمائة بالنسبة للذكور و25 بالمائة بالنسبة للإناث ، حسب إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء ، خلال الفترة الثانية من سنة 2020 ويرتفع الدين العمومي ليصل 87 مليار دينار (حوالي 32 مليار دولار) وستصل في نهاية سنة 2020 ، حسب تقديرات وزارة المالية الى 94 مليار دينار (34 مليار دولار تقريبا) وهو ما يمثل 75 بالمائة من الناتج الداخلي الخام ، إلى ذلك لم تحد هذه السياسات المبنية على توجيهات صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات المالية من التفاوت بين المناطق والجهات، حيث ظل الانقسام قائماً في مصر بين القاهرة والدلتا وبين المناطق الاخرى في الصعيد وجنوب العاصمة. أما في تونس فقد ازداد الانقسام بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية، مثل سيدي بوزيد والقيروان وقفصة. وكذلك الحال بالنسبة للمغرب الأقصى الذي عرف انتفاضة الريف في شماله سنة 2017 ، بسبب التهميش والفقر والبطالة، انتفاضة خلفت ضحايا ومساجين وارتفاع لمنسوب القمع.

"خصخصة الدولة" والفساد السياسي

لم تكن النظم الحاكمة في المنطقة العربية مؤهلة لدخول العولمة واقتصاد السوق، لا فقط بالنظر الى تخلف بنيتها الاقتصادية بل لان نظامها السياسي يعمل خارج القواعد والمعايير الدولية من حيث مدى احترام القانون ووجود آليات مراقبة، تُخضع الجميع للمحاسبة والمساءلة دون استثناء،، لذلك اصبحت الدولة اداة لسيطرة الفئة الحاكمة، سيطرة على الحياة العامة وعلى موارد البلاد ، تستفيد منها دون مراقبة وتغدق مشاريعها على الأقربين والموالين وتتحول السياسة من أداة لإدارة الشأن العام الى مسلك للثروة ، وحتى البرامج الاقتصادية وعقود الاستثمار وخصخصة المؤسسات فإنها كثيراً ما تتم دون محاسبة وفي كنف الغموض وغياب الشفافية نظراً لغياب آليات رقابة مستقلة ، ولا يتعلّق الامر بمساوئ في طبيعة الخصخصة ، التي قد تكون احيانا مفيدة ، حيث ترتقي بمستوى الخدمات وتشجع المنافسة وترفع من مستوى النجاعة ، بل بالمناخ الذي تهيء له الديكتاتورية ، مناخ لا تحكمه قوانين ولا تشريعات ولا يفرق بين المصلحة العامة والخاصة ، مناخ من المصالح الضيّقة تصنعه شبكات قوية من النافذين الذين يضغطون على الدولة من اجل سنّ قوانين وتشريعات يكونوا هم فقط المستفيدين منها، فتتحول عملية الخصخصة الى مصدر لنهب الثروات العامة توظف لصالح الطبقة الحاكمة وكل من يدور في فلكها ، لتزيد من احكام قبضتها على السلطة وتأبيد نفوذها.

ولا تتصدر مطالب الشفافية والمحاسبة والتنديد بفساد الطبقة السياسية الحاكمة مطالب الانتفاضات العربية فقط، بل إن التقارير الدولية التي تأخذ حيزاً مهماً في الاعلام وتعتمد (احيانا) لدى المؤسسات المالية عند اسنادها القروض تشير إلى أن المنطقة ينخرها الفساد المالي الذي يختلط غالبا بالسياسة.
فعلى سبيل المثال، يضع تقرير منظمة الشفافية الدولية الصادر في يناير الماضي (2020) حول مؤشر الفساد في الشرق والأوسط وشمال افريقيا، خمس دول عربية ضمن العشر دول الاكثر فساداً في العالم، وترى المنظمة أن السبب الرئيسي هو غياب النزاهة السياسية، بل وارتباط السياسة بالفساد المالي. ، في هذا الصدد، تفيد الاحصائيات أن واحداً من بين شخصين في لبنان تُعرض عليه الرشوة مقابل تصويته في الانتخابات، ويصوت واحد من بين اربعة اشخاص بالطريقة التي تُملى عليه.

علاوة على ذلك، ترى المنظمة ان الأشخاص المتنفذين يمكنهم تحويل المال العام “الى جيوبهم” مباشرة، ويعتبر الأمر طبيعياً في ظل غياب مبدأ الفصل بين السلطات وغياب القضاء الذي يتمتع باستقلالية وقوة قانونية تمكناه من الرقابة الفعالة على أعمال السلطة التنفيذية. ويخلص التقرير إلى أن “الدول التي تعتبر فيها الانتخابات الديمقراطية الاستثناء على القاعدة العامة ، يصبح الاستحواذ على مقدرات البلاد امرا مألوفا”

وتبدو المفارقة أنه حتى في الدول التي تقدمت نسبياً على مستوى الديمقراطية والحرية وطوّرت تشريعاتها وقوانينها مثل تونس، – التي أنشئت هيئة وطنية لمكافحة الفساد” وقانون يحمي المبلغين ، كما يتمتع الاشخاص المعنيين والصحفيين والمجتمع المدني فيها بهامش من الحرية للوصول إلى المعلومة ، فان محاربة الفساد تظل محدودة ومرتبطة أحياناً بتصفية الحسابات السياسية، اكثر منها الضرب على ايدي المفسدين ، ويمكن إرجاع ذلك إلى عدة أسباب أهمها أن عملية سن القوانين لابد أن ترافقها عوامل عديدة أخرى كالإرادة السياسية وقوة القانون وحياد العدالة خصوصاً في الوقت الذي لازال القضاء يفتقر إلى الاستقلالية التي تمكنه من محاسبة المفسدين ، خاصة عند وجودهم في السلطة أو في الدوائر القريبة منها…

أنظمة تحمل اسباب سقوطها

منذ استقلالها وعلى مدى حوالي ثلاث عقود، حرصت أغلب الحكومات العربية على توفير الخدمات والمواد الأساسية وان توظف بسخاء في القطاع العمومي ، وقايضت ذلك باحتكارها للحياة السياسية مستخدمة كل ادوات القمع من اجهزة امنية ومخابرتية وعسكرية لضرب كل الاصوات المعارضة أو المنادية بتحرير الحياة السياسية.
وبعد الانخراط السريع في العولمة، منذ اواسط تسعينيات القرن الماضي ظهرت تناقضات النظام السياسي العربي ، فمن ناحية تم تبني سياسة الانفتاح الاقتصادي وتحرير المبادرات والانفتاح على الأسواق الخارجية، ومن ناحية أخرى، عانت المنطقة من حالة من الانغلاق السياسي . ناهيك عن تأزم الوضع السياسي في المنطقة بسبب عاملين أساسيين هما: صعود طفرة شبابية نتيجة لتواصل ارتفاع معدلات الخصوبة، وتمثلت هذه الطفرة بشباب تعلّم في المدارس والجامعات ويمتلك قدرات تكنولوجية عالية تمكنه من التواصل اليومي والانفتاح على العالم الخارجي من ناحية، وتراجع موارد الدول مما انعكس على ارتفاع مستويات نسب البطالة وتدني الخدمات الاجتماعية من ناحية اخرى. وبذلك لم تعد الموازنات قادرة على تغطية مصاريف الصحة العمومية ودفع التعويضات على المواد الاستهلاكية. لقد ساهم هذا العجز في قلب موازين الاستقرار النسبي الذي أستمر لعقود وفرض تغييرات جذرية حتمية.

فجر الانتفاضات العربية: بداية هدم جدار الخوف

اذا ما بحثنا في أسباب الانتفاضات العربية التي تتالت منذ اواسط ديسمبر 2010 الى ربيع 2011،نلاحظ أنها جاءت نتيجة أزمة عميقة بدأت تضرب الحياة السياسية في المنطقة منذ تسعينيات القرن الماضي، ورغم تعدد أسباب الأزمة، إلا أنه يمكننا الحديث عن عاملين رئيسين مباشرين ساهما في تفجير ثورات الربيع العربي هما: بداية التخلي التدريجي عن رعاية الدولة في سياق الخصخصة الجامحة مع فشل حقيقي في تحقيق تنمية واعدة وعدالة اجتماعية وتوازن بين مناطق البلد الواحد وارتفاع نسب الفقر، اضافة إلى انتشار مظاهر الرشوة والفساد المالي التي افقدت الدولة مصداقيتها، مما جعل الدولة تظهر بمظهر العائق أمام طموح الشباب المتعلم. علاوة على ذلك، فقد شهد المواطن العربي، الذي يتوق الى التغيير، انتفاضات هزّت بلدان عديدة في العالم ومنها دول اوروبا الشرقية التي طالبت بالديمقراطية والحرية والتداول السلمي للسلطة .

كما عرفت تلك الفترة تفكك الدولة القومية وعدم قدرتها على الدفاع عن كيانها أمام الغزو الخارجي، خاصة بعد غزو العراق للكويت واحتلال العراق ومحاولات تقسيمه، كل هذا أدى الى مزيد من اهتراء الثقة بالدولة التي فقدت كل المبررات الاخلاقية لوجودها ، إضافة الى فقدان سطوتها.
في اواخر القرن الماضي بدأت الازمة الاجتماعية تتفاقم بصورة غير مسبوقة حين رافق فرض الاصلاح الهيكلي الذي ربطته المؤسسات المالية الدولية بتسهيل منح القروض للعديد من الدول، التي بدأت موازناتها تختلّ بسبب تراجع النمو وضعف مردود القطاع الخاص الصاعد وغياب التخطيط الذي رافق بدايات الستينيات في عديد الدول اضافة الى الاستبداد السياسي الذي زاد من غطرسته مزيد ارتباطه بالفساد المالي واستغلال السلطة.

في تلخيص للوضع يقول تقرير "مشروع ابحاث ومعلومات الشرق الاوسط":

مع بداية القرن الواحد والعشرين، عرفت دول الشرق الاوسط وشمال افريقيا صعوبات اقتصادية واجتماعية جمّة بسبب البطء في النمو الاقتصادي نتيجة ضعف الاستثمار مقابل نمو سكاني عالي ومعدل بطالة شباب هي الاعلى في العالم آنذاك وواجهت هذه البلدان تحديات داخلية تتمثل في عدم قدرة الدول على استيعاب تدفق الشباب الطامح الى الشغل وخارجية بسبب ضغوط صندوق النقد الدولي الداعي الى التسريع في وتيرة الاصلاح الهيكلي.
وكانت من بين النتائج ان تكثفت الحركات الاحتجاجية النقابية والشعبية ،و كانت ذروتها ما بين سنتي 2006 و2008 في عديد الدول العربية، وبالأخص في مصر وتونس، البلدان اللذان انهكهما الانفتاح المفرط للاقتصاد مع تقلّص الاستثمار وضعف مردودية القطاع الخاص، مما أدى الى مزيد البطالة أمام تقلّص الانتداب في الوظيفة العمومية و انحسار القطاع العام، اضافة الى إغلاق اوروبا حدودها أمام الهجرة بعد أن فرضت التأشيرة على بلدان جنوب المتوسط .
ففي سنة 2006، شهدت مصر “أطول وأقوى موجة من الاحتجاجات الشعبية منذ الحرب العالمية الثانية” وكان ذلك ردّ فعل نقابي على سياسة أحمد نظيف، رئيس الحكومة، الموغلة في الليبرالية التي كانت تشجع “النمو الاقتصادي على حساب العدالة الاجتماعية”.

وبينت انتفاضة الحوض المنجمي في الجنوب التونسي(2008) أن مقولة “المعجزة الاقتصادية التونسية ” أو “تونس النمر الاقتصادي الإفريقي” هي سراب يُراد به توريط البلاد في مزيد الانفتاح الليبرالي، فالبطالة والفقر وغياب العدالة بين جهات الوطن الواحد، إضافة إلى الفساد المالي الذي يمارسه أعوان السلطة، كل هذا كشفته الاحتجاجات التي تواصلت لأول مرة لمدة ستة اشهر بشكل يومي ،مطالبة بفرص عمل وتنشيط عجلة التنمية لصالح الجهات الفقيرة والمهمشة، بالإضافة إلى المطالبة بالشفافية في الانتداب في الوظائف الحكومية القليلة. ورغم انتهاء الانتفاضة بسجن القيادات النقابية وعشرات القتلى والجرحى ،فإنها، قد أحدثت آثاراً لا يمكن تجاهلها، فالإضافة إلى تكذيب فرضيات الرفاه الاقتصادي والنمو والاستقرار، فقد هدمت هذه الانتفاضة جدار الخوف واظهرت ان الترهيب بالقوة الأمنية الذي أبقى زين العابدين بن على ونظامه لأكثر من عقدين قد بدأ يفقد مفعوله، امام شباب ايقن أن الطريقة الوحيدة لانتزاع حقوقه هي افتكاك الساحات العامة وفضاءاتها من السلطة،ممارسة حُرم منها أباؤهم لعقود…

الانتفاضات العربية: استحضار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية

لابد أن نشير منذ البداية إلى أن الانتفاضة التونسية التي انطلقت في 17 ديسمبر بسيدي بوزيد وتواصلت حتى يوم 14 يناير 2011 ، هي بالأساس انتفاضة شعبية أشعل فتيلها الطبقات المحرومة والمناطق المهمشة بأطراف المدن، ولم تفجرها النخبة السياسية التي دجنها نظام زين العابدين بن علي ولاحق قياداتها، تعذيباً وسجناً ومراقبات أمنية . لقد فجرت هذه الانتفاضة التي غيرت وجه المنطقة العربية على يد شباب فقير، جسد غضبه في شعارات سياسية مقتضبة حاول من خلالها المزواجة بين المطالب السياسية في الحرية والمطالب الاقتصادية والاجتماعية ، وذلك من خلال رفع شعار “شغل ، حرية ، عدالة اجتماعية”. وادرك الشباب أن مطالبه في الحصول على فرص متساوية في العمل لن تتحقق في ظل واقع تحكمه اعتبارات سوء استخدام السلطة والفساد المالي الذي يمارسه النظام ودوائره الضيّقة، فأضاف شعار ” الشغل استحقاق ياعصابة السراق” (– العمل حق، ايها اللصوص)، ومع حلول الأسبوع الأخير من الانتفاضة، وبينما كان النظام يرتبك امام توسّع المسيرات اليومية والاضرابات المتواصلة رغم تمسكه بعصا القمع كأسلوب مواجهة، اضافت الجماهير الغاضبة شعار “الشعب يريد اسقاط النظام” .

وبصرف النظر عما آلت إليه انتفاضات “الربيع العربي” سواء أكان ذلك الانتقال الديمقراطي العسير، مثلما يحدث في تونس، أو اشتعال جذوة الحروب الأهلية، مثلما يحدث في اليمن وسوريا وليبيا، أو العودة إلى نظام الحكم الديكتاتوري، مثلما هو الحال في مصر، فإني اعتقد أن هناك أمرين يجب اخذهما في الاعتبار: الأول أن التجارب الاقتصادية الليبرالية التي انطلقت منذ اواخر سبعينات القرن الماضي قد زادت من الأزمة الاجتماعية التي تعيشها المنطقة، لا فقط لغياب الانفتاح السياسي ، بل لأنها عمقت الهوة بين الطبقات الاجتماعية في السلطة ودوائرها القريبة بسبب الامتيازات السخية التي اسست ما سمي ب”رأسمالية المحسوبية” وبين طبقات شعبية ازدادت بؤساُ واحساساً بالحيف، كما عمقت الفوارق بين الجهات داخل البلد الواحد ، بين جهات تتمركز فيها الصناعات والبنية التحتية والتشغيل وبين جهات تعيش على الفقر والبطالة ، والثاني هو ان الامل كان يحدو الشعوب في ان انزياح الانظمة سيفتح الطريق امام نظام حكم يجمع بين الديمقراطية والحرية والتداول السلمي على السلطة من ناحية و يؤسس لسياسات اقتصادية رشيدة تحقق العدالة من ناحية اخرى، واعتقادي ان هذا الامل سوف لن ينقطع …مهما كانت الصعوبات، ولنا في الانتفاضات الاخيرة في الجزائر والسودان ولبنان والعراق أدلة على ذلك.

الأمل في التغيير

قد يكون من غير المفيد هنا تكرار النقاش الذي تواصل إلى سنوات بعد 2011 حول ما إذا كانت الهزات الاجتماعية التي زعزعت الاستقرار الهش في تلك الفترة “ثورات” أم “انتفاضات اصلاحية، لم تكن غايتها تغيير الانظمة، بل اصلاحها، فالأكيد أن الآف الشباب الذي خرج في مظاهرات عارمة لم يعد يثق في الانظمة ولافي امكانية اصلاحها، لكنه لم يكن يمتلك الادوات السياسية للتغيير ولم يكن يحمل مشروعاً مجتمعياً خارج الشعارات التي رفعها والتي تختزل احلامه، ولم تتوفر له خارطة طريق للتغيير، وهذا ما يفسّر حقيقة أن سقوط الأنظمة لم يؤدي الى نهاية سياساتها الاقتصادية والاجتماعية ،خاصة أن نهج التنمية الذي كان متبعاً تواصل ولم يطرأ على تركيبته أي تغيير جذري ، بل إن الصراعات والحروب الأهلية قد عقدت من الأوضاع ، وكأنها تنتظر خلخلة هرم السلطة لينفجر بركانها.

نهاية عصر الثورات اليوم؟

كتب أصف بيات، أستاذ علم الاجتماع الأمريكي ، كثيرا عن “الثورات العربية” ومستقبلها ، فالرجل ينحدر من اصول ايرانية، اي مشابهة للواقع العربي ، وعاش في مصر لسنوات عديدة وزار عديد البلدان العربية الاخرى، مثل تونس ولبنان وناقش نخبها وحاضر في كلياتها وجامعاتها.
يرى بيات أن “الثورات العربية” جاءت في زمن النيوليبرالية، زمن انتهت فيه الثورات التي تؤسس لرؤية اقتصادية واجتماعية جديدة و بوصلة ايديولوجية بديلة . لعل الثورات الراديكالية، التي تطيح بالمنظومات السابقة، كانت ممكنة زمن النظم الاشتراكية وزمن صراع القطبين النّدين، الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفياتي لقد كانت هذه الثورات ممكنة زمن الحلم الاشتراكي البديل الذي يحارب الاستغلال الطبقي ” و”يؤسس للمساواة الحقيقية”…
ويرى اصف بيات أن هذه “الثورات” (العربية) تفتقد لقيادات كاريزمية، مثل لينين (1917) وكاسترو (1959) والخميني (1979)، قيادات قادرة على الهام الناس وتأطيرهم وتوجيههم . لذلك جاءت “الثورات” اصلاحية لا تسعى الى قطع الصلة بالماضي ، بل كانت ترمي الى اصلاحه ، مواصلة في نفس النهج الاقتصادي والاجتماعي الذي أُسس زمن العولمة.
والحقيقة ، في رأيي، أن غياب القيادات السياسية في العقود الاخيرة هو نتاج لضعف الاحزاب السياسية العربية التي انهكها القمع وافقدها فاعليتها، وغياب البرنامج الحزبي الاقتصادي البديل في واقع ارتدادات العولمة وهجومها النيوليبرالي الكاسح الذي أضعف الحركة السياسية والنقابية، ليس في المنطقة العربية فحسب ، وإنما في العالم أجمع بسبب هشاشة التشغيل وتقليص دور القطاع العمومي وبرامج الاصلاحات الهيكلية.

فالشباب الذي قاد الانتفاضة التونسية كان يدرك أن النظام فاسد بكل المقاييس وأنه لابد من نظام حكم بديل، يحترم حقوق الانسان ويخدم مصالح الشعب ويحقق العدالة، لكنه لم يحمل هذا “الحلم” في برنامج مفصّل، تلك هي في العادة، مهمة الاحزاب المعارضة التي تؤسس رؤيتها بناء على دراسة الثغرات في النظام القائم وتقديم الحلول السياسية والاقتصادية لإصلاح الخلل … وهو ما عبّر عنه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، ادغار موران، الذي فرّق بين الانتفاضات “المحدودة” التي هي تعبيرات عن غضب حيني وبين الثورات التي تحمل مشروعا بديلا، ناضجا، مناقضا للسائد.

نهاية الاحزاب وبروز الحراك الاجتماعي؟

أمام ضعف الاحزاب السياسية، اما نتيجة للقمع التي فرضته الانظمة السياسية في منطقة الشرق الاوسط ، أو لرفضها تجديد نفسها وقياداتها ورؤيتها الايديولوجية المتكلّسة، احيانا. ونتيجة لضعف النقابات المهنية التي تراجع تأثيرها أيضاً إما نتيجة اقترابها من السلطة الحاكمة، وتلكؤها ، احيانا، في الدفاع عن منخرطيها، أو بسبب الانحسار الذي تعرفه الحركة النقابية العالمية أمام طغيان قطاع التشغيل الهش وغير المنظم وسيطرة الشركات الكبيرة المتغطرسة، فقد وجدت طرق احتجاج جديدة ، ذات غايات محددة ومطالب واضحة ، وهي عكس ما تروج له بعض الانظمة ودوائرها الامنية والقضائية هي أساليب ليست بالفوضوية ، بل لها قدرة كبيرة على سرعة التشكل وتحديد مطالبها ، كما لها قدرة كبيرة على ابتكار الاشكال النضالية وولادة قيادات غير معروفة، وليس لها ماضي سياسي، وتمتلك مخزون كبير من ثقة المجموعة يؤهلها للتفاوض والتحدث باسم المجموعة.

في ورقة تحليلية لمنتدى حقوق الانسان في المنطقة العربية الذي ينظمه مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان كل عام، كتبتُ حول الحركات الاجتماعية في المنطقة المغاربية لتوضيح أن هذه الحركات ، كان لها حضور فعلي، حتى قبل الانتفاضات العربية، ولكنها لم تكن تحمل مشروعاً سياسياً . واوضحتُ الورقة أنه وفي الفترة الاخيرة ، أي منذ حوالي عقدين من الزمن، كان هناك غياب للمشروع السياسي حتى على مستوى عالمي، لذلك حاولت المنتديات الاجتماعية العالمية التي انشئت في البرازيل، سنة 2001،سد هذا الفراغ ، للوقوف في مواجهة العولمة وتأثيرها المدمر، وبدأت تعقد تجمعاتها السنوية بحضور آلاف النشطاء، من نقابيين وحقوقيين ومنظمات نسوية وممثلين عن الاقليات الجنسية والعرقية وكانت هذه المنتديات تنظم المسيرات والمظاهرات والعرائض والوقفات الاحتجاجية السلمية . لكنها رفضت تقديم البديل السياسي ، بحكم تعدد الرؤى داخلها والخشية من الانقسام امام اختلاف الآراء والأيديولوجيات، مما أدى إلى إضعاف هذه المنتديات ، وذلك لأن كل حركة معارضة تحتاج الى تقديم بديل وإلا فستفقد مصداقيتها ،وقد تلاشى تأثير هذه المنتديات نتيجة لاقتصارها على الاحتجاج ضد السياسات الاجتماعية للعولمة المتوحشة.

وذكر ت في نفس الورقة أن المنتديات الاجتماعية المغاربية (المغرب والجزائر وموريتانيا وتونس وليبيا) التي كانت صدى للمنتديات العالمية ،قد أسست لتكون بمثابة ملتقى نقابي حقوقي مغاربي يساهم في ديناميكية التحضير لانتفاضات لاحقة، عبر تنسيق التحركات الشبابية ولقاء الحركات الحقوقية بالحركة النقابية المستقلة في المنطقة المغاربية ضمن “التنسيقة المغاربية لمنظمات حقوق الانسان” التي اسست الى حركة حقوقية- نقابية متضامنة ضمن “المنتدى الاجتماعي المغاربي” الذي نُظم بتونس تحت اشراف الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 2006 .
إذاً نحن امام حراك مجتمع مدني يحاول اللحاق بالاحتجاجات التي تأججت بعد سنة 2006 واعطائها بعدها الحقوقي والنقابي . لكن ظل غياب الاحزاب السياسية مؤثراً ،مما جعل كل التحركات الاحتجاجية قبل الثورة وبعدها دون برنامج سياسي واضح المعالم، يحمل الشباب خلاله قناعة تغيير الانظمة القائمة لأنه مدرك أنها تعيق تطوره وتحبس طاقاته وتهدد مستقبله، لكنه يبقى حبيس حلمه بتغيير الاوضاع.
ولم يتغيّر الوضع في السنوات الاخيرة، فالحراك الجزائري الذي استمر لمدة سنة كاملة (من فبراير 2019 الى مارس 2020)عبر احتجاجات اسبوعية ضد ترشح بوتفليقة لولاية خامسة ، ثم من اجل التغيير السياسي في الجزائر ، ولم توقفه إلا الازمة الصحية المرتبطة بكوفيد-19، لم يحمل مشروعا بديلا ، عدا التخلص من النظام القديم بشهادة قياداته .
يقول أحد قادة الاحزاب الجزائرية لصحيفة “نيويورك تايمز” إن “متظاهري الحراك كانوا واضحين في مطالبهم بضرورة تغيير النظام السياسي في الجزائر ، لكنهم كانوا اقل وضوحا عندما تعلق الامر بتقديم بديل عنه.” عدا الامل في انه بمجرّد سقوط الانظمة ستتغيّر الاوضاع….

- شباب المنطقة العربية :التطلع للمستقبل... بغضب

حين اشعل الشباب في عديد البلدان العربية لهيب الانتفاضات ونفض الغبار على منطقة اعياها التهميش والجمود السياسي، كان يحدوه أمل أن واقعه سيتغيّر وانه سيجد لشعارته صدى، وأن آفاق المستقبل ستفتح على مصراعيها مبشرة بواقع جديد ، لكنه بعد سنوات وجد نفسه خارج المعادلات السياسية وسلطات القرار ، بل ظلّ خارج الدورة الاقتصادية.

وفي اغسطس 2016، نشرت مجلة الإيكونيميست البريطانية تقريرا مهماً عن الشباب العربي، ذكرت فيه ان الشباب في أي منطقة من العالم يُعتبر قيمة إضافية ، عدا في المنطقة العربية، إذ يُنظر اليه كلعنة يجب تقويضها ، لذلك تجد هذه الفئة العمرية ،التي تتقد حماسا، أمام خيارات بائسة، منها مواجهة الفقر في بلدانها أو الهجرة أو في حالات قصوى التطوّع للجهاد في سوريا والعراق.
وأضافت المجلة الاسبوعية أن المنطق يفترض أنه كلما ازدادت سنوات الدراسة ويتطوّر التحصيل العلمي والمعرفي ، فإن فرص الحصول على العمل تكون أكثر وفرة ، الا أن المفارقة في المنطقة العربية تشير إن في التقدم في الدراسة غالباً ما يكون عائقا أمام فرص العمل.

وحتى في تونس التي عرفت استقرارا نسبياً وانتقالاً ديمقراطياً مرناً لا تشوبه هزات كبيرة، فان الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية تزداد تعقيداً ، والشباب، الذي يمثل ثلث الشعب التونسي، يعيش إحساساً بالغبن، نظراً لكون البطالة تنخر في صفوفه ،ويمتلكه شعور بأن “الثورة قد سُرقت منه” وأن ليس له من مستقبل في البلاد . وتكمن خطورة تواصل هذا الإحساس في كونه قادر على زعزعة أسس المسار الديمقراطي الذي لازال هشّاً.

منطقة تجاوزت مرحلة التعافي؟

إذا عدنا بالذاكرة قليلا سندرك ما عرفته المنطقة من تغييرات منذ اواخر سنة 2010، حيث كانت تعيش بعض الاستقرار تحت قيادة أنظمة تسلطية، اعتقدت أنها ستواصل استفادتها من السلطة الى درجة أن الأنظمة “الجمهورية” بدأت تهيء الأبناء وأحيانا الزوجة للحكم. ثم جاءت انتفاضات 2011 لتنتهي بسقوط عديد الحكام ونهاية أحلامهم في تأبيد سلطتهم وتوريثها، وساد أمل كبير لدى عموم المواطنين بأننا سنعرف مثل العديد من شعوب العالم ديمقراطية سياسية وتداول سلمي للسلطة على اثر انتخابات ديمقراطية وشفافة. كما كان الأمل يحدو الجميع بأن مطالب العدالة الاجتماعية ستعرف طريقها إلى الحل بوجود نخب سياسية تفكر في مصلحة الوطن قبل مصالحها الشخصية و العائلية والحزبية.
إلا أن هذا الامل سرعان ما تلاشى مع الحروب الأهلية والصراعات المسلحة وعودة الارهاب وتوسعه وفرض قيمه وقوانينه وتوسع حملات الهجرة وتدفق اللاجئين، ثم اضيفت اخيرا الى الازمات السابقة أزمة كوفيد-19 لتواجه المنطقة العربية تحديات اجتماعية واقتصادية يصعب التكهن بارتداداتها. لذلك “يبدو من المنطقي أن يحسّ المرء بمرارة اليأس تجاه مستقبل الشرق الأوسط” لأن “المنطقة تجاوزت مرحلة التعافي.” وما توحي به الاوضاع الحالية أن المنطقة لازالت حبلى بالمزيد من التدهور الاقتصادي والاجتماعي والعنف والاستبداد.

جائحة تعمّق الازمة

يتفق جل المتابعين والخبراء أن ما احدثته جائحة كوفيد -19 على الاقتصاد العالمي يضاهي في حدته ارتدادات الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 1929، حين تراجع الاقتصاد بشكل خطير و أفلست البنوك وعمّت البطالة وازدادت نسب الفقر، وانتهت الازمة بحرب عالمية ثانية، خلفت عشرات ملايين الضحايا. ويعتقد أيضاً الخبراء أن آثار الجائحة ستكون عقبة كؤود أمام محاولات التعافي، إذ سيجد الاقتصاد العالمي صعوبات جمّة في الخروج منها خلال السنوات القادمة.
وسيكون الوضع أكثر صعوبة بالنسبة للبلدان العربية نظرا لأوضاعها الاقتصادية الهشة ولاعتمادها شبه الكلي على تصدير المواد الأولية في الطاقة، وذلك أمام تراجع الطلب على النفط، حيث وصل إلى أدنى أسعاره منذ عشرين سنة.
وأما البلدان الأخرى التي تعتمد غالبا على القروض من المؤسسات المالية الدولية والاقتراض الخارجي بشكل عام، فهي بحاجة ليس فقط إلى تأجيل سداد دينها وفوائده المتراكمة، بل وأيضا إلى ارتهان اقتصادها بقروض جديدة ، نظرا لأوضاعها المالية الصعبة ووقوفها على حافة الانهيار الاقتصادي ، مثل لبنان وبدرجة أقل تونس.

فمنذ مايو 2020، توقعت المؤسسات المالية الدولية أن لكوفيد-19 تأثير خطير على اقتصاديات دول الشرق الاوسط وشمال افريقيا، إذ سيؤدي إلى تراجع أسعار النفط والتحويلات المالية ، كما سيتأثر القطاع الخاص ، مثل السياحة التي يصل دخلها الى حدود 20 بالمائة في عديد بلدان المنطقة وذلك بسبب إغلاق الحدود. وتوقعت المؤسسات المالية والدولية كذلك أن تشمل الأزمة قطاع النقل الجوي في بلدان مجلس التعاون الخليجي خاصة.

في ظل هذه المعطيات، خفّض صندوق النقد الدولي ،بعد ابريل 2020 ، مرة أخرى من توقعات النمو في الشرق الأوسط وشمال افريقيا بنقطتين لتصل إلى سالب 4.7 بالمائة وذلك بسبب انتشار الفيروس وتوقع التقرير الصادر في يوليو 2020 حول افاق الاقتصاد الاقليمي في بلدان الشرق الاوسط واسيا الوسطى كذلك أن المنطقة التي عرفت في السنوات الاخيرة نمواً متواضعاً وعجزاً في ميزانية في العديد من دولها وارتفاعا مطرداً للدين الخارجي، ستشهد ارتفاعا في نسب الفقر والبطالة وهو ما سيزيد من نسب الاحتقان ومن الاضطرابات الاجتماعية، وستعيش المنطقة أوضاعا من عدم الاستقرار قد تستمرّ لفترة طويلة . فعلى سبيل المثال سيصل الدين العام في السودان الى 258 بالمائة من الناتج المحلي الخام و إلى 183 بالمائة في لبنان والى 90 بالمائة في مصر، مذكرا ان تراجع النمو وصل الى اعلى مستوياته منذ 50 سنة.

ولن يكون تأثير جائحة كوفيد-19 مقتصراً على القطاع الاقتصادي وحسب ، بل سيكون لها بالغ الاثر على المستوى الصحي حيث أثبتت معظم بلدان المنطقة أنها تفتقر إلى نظام صحي شامل واطارات طبية مستعدة للعمل في حالات الطوارئ القصوى. فقد جاء في التحديث الاقتصادي لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا الصادر في ابريل نيسان 2020 عن البنك الدولي، أن منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا تحتل المرتبة الاخيرة من حيث القوة العاملة في علم الأوبئة وكذلك على مستوى الاستعداد للطوارئ والتخطيط له، ويكون الأمر أكثر خطورة بالنسبة للمناطق التي تشهد نزاعات مسلحة، إذ كثيرا ما تعيق هذه النزاعات أعمال الانظمة الصحية .

غياب الشفافية خلال الازمات

من البديهي أنه لا يمكن ان يتوفر محيط من الشفافية إلا بوجود اعلام حر وعدالة مستقلة ومؤسسات دستورية وأنظمة ديمقراطية تحترم القوانين، وهي عوامل غير متوفرة في كل المنطقة، وقد زادت جائحة كوفيد -19 من انغلاق الانظمة بما فرضته من اجراءات وحالات طوارئ.
جل التقارير، بما فيها تقرير البنك الدولي المُشار إليه أعلاه ، تؤكد على أن معضلة غياب الشفافية في المنطقة العربية، تؤثر سلباً حيال مجابهة جائحة بهذه الخطورة، وذلك في غياب بيانات شفافة وتواصل بين الاطراف الفاعلة في مجتمع ديمقراطي منفتح، والمواطن في المنطقة الذي فقد الثقة في السلطة، يجد صعوبة في الحصول على المعلومة الصحيحة، وحتى وإن حصل عليها، فسيطرة الريبة والشك تجعل من الصعوبة تصديق المعطيات التي تُقدم له.
وتستغل السلطات في المنطقة أزمة كوفيد -19 وما رافقها من حجر صحي ومراقبة صحية لفرض المزيد من التضييق على المعلومات ، مستهدفة ، احيانا ، الصحافة وحتى القطاع الطبي. النظام المصري مثال على ذلك، فهو لم يتستر فقط على عدد الاصابات وحسب ، بل سعى ايضا أن يكون الطرف الوحيد الذي يقدم المعلومة، رافضا في نفس الوقت، أي نقد يوجه له حول أداء الحكومة في واقع الجائحة أو أية معلومات حول مدى تفشي الوباء. وقد شنت السلطات المصرية حملة ملاحقة للصحفيين ، شملت حتى الاجانب منهم، فحين شكك مراسل نيويورك تايمز في الأرقام الرسمية للمصابين ، هددته الحكومة المصرية بترحيل ، مثلما حصل لزميلته “بالغاردين” (The Guardian) التي سحبت منها الهيئة العامة للاستعلامات المصرية أوراق اعتمادها . في هذا الإطار، أشار مدير البحوث للشرق الاوسط وشمال افريقيا في منظمة العفو الدولية ، فيليب لوثر ، إلى أنه “بدلا من حماية العاملين في مجال الرعاية الصحية وهم في الخطوط الامامية من خلال معالجة مخاوفهم بشأن سلامتهم وكذلك مصدر رزقهم ، تتعامل السلطات المصرية مع أزمة كورونا باستخدام أساليبها القمعية المعتادة”

تعميم المغالطة على كل جوانب الحياة

وطبعا غياب الشفافية لا يقتصر فقط على آثار أزمة كورونا في المنطقة، بل يشمل جل الميادين السياسية والاقتصادية، ويظهر ذلك في المعاملات المالية والسياسات العامة وطريقة اختيار المسؤولين وتقييم أدائهم ومحاسبتهم و غياب صحافة حرة لديها امكانية الوصول إلى المعلومة ونشرها، وغياب مؤسسات دستورية قوية تعمل باستقلالية عن السلطة، كل هذه الامكانيات غائبة في جل بلدان المنطقة العربية ، والمؤسسات الدولية التي تتعامل مع المنطقة تقدم مرة أخرى صورة قاتمة عن غياب الشفافية، اذ أشار البنك الدولي إلى أن منطقة شمال افريقيا والشرق الاوسط ” هي المنطقة الوحيدة في العالم التي تشهد انخفاضا مطلقا في مؤشرها لشفافية البيانات” سواء في خصوص تداولها أو حتى الوصول اليها، ويقدر نفس التقرير أن غياب الشفافية أدى إلى خسارة في نصيب الفرد من الدخل بنسبة تتراوح بين 7 و14 بالمائة .

تحديات التنمية

جاء في تقرير الامم المتحدة الصادر عن الامم المتحدة في تموز/يوليه 2016 حول تحديات التنمية في المنطقة العربية أن أزمة النزاعات التي تعيشها بلدان مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا، ومظاهر أخرى مثل شيوع التطرف والارهاب، اضافة الى الزيادات المطردة في اعداد اللاجئين والنازحين من مناطق التوتر ، كلها عوامل فاقمت من الضغوط المسلطة على الدول، ناهيك عن اهدار الطاقات الشبابية التي تعتبر إحدى أهم محركات التنمية، اضافة الى معضلة القيود الاجتماعية والايديولوجية والدينية التي تعرقل المساواة بين الجنسين وتحول دون تمكين المرأة.

غياب الاستقرار ومعضلة البطالة

يقف العنف والنزاعات المسلحة وراء الأسباب الرئيسية للهجرة في المنطقة العربية، حيث كانت سوريا طيلة السنوات الاخيرة أكثر البلدان تصديرا للنزوح واللجوء والهجرة، سواء كان ذلك داخل المنطقة، أي إلى لبنان والأردن، أو خارج دول المنطقة، أي إلى تركيا والبلدان الأوروبية، لكن هناك أسباب اقتصادية واجتماعية أخرى تتسبب في الهجرة، بشكليها النظامي وغير النظامي، حيث تأتي البطالة في مقدمة الأسباب التي تدفع الشباب العربي الى الهجرة، في منطقة فاقت فيها البطالة نسبة 10 بالمائة .
وتعد بطالة الشباب من الجنسين السمة البارزة ، حيث تطال 25 بالمائة من البطالة الفئة العمرية ما بين 15 و24 سنة، وتصل الى أكثر من 50 بالمائة في مصر ضمن المتقدمين في الدراسة، إلى 67.5 بالمائة من ضمن أصحاب الشهادات العليا في تونس سنة 2013.
ومن الاسباب الاخرى للبطالة، التحولات الاجتماعية الأخرى ، حيث شهدت المنطقة تغييرات على مستوى النشاط الاقتصادي بسبب انحسار دور الزراعة الناتج أساسا من الجفاف وندرة المياه والاهتمام المتزايد بالمناطق الحضارية وأنشطتها مثل السياحة والخدمات على حساب الانشطة الفلاحية والزراعية، وهو ما تسبب في النزوح من الريف إلى المدينة واتساع الهوة بينهما .

وقدرت منظمة الهجرة الدولية أن نسبة سكان المدن قد تضاعفت في المنطقة العربية أربع مرات في الخمس عقود الاخيرة ، من 38 بالمائة سنة 1970 الى 58 بالمائة سنة 2018 ، ومن المتوقع أن تصل الى 70 بالمائة سنة 2050.

الهجرة القسرية والنزوح

في العام 2015 ، أشارت عدسات الإعلام الأوروبية للأزمة الحادة التي يعيشها المهاجرون وطالبي اللجوء، أولئك الذين تدفقوا من سوريا والعراق بسبب الحرب الأهلية وسيطرة الدولة الإسلامية في العراق والشام على مناطق واسعة، وما تبعها من تهجير قسري واعتداءات على ذوي الديانات غير الاسلامية وفرض أسلوب حياة يمتاز بالقساوة والتطرف. إضافة إلى أن منطقة شمال إفريقيا كانت دائماً ، بحكم موقعها ، منطقة عبور للاجئين والمهاجرين غير النظاميين القادمين من جنوب الصحراء إلى القارة الاوروبية … وجاءت جائحة كوفيد -19 لتعمّق الأزمة ، خاصة أن هؤلاء المهاجرين غير النظاميين الذين كثيرا ما يعيشون ظروفا صعبة، غير قادرين على التمتع بالرعاية الصحية ويعانون من تضييق أكبر يحول دون حصولهم على فرص عمل.
كما شرّد النزاع المسلّح في سوريا معظم سكان البلاد، فحسب مفوضيّة الامم المتحدة لشؤون اللاجئين ، هناك 6.1 مليون سوري مشردين داخلياً و5.5 مليون اخرين قد رُحّلوا إلى بلدان مجاورة، اضافة إلى حوالي مليون سوري قد فروا الى بلدان أوروبية منذ سنة 2011. وفي أواخر يونيو الماضي ، حذرت وكالات الاغاثة التابعة للأمم المتحدة من أزمة غذائية لم تعرفها سوريا من قبل ، حيث يفتقد أكثر من مليون سوري ، ممن لا يزالون داخل وطنهم، للغذاء الكافي اضافة إلى تفشي الفيروس كورونا ، خاصة إذا ما أدركنا أن نصف الإطار الطبي تقريباً قد فرّ خارج البلاد.

وفي ليبيا ، حيث يصعب وجود قوانين تحمي المواطنين واللاجئين ، نظرا لما تعيشه البلاد من حرب اهلية بين الفصائل العسكرية والقبلية ، لا يزال الآف المحتجزين من أفريقيا جنوب الصحراء يعيشون في مراكز الاحتجاز دون رعاية صحية ، وهم يدركون أن إصابة أحدهم بالفيروس قد تؤدي إلى إعدامه.
وفي اليمن ، يعيش اليمنيون أزمة غير مسبوقة بسبب الحرب الاهلية والاوبئة والفقر، ولا يستطيع 60 بالمائة منهم الحصول على الماء الصالح للشرب. وتعطلت جل المرافق العامة، مما جعل المنظمة الدولية للهجرة تتوقع أن يموت 42 الف شخص بسبب الكوفيد -19 . كما لم يتمكن حوالي 15.500 مهاجر من مواصلة رحلتهم الى دول الخليج حيث كانوا ينوون البحث عن العمل، ولم يتمكنوا من العودة إلى أوطانهم أيضا بعد إغلاق الحدود ، مما جعلهم “أكثر عرضة للإصابة بالعدوى وللاستغلال والعنف ” وغير قادرين على الاستفادة من الخدمات الصحية.

هجرة الادمغة ،هدر طاقات التنمية

رغم الدور الكبير الذي لعبه الشباب في الانتفاضات العربية منذ 2011، والآمال الكبيرة التي كان يحملها حول المشاركة السياسية والمساهمة في التنمية، إلا أن الصعوبات والانكسارات والاخفاقات التي عرفتها عديد البلدان العربية ، سياسيا وتنموياً ،قد دفعت بالعديد منهم إلى الهجرة ، حيث “وجد فيها مئات الآلاف منهم جوابا لابديل عنه لهواجس المستقبل حتى لو كلفهم ذلك محاولة العبور عبر قوارب الموت”.

هجرة الأدمغة هي انعكاس لهذه الازمة، إذ تشير منظمة العمل العربية، إلى أن بلدان المنطقة تساهم بنسبة 31 بالمائة من هجرة الكفاءات، وأن 50 بالمائة من الأطباء و23 بالمائة من المهندسين و15 بالمائة من العلماء يتوجهون إلى البلدان الأوروبية والولايات المتحدة وكندا، وأن دول المنطقة تخسر بمقتضى هجرة الكفاءات هذه حوالي 200 مليار دولار.

 وتشير دراسات أخرى، إلى أن 75 بالمائة من المهارات العلمية العربية مرتكزة في ثلاث دول غربية ، هي الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وكندا، وأن اعدادا كبيرة من حاملي الشهادات العلمية في البلدان العربية قد هاجروا الى اوروبا والولايات المتحدة خلال العقد الماضي، وأن أكثر من نصف الطلبة العرب الذين ينهون دراستهم في الخارج لا يعودون الى بلدانهم الأصلية عند تخرجهم.

وتعود أسباب هجرة الأدمغة أساسا إلى القيود المفروضة على البحث العلمي في البلدان العربية وضعف الرواتب والموارد وغياب التشجيع، إضافة إلى غياب حرية التعبير وتدخل السلطة السياسية في الميادين العلمية ومنعها البحث او توجيهه لغايات اخرى.
وتؤثر هذه الهجرة سلباً على واقع التنمية في البلدان الاصلية، لأن هؤلاء كانوا سيمثلون رافداً مهماً في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية، إضافة إلى دورهم في مجال التعليم والبحث العلمي ، كما يُعتبر هدرا للأموال العمومية التي انفقت في تعليمهم وتكوينهم .

"الحرقة": الوصول إلى أوروبا أو الموت في البحر

لم تمر إلا اشهر قليلة على الانتفاضة التونسية التي اشعلها شباب طامح إلى مستقبل افضل، و التي الهمت شبابا في بلدان عربية أخرى حتى شهدت البلاد موجة هجرة غير نظامية غير مسبوقة، حيث غادر عشرات الآلاف من الشباب التونسي البلاد ، راكبا البحر ، رغم مخاطر الموت ، وهو يحاول الوصول إلى الشواطئ الايطالية في ما يُعرف اصطلاحا في منطقة المغرب الكبير ب”الحرقة” وهي عبارة تحيل إلى فعل واقعي ورمزي في نفس الوقت، حيث يحرق المهاجر كل وثائقه الادارية ، ويبحث عن هوية جديدة بعيدا عن الوطن الذي يعتبره حاجزا منيعاً امام تحقيق أحلامه في العمل والحرية .
والمفارقة أن السياسات الأمنية الأوروبية التي ترى في الهجرة من بلدان شرق المتوسط مزيداً من المشاكل الاجتماعية، اضافة إلى زيادة مخاطر التطرّف والاهاب، لم تحد من تدفق المهاجرين. الأمر الذي عقد المسألة وساهم في نشوء مخاطر جديدة ، حيث أعطى ذلك للمهربين فرصة البحث عن طرقات برية وبحرية جديدة أكثر تكلفة وأشد خطورة وشجع الشباب على المغامرة حتى وإن كلفه ذلك حياته.
وعمّقت جائحة كورونا من أزمة الهجرة غير النظامية، خاصة في بلدان المغرب الكبير، مما جعل السلطات الإيطالية تكثّف من ضغوطها على حكومات المنطقة من أجل مراقبة حدودها والحد من تدفق مواطنيها . وقد أطلقت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين صيحة فزع في أواخر شهر يوليو 2020، مؤكدة أن عدد المهاجرين النظاميين من جنوب المتوسط قد بلغ الى حدود الشهر السابع 11800 شخص ، أي أكثر بثلاث مرّات العدد سنة 2019، وأن نصف هؤلاء هم من التونسيين.

التعليم وتحديات التنمية

يواجه التعليم – وخاصة العمومي- تحديات كبيرة تعيق مواكبته العصر، وتمنعه من تحقيق التنمية الاقتصادية والإنسانية المرجوة ، وما وجود أغلب الجامعات والكليات العربية في ترتيب متدني بالنسبة لتحصيل المعارف وحل الاشكاليات العلمية، وكذلك امتلاك القدرة على التواصل باللغات الاجنبية الا برهاناً على أن الساهرين على العملية التعليمية في حاجة الى فتح حوارات واسعة حول كيفية تدارك الامر، حتى لا تعيش الأجيال الحالية والقادمة الاخفاق والجهل .
وقد كان التعليم العمومي كان في وقت ما ، خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ، مفخرة جل شعوب المنطقة التي استقلت حديثا آنذاك ، حيث وفّر كوادر هامة ساهمت في ارساء قوام الدولة الحديثة، وكان اغلب هؤلاء الكوادر والمثقفين ينتمون إلى الطبقات الفقيرة، وأحيانا من أوساط ريفية ، مكنتهم المدرسة العمومية من مجانية التعليم وفتحت لهم ابواب المنافسة على أساس القدرات الذهنية والفكرية دون تأثير من أصولهم الاجتماعية والطبقية…

أما اليوم ، يشكو التعليم العمومي من ضعف الامكانيات، أمام محدودية الميزانيات التي تخصصها الدولة والتي لا تتجاوز في جل البلدان العربية ال4 بالمائة من الدخل القومي ، بسبب العجز المتزايد في المالية العمومية وضغط المؤسسات المالية المانحة للقروض، التي تشترط الحد من الإنفاق العمومي ،إضافة إلى ارتفاع اعداد المتخرجين الذين لا يمكنهم الحصول على شغل بسبب اختصاصاتهم التي لا تستجيب الى ما يحتاجه سوق الشغل المحدود .
وفي المقابل تعوّل دول الخليج العربي على كفاءات أجنبية في القطاعين العمومي والخاص، اذ لم يحقق “توطين الوظائف” الذي بدأ منذ عقود النجاح المطلوب. وفي الوقت الذي تزداد فيه الحاجة إلى أعداد متزايدة من العمالة الأجنبية، خاصة في الاختصاص، ترتفع نسب البطالة من ضمن خريجي الجامعات الخليجية. .

ومن أهم اشكاليات التعليم اليوم هو ضعف جودته وعدم ملائمته لاحتياجات المنطقة التنموية ، فأغلب التعليم العمومي لازال يعتمد على الاساليب التقليدية ، اضافة الى ضعف الامكانيات والتجهيزات ومحدودية تكوين الاطار التربوي وهذا ما جعل التعليم الخاص ، ذي الاختصاصات العصرية والامكانيات المادية والمستقبل الواعد بالنسبة للطلبة يتطوّر من سنة الى اخرى ، ليرسم تحديات جديدة حول مدى تساوي الفرص بالنسبة للتلاميذ والطلبة ، ويلوح بإمكانية تعليم عمومي عقيم ينتج مزيدا من اصحاب الشهادات العليا المعطلين عن العمل ، نظرا لعدم حاجة البلاد الى اختصاصاتهم وتعليم خاص مواكب للعصر ويزوّد بالمعرفة المطلوبة والاختصاصات العلمية الحيوية، إن ضعف أداء التعليم العمومي أدى كذلك الى ظاهرة التسرب المدرسي ، فحسب اليونيسيف، إن حوالي 22 مليون طفل وطفلة في المنطقة ممن هم في سنة الدراسة ، هم إما خارج مقاعد الدراسة أو معرضين للانقطاع.
وعمّقت الازمات السياسية والحروب الاهلية من اشكالية الانقطاع المدرسي في عديد بلدان المنطقة، اذ ان الحرب في سوريا واليمن والعراق قد دمرت في السنوات الاخيرة 8850 مرفقاً تعليمياً حتى سنة 2019، وفي سوريا يوجد حوالي مليوني طفل خارج مقاعد الدراسة وحوالي مليون ونصف اخرين معرضين لخطر التسرب اذا ما استمر الوضع على ما هو عليه.
علاوة على ذلك، فإن أزمة كوفيد-19 زادت من تعميق الفوارق الاجتماعية وأظهرت، أ ن أبناء محدودي الدخل لا يستطيعون متابعة الدروس عن بعد خلال فترة الحجر الصحي، لانهم لا يمتلكون الوسائل الضرورية لذلك (جهاز حاسوب ، الربط بالأنترنت، فضاء خاص ، مدرسون جاهزون…)، فقد اشارت نشرية “رؤى” الى دراسة قامت بها منظمة الامم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) إلى أن 32.2 من تلاميذ الأردن لم يتمكنوا من الانتفاع من “درسك” الذي بعثته وزارة التربية لتلاميذ المدارس العمومية .

هشاشة اوضاع المرأة

 ولم تعمّق ازمة كوفيد 19 من الفوارق الاجتماعية فحسب، بل عمقت من حدة الفوارق بين الجنسين. ، فرغم التطوّر الذي عرفه تعليم البنات في العقود الاخيرة، فإن الفجوة بين الجنسين على مستوى الدراسة الثانوية لازالت قائمة. كما أن المنطقة التي تعرف أعلى نسبة بطالة شباب في العالم (حوالي 25 بالمائة) تصل ضعفها للإناث مقارنة بالذكور، ناهيك إلى التشغيل الهش الذي يتمثل في الاعمال الزراعية والمنزلية دون تغطية اجتماعية. وفي المغرب وفلسطين، يعمل أكثر من نصف العاملات بصيغة جزئية، وفي مصر، تشتغل 33 بالمائة من النساء في القطاعات الهشة وغير المستقرة. وما يمكن استنتاجه هو أن النساء في منطقة الشرق الاوسط يتركز عملهن في قطاعات هشة ، لا توفر حماية اجتماعية وهما قطاعي الزراعة والاشغال المنزلية.

الخلاصة

لئن ارتبط مفهوم الدولة الحديثة بالمواطنة والمشاركة السياسية وتأمين التداول السلمي على السلطة ووجود سلطات تعديلية مستقلة ، فان الدولة في العالم الثالث وفي المنطقة العربية خصوصا ارتبطت بالقمع والتسلط ، و حتى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي وفرتها دول الاستقلال فإنها لم تكن سوى على سبيل المقايضة لشراء السلم الاجتماعي ولم تكن حقّا انسانيا ومواطنيا مشروعا ، الى ان وصلت الانظمة ، بعد عقود من القمع السياسي، الى طريق مسدود نتيجة تفاقم البيروقراطية وتعميم الفساد الاداري والمالي واستشراء الظلم، بعد ان اضافت الى احتكار السلطة الاستيلاء على الثروة وتوزيعها دون شفافية أو قانون ، وبعد ان قلصت العولمة مدى نفوذها الاقتصادي ودورها الاجتماعي وحولتها الى كيانات رخوة، تعيش في اغلبها على الاقتراض وما يستتبع ذلك من تحكّم في ارادتها واختياراتها. وهكذا رغم الثروات المادية من نفط وغاز ومواد طبيعية أخرى ورغم النسبة الكبيرة من الشباب في الهرم السكاني الذي يمثّل طاقة انتاج حيوية ، فإن الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية تشكو الان من عديد التحديات التي تهدد المنطقة العربية بمزيد الانتفاضات والهزات الاجتماعية. اذ ان دولة الريع التي اغدقت الوظائف وقدمت الرعاية خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي وكانت محركاتها اسعار الطاقة تواجه اليوم صعوبات في مواصلة نفس التوجه، بسبب المسار السياسي الجامد وغياب عملية نمو اقتصادي متناسق، لان “المؤسسات الاستخراجية التي تدار فيها الحوافز والفرص لدى مجموعة فاعلة ومحدودة لا تحدث النمو الاقتصادي ولا تحوّل الموارد الى استثمارات ومهارات ولا تحمي حقوق الانسان الاساسية، بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

كما عرفت البلدان الاخرى التي تشح فيها الموارد الهيدروكربونية ، مثل الاردن ولبنان ومصر ، تراجعا عن دور الدولة في كافة مجالات الرعاية ، منذ ان أقرّت سياسات الاصلاح الهيكلي الذي فرضتها توصيات المؤسسات المالية العالمية ، فبالإضافة الى تفكيك القطاع العمومية تفككت منظوماتها الاجتماعية تدريجيا بالتوازي مع ما تعرفه من صعوبات اقتصادية ، وتفاقمت مظاهر الفقر والبطالة من سنة الى اخرى وقد كشفت ازمة كوفيد 19 أكثر عن ضعف المنظومات الاجتماعية ، بما فيها الرعاية الصحية والتعليم…

وحتى في تونس التي اقر دستورها الجديد (يناير 2014)في عديد فصوله الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، مستندا في ذلك الى مرجعية “الثورة” و”مطالب الشباب المنادي بالعدالة الاجتماعية “، فإنها اخفقت في تحقيق النمو والتنمية والعدالة، لأنها لم تغيّر من نهجها الاقتصادي الذي تسبب في سقوط نظام ابن علي سنة 2011، رغم الانفتاح السياسي ولم تحدّ من سيطرة شبكات الفساد والمصالح التي زاد من سطوتها ضعف الدولة وهشاشة القوانين.

لذلك فان الدول العربية مدعوة اليوم ، لا فقط الى تطوير نظمها السياسية التي تسبب استبدادها في انهيار السلطة في عديد البلدان وفقدانها للكثير من مصداقيتها في دول اخرى ، بل ايضا إلى أن تستعيد دورها في تنمية الاقتصاد واستغلال طاقات ثلثي السكان الذين يشكون العطالة ، أي قطاعي الشباب والنساء. وأن يقتنع الجميع بان ليست عوامل الجغرافيا ولا التاريخ ولا الثقافة هي فقط المسؤولة عن التقدم الاقتصادي، “بل ان المؤسسات السياسية والاقتصادية التي يصنعها الانسان هي التي تشكل اساس النجاح الاقتصادي أو فشله” . والاكيد انه ما لم تتحقق عدالة اجتماعية وحوكمة رشيدة في اطار نظام حكم ديمقراطي خاضع للمساءلة فان المنطقة ستعرف مزيدا من الهزات والحروب الاهلية.

و أما الدول التي عرفت انتفاضات شعبية ، فإنها في حاجة الى بناء الدولة على اسس مغايرة ، اذ هي مطالبة اولا بتحقيق عدالة انتقالية حقيقية تقع خلالها محاسبة كل من تورط في اساءة استعمال السلطة والكشف عن عقود من

الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو شرط اساسي قبل الانتقال الى مرحلة المصالحة الشاملة المبنية على حوار وطني حقيقي ينهي كل اشكال النزاعات السياسية المربكة مثلما يحدث في تونس أو المسلحة مثلما يحدث في ليبيا وسوريا واليمن،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *