أوراقإصداراتالدولتونسمنتدى دعم

الفايسبوك التونسي: أداة للحرية أم بوق للعامة؟

منتدى دعم

بقلم

علي مهني

ما قبل الثورة: من “الأنترنات” إلى “الفايسبوك”

بداية من سنة 2007، كنت أدرس خارج تونس في دولة من دول الإتحاد السوفييتي سابقًا ولم يكن بالمدينة تونسيون كُثر. فكان مؤنسي الأول “الأنترنت” وخاصة مواقع الفيديو. كان دفق الأنترنت (على ضعفه مقارنة بالآن) قويًا جدًا مقارنة بالخدمة ذاتها في تونس. فهمت لاحقًا أن هذا أيضًا من سياسات الدولة والحكام للتضليل والتوجيه. على عكس عاداتي في الإبحار على الأنترنت بتونس، صرت أبحر ساعات وساعات بحثًا عن محتوى يستهويني أو لا. إلى أن بدأت أصل إلى محتوى لم أكن أره في “الأنترنت التونسي” (وأنا مُصر على هذه العبارة لما سيصير معناها لاحقًا في هذا المقال). منتديات ومقالات وغرف محادثات تنقد وتشتم النظام (بن علي والحكومة والطرابلسية، وقتها) علنًا. أذكر أول لحظات لي وأنا أقرأ تلك السطور من مدونة TunieZine للمرحوم زهير اليحياوي، أول شهيد ومناضل “إلكتروني”، أو كلمات Extravaganza اللاذعة. كان محتوى نصوصهم كفيلًا بأن يجعلك تنظر حواليك لتتأكد من أن لا أحد يراك أو ينصت إليك وأنت تقرأ ساكنًا تلك الكلمات، حتى وأنت على بعد آلاف الكيلومترات من تونس. هي عادة زرعها الخوف من النظام فينا منذ الصغر إلى أن صارت راسخة باطنة.
صارت هذه المدونات مزارًا يوميًا لي، ولئن لم أجرؤ على الكتابة والتعليق بعد، فذلك فعل يستوجب مستوى أعلى من التغلب على الوسواس الكامن وشجاعة تضاهي النضال.

tunezine

في يوم من أيام 2008، كنت كعادتي على ال YouTube، تتلقفني الفيديوهات كأغلب رواد هذا الموقع، لتعترضني “منشورات صوتية” (كما كان النظام يسميها في التهمة الموجهة لكل رافض وناقد له) وفيديوهات من الرديف : مئات المواطنين الهائجين في الشوارع والصارخين جهرة بشعارات “ليلى يا حجامة، واكلة فلوس ليتامى”. لوهلة، وقف الدم في عروقي رهبة. دع عنك كل ما كتبته سابقًا. ليس السامع كالقارئ وليس القائل كالسامع. شاهدت فيديوهات أخرى، بحذر (أذكر أني بعيد عن تونس آلاف الكيلومترات): سواد بزات الشرطة يغطي المقاطع، رشق للحجارة، كر وفر و”كرتوش حي”. لم تغادر الفيديوهات مخيلتي لأيام إلى أن بدأت أسأل أصدقائي المهاجرين بدول أخرى (فرنسا، ألمانيا، أستراليا، كندا، قطر…) عن هل شاهدوا ما شاهدت وأكدوا كلهم ذلك إلى أن تجرأت وسالت بعض الثقات من أهلي وأصدقائي (كان جلمود بن علي مرعبا لدرجة بث الشك بين الأقارب، وكم من أقاربي كان من اللذين يحجبون حسابي الفايسبوكي ليصبحوا الآن معبرين صريحين عن كل رأي و “تنبير” سياسي يلوج بأذهانهم). تعجب كل من سألتهم في تونس، من سؤالي. لم يكن أحد أعرفه يعلم! الداخلية قطعت كل وسائل التواصل عن منطقة الرديف، التعزيزات الأمنية كانت خيالية وأكثر تقريبًا من التي تم اللجوء إليها في أحداث سليمان.

تعرفت وقتها أيضًا شيئًا فشيئًا إلى مدونات وحسابات أخرى، بأسماء مستعارة أو مباشرة، كعزيز عمامي، سليم عمامو، فاطمة Arabica والعظيمة لينا بن مهني. تحولت المعارضة الإلكترونية من المدونات إلى الفايسبوك، مع بروز نجمه بداية من 2008، وخاصة في 2010، حيث طور النظام أيضا سبله من خلال الإختراق لحسابات الناشطين، بل واختراق المجموعات والصفحات من خلال شباب الحزب الحاكم على الفيسبوك. نعم، ليست “الجيوش الإلكترونية” بجديدة على تونس، سواء كان ذلك يتم بتنسيق أو بدون.
وجدت هذه الأسماء من من تغلب على عقد الخوف الراسخ من بن علي، في الأنترنت ثم الفايسبوك منذ 2005، متنفسا يكتبون فيه ما لا يجرؤ أحد أن يقوله أو يقرأه حتى. وكانت 2005 سنة بداية هذا النوع الجديد من النضال السري، رمزًا، إذ نظمت سنتها تونس القمة المتوسطية للمعلوماتية وكان من جرأة النظام على الشعب، أن دعا وفدًا من الكيان الصهيوني (بزعامة نتنياهو) إلى تونس. هنا بدأت “حرب عصابات” إلكترونية بين مدونين ومدونات غير منظمين، ضد نظام اكتشف حديثًا هذه الثغرة التي بدأت منها الهزيمة، ليعزز قدراته الدفاعية يوما بعد يوم، من الحجب إلى قطع الأنترنت، إلى حجب مواقع عالمية (الفيسبوك، يوتيوب) وصولًا إلى الإيقاف والتعذيب الجسدي للناشطين -ات الإفتراضيين-ات.

الفايسبوك: صوت من لا صوت له؟

لمع نجم الفيسبوك مباشرة بقوة بعد الثورة، كأحد أهم الفواعل والعوامل التي ساعدت على نجاح الإنتفاضة الشعبية، توثيقها وإيصال رسالتها لكل أصقاع العالم، في جو من النشوة الشعبية.

Thank you facebook
0
عدد مستخدمي الفايسبوك في تونس

لأنه أصبح تدريجيًا الإسم الحركي للأنترنات (كما يسمي أغلب التونسيين “مساحيق الغسيل” OMO نسبة للمنتج الأشهر في السوق، صار المواطن العادي يسمي الأنترنات “فايسبوك” حتى أن بعض المزودين صاروا يوفرون باقات استخدام أنترنات للفايسبوك وحده). وتعاظم عدد مستخدمي الفايسبوك في تونس إلى أكثر من 8 ملايين هذه السنة وهي من أعلى نسب الاستخدام مقارنة بعدد السكان في القارة الأفريقية.

صارت الصفحات الفيسبوكية وأصحابها شخصيات هلامية للرواد الجدد اللذين لازالوا يكتشفون خصوصيات وأدوات الحساب العادي. كان بعض “الأدمينات” واعين-ات تمامًا بهذه السلطة النسبية لهم-ن على متابعي-ات صفحاتهم-ن، واللذين-اللاتي كانوا-كن ي-تسمين وقتها “المعجبين”، فلئن يوفر الفيسبوك وأشباهه من المنصات جرعة من الهرمونات المسببة للإدمان كالدوبامين، فما بالك بالكمية التي يوفرها لمدير صفحة تصله عشرات-مئات الرسائل والتفاعلات يوميا؟

صارت الصفحات وقتها مصدرًا رسميًا أولًا للأخبار والحصريات، في كل المواضيع من الموسيقى (مع ارتفاع شعبية الراب التونسي وقتها)، إلى الساحرة المستديرة كرة القدم وصولًا إلى السياسة، خاصة في فترة “اللجان الشعبية” التي خرجت لحماية الأحياء، عندما تسببت بعض وسائل الإعلام في أحداث دامية في بعض الأحياء بنقلها لأخبار مغلوطة دون التثبت. جاء الفيسبوك هنا بديلًا شعبيًا للمعلومة “الأكيدة” ، مستفيدًا من انعدام الثقة في الإعلام الذي خدم النظام لسنوات، خاصًا كان أو عموميًا، رغم مسارعة البعض للباس الثورية والضحية “العبد المأمور” تحت طغيان بن علي .

Facebook users in Tunisia

عدد مستخدمي الفايسبوك في تونس*

مع تطور الفيسبوك وخوارزمياته بل ومخططه الاقتصادي الربحي، تعدل الاستعمال “العادي” له.
بدأ “المعجبون” ينقلبون على مديري الصفحات ويطلبون مساحات أكبر للتعبير، فكأن القناع الهلامي للأدمينات (مسيري أو مديري الصفحات) قد سقط وانكشف للكل سر المعبد الأزرق: يستطيع أي كان أن يصبح “مديرًا” لصفحة، ليس من المهم ان تكون عارفًا. هنا وبعد طفرة في عدد الصفحات وعدم وصولها للأعداد الخيالية من المعجبين التي كانت تصلها في فترات وجيزة ومع ظهور وسائل أخرى لتكبير الصفحات (وهي كما اللفظ تماما ومعناه الطبي التجميلي: تكبير زائف بمعجبين زائفين)، بدأت المجموعات بالظهور والتوسع خاصة وهي التي توفر مساحة متساوية للجميع وعلاقة أفقية بين الأدمين والعضو (لم يعد يسمى معجبا أو متابعا حتى).

وصلت بعض الصفحات إلى رقم المليون معجب وأكثر، لكن إحساس المديرين بالنشوة تحول إلى مصدر لمدخول مادي يسير لدى البعض، فمنذ سنوات قليلة، بدأ المستخدم التونسي للفايسبوك بملاحظة محتويات غريبة عن “موضوع” الصفحة التي يتابعها: محتوى هجين مدفوع الأجر أو تطوعا أحيانًا.

تطور هذا الفعل لتتحول هذه الصفحات إلى واجهات إعلانية، يرتفع سعر النشر فيها حسب عدد المعجبين. وبما أن الحملات الانتخابية هي حملات إشهارية مؤقتة للأحزاب السياسية المترشحة، لم يفت القائمين على الأحزاب أو شركات الإشهار والتواصل التي تتعامل معها أن تضع الفايسبوك وأدواته نصب عينيها كأداة ممكنة للوصول للناخبين المحتملين. ليتطور هذا الفعل العشوائي ويتنظم أكثر وصولا إلى انتخابات 2019 الرئاسية والتشريعية وتقرير DFR Lab المسمى “عملية قرطاج” الذي يدعي محاولة بعض المترشحين للتأثير على الناخبين عبر الفايسبوك من خلال شركات مختصة وخدمات متقدمة.

لئن صار الفايسبوك منصة تعددية لإبراز الرأي والرأي الآخر، إلا أن خوارزمياته المعقدة الهادفة لجني أكبر ربح مادي ممكن صنعت مجموعات رأي تضخم أفكارًا بذاتها في عيون متبنيها. كما تبين العبارة الشهيرة التي لا صاحب لها “إن كان المنتج مجانيا، فأنت المنتج في الأصل.”، فإن فايسبوك يبيع “مستخدميه. علاوة على البيانات التي ينتهكها ويستبيحها مرار وتكرارًا ثم يعتذر، فإن المنتج الأصلي الذي يبيعه الفايسبوك أصلًا هو متوسط استخدام المشتركين له، أي متوسط الوقت الذي يقضيه الفرد يوميًا على الفايسبوك. ليضمن استمرار الفرد في التصفح لساعتين على الأقل، تعمل الخوارزميات على إبراز محتوى يحبه المستخدم، سواء كان قططا أو سيارات أو مقاطع مضحكة أو نشريات سياسية تشبه مواقفه الإيديولوجية والسياسية. خلف هذا إحساسًا لدى البعض بأنهم يسيطرون على الفايسبوك وأن فكرتهم وقضيتهم هي الغالبة بينما هم في الحقيقة يرون فقط أشباههم في الرأي. وصل الأمر ببعض السياسيين في الانتخابات الفارطة في 2019 إلى التنبؤ بوصولهم إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية في تونس، بينما لم تتجاوز نسب التصويت لهم الأرقام الفردية.

من سخرية الأقدار، أن كان “النظام البوليسي” من أبرز المنتفعين بالثورة وحرية التعبير والتنظم.

تنظم أفراد الأسلاك العمومية الحاملة للسلاح بعد الثورة في نقابات عمالية مختلفة حسب الأسلاك. وإذ برز الفيسبوك كأداة تواصلية ووسيلة إعلامية لمن لا منبر له، إلتجأت هذه النقابات شأنها شأن الكل من وزارات ومؤسسات مختلفة إلى الفايسبوك للوصول إلى جمهور المواطنين. أنشأت النقابات صفحات لها منذ 2011 وتجددت بعضها، تحت أسماء رسمية أو مسميات أخرى (أسود الوطن، الأمن الجمهوري). لكن الملاحظ في السنوات الأخيرة أن هذه الصفحات باتت تبث وتنشر محتوى آخر إضافة لرسائلها العمالية النقابية. تطور الأمر ليصبح خطرًا أكثر خلال الإحتجاجات الاجتماعية الأخيرة منذ أكتوبر 2020، إذ أصبحت هذه الصفحات تنشر منشورات لا تحترم خصوصيات التحقيقات الأمنية وتكتب رأيها مباشرة في السياسة والسياسيين دون الحياد المفروض عليها لخدمة المؤسسات الوطنية والمواطنين كافة دون تمييز . بل إن بعض المنشورات تنظر أخلاقيا لأفعال ولباس ومنظر المواطنين (الشباب المشاركين في الإحتجاجات مثلًا) في تدخل سافر في الحريات الفردية، علاوة على التهديد المباشر بالعصيان ضد القيادات الأمنية وإلقاء القبض على بعض المتظاهرين أو الاعتداء عليهم وعلى وممتلكاتهم حتى، دون أذون سابقة.
وبناء عليه، تكررت الإيقافات أيضا في السنوات الأخيرة لبعض المواطنين (مدونين سابقين كانوا أو مجرد مواطنين يمارسون حقهم في التعبير)، بسبب تدوينات مكتوبة أو فيديو على الفايسبوك، تحت تعلة “الثلب عبر وسائل التواصل الاجتماعي” بناء على قانون لا يحتوي عل عبارة “وسائل التواصل الاجتماعي” أصلا (مجلة الاتصالات).

مع المحاسن التي أتى بها الفايسبوك، أتت تباعا بعض المساوئ. فنفس الفايسبوك التي صار أداة يوصل بها الأقليات صوتهم، أصبح أيضًا بوقًا مضخما للواقع ولرأي الأغلبية وأخلاقهم أيضًا. فليست الآراء المخالفة والمضادة لأسمى تجليات حقوق الإنسان، على اختلاف ميزوجينتها ورهابها من الإختلاف، إلا تجسيمًا لرأي العموم في القضايا التي طرحها الأقليات، فكرية أو حقوقية كانت، لاختلافها عن السائد المألوف، دون محاولة النقاش فيها أصلًا، في محاولة من المجتمع للدفاع عن قناعاته وأخلاقه الراسخة المتوارثة من العرف والدين. لم تعد المنشورات الميزوجينية المحقرة للمرأة والأخرى العنيفة كل ضد اختلاف في الملبس والشكل والفكر بنادرة بل سائدة، خاصة مع سياسات الفايسبوك التي لا تفرق بين عنف ورأي مخالف (كما هو الحال في الإنتفاضة الإلكترونية الفلسطينية الأخيرة).

استغل بعض مديري المجموعات والصفحات الفايسبوكية المنزوية تحت ظل أحزاب أو شخصيات سياسية، سواء بتنسيق أو بدون، إلى اللعب على هذا الوتر الحساس: أخلاق العامة، لتتمظهر كالمدافع الأخير عنها أمام زحف “حقوق الإنسان” والمنظمات الحقوقية. يصل هذا الدفاع إلى التخوين والثلب أحيانًا، وربما لم تتفق كل الأطياف السياسية في تونس، إلا في هذه النقطة من الأحزاب الإسلامية إلى المحافظين وحتى أقصى اليمين الإقصائي “التجمعي”.
في الأثناء، مازال الفايسبوك يحاول إيجاد أدوات وسياسات تقنع كل رواده مع اختلاف آرائهم إلا أنه التجأ للقمع الإلكتروني مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ومع كل منشور يذكر المقاومة الفلسطينية أو حتى لفظ “الأقصى” ليعتذر لاحقا كعادته على ذلك.

لينا بن مهني
ناشطة حقوق وصحفية التونسية لينا بن مهني

أي مستقبل لحرية الرأي المخالف لرأي الأغلبية في ظل مجتمع ممانع للتغيير ومنصات تواصل اجتماعي تتخبط محاولة العثور على تعريف موحد للحرية، مع تحدي الأنظمة السياسية المختلفة في المنطقة أيضا؟ 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *