أوراقإصداراتالدولتونسمنتدى دعم

مواقع التواصل الاجتماعي وأثرها على الديمقراطية: فيسبوك نموذجًا

منتدى دعم

بقلم

نقيب الصحفيين التونسيين السابق الاستاذ ناجي البغوري

حين أقدم البائع المتجوّل محمد البوعزيزي على حرق نفسه يوم 17 ديسمبر 2010 في مدينة سيدي بوزيد، لم تكن تلك أوّل عمليّة احتجاج ضد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بذلك الحجم ضدّ نظام بن علي. فقبل ذلك وتحديدًا يوم 10 مارس من نفس السنة أقدم الشاب “عبد السلام تريمش” وهو أيضًا بائع متجول على حرق نفسه في مدينة المنستير، وشهدت جنازته احتجاجات للأهالي وشعارات ضد نظام بن علي. وقبلهما انتحر شاب ثالث حرقًا بدافع اليأس والاحتجاج بسبب البطالة في مدينة سيدي حسين غرب العاصمة تونس. ما يختلف عن كل هذه الحالات، هو تلك الصورة الصادمة لهذا الفعل التي أقدم عليه شاب بفعل اليأس. هذه الصورة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وأساسًا موقع فايسبوك، ليحوّل حركة احتجاجية معزولة ويائسة إلى فعل مقاومة مجتمعية ضد القهر والظلم.
كانت تونس، كما سائر البلدان التي انطلقت منها الاحتجاجات فيما سمي آنذاك بالربيع العربي، تقبع تحت نظام استبدادي يسيطر بالكامل على المشهد الإعلامي ويسخّر وسائل الاعلام المختلفة للدعاية والتضليل.

فشل الإصلاح في الاعلام التقليدي

عاش الاعلام التونسي أكثر من نصف قرن تحت سطوة السلطة وسيطرتها، وعدا بعض الفترات القصيرة، التي فتحت فيها هوامش الحرية مثل نهاية الثمانينات، والتي كانت بمثابة أقواس سرعان ما تم اغلاقها، ظل الاعلام التونسي وخاصة تحت حكم نظام بن علي، مُسيطر عليه بالكامل من قبل السلطة التنفيذية والأمنية للدولة، وحصرت وظيفته الأساسية في الدعاية والتضليل. فتحت ثورة 2011 أبواب الحرّية على مصراعيها، برفع القيود على النشر والبث وكسر احتكار الدولة للاعلام السمعي البصري، وعرفت البلاد طفرة غير مسبوقة في إطلاق وسائل إعلام متنوّعة. هذا الانفتاح رافقه مناخ سياسي ملائم لممارسة حرية الصحافة وإطار تشريعي جديد ألغى القيود القديمة. لكن الوضع الاقتصادي الصّعب وغياب سياسة عمومية للاعلام تضمن استمرارية تنوّع وثراء المشهد الإعلامي حكَم على عديد المؤسسات بالاندثار، ونجحت وسائل الاعلام التي كانت متواجدة زمن بن علي في الاستمرار، وذلك لارتكاز أغلبها على دعم نفس المنظومة الاقتصادية القديمة، في حين واجه الاعلام المملوك للدولة صعوبات كثيرة في عملية الانتقال من إعلام حكومي إلى إعلام عمومي، يكون قاطرة لبقية المشهد الاعلام في صحافة الجودة والالتزام بخدمة المصلحة العامة. وقد حاولت الحكومات المتعاقبة منذ الثورة السيطرة على الاعلام العمومي وجعله تابعًا لخدمة أجنداتها. وإلى جانب محاولات الحكومات السيطرة على الاعلام العمومي وتغييب السياسات الهيكلية والاصلاحية للقطاع وتركه وحيدًا يواجه مشاكله منفردًا، فقد واجهت عمليات الإصلاح مقاومة داخلية، أي من العاملين بقطاع الاعلام العمومي أنفسهم. فقد شهدت التلفزيون العمومي مثلًا تخّبطًا كبيرًا منذ الأيام الأولى للثورة، ودفع هذا الانقلاب المفاجئ الموظفين، وخاصة في إدارة الاخبار إلى تلمّس طريقهم وسط الفوضى التي سادت أروقة مؤسسة التلفزة الوطنية خاصة للخروج بإعلام جديد بدون تصوّر واضح ولا مرجعيات، لكن لم تنجح هذه المحاولات غير المدروسة ولا المقنّنة. وتبعًا لذلك، انفتحت الأبواب على كل أنواع التدخلات حتى تحولت الى صراعات بين كل الأطراف النافذة من داخل المؤسسة وخارجها للسيطرة على الإعلام السمعي البصري العمومي .

هذا وقد سعت الهيئة التعديلية للقطاع الإعلامي السمعي البصري والمحدثة بموجب مرسوم القانون عدد 116 إلى إحداث إصلاحات جوهرية من أجل اعلام مستقل يلتزم بمبدأ الخدمة العامة . 

ماهر عبد الرحمان، " أزمة السمعي والبصري في تونس"، الدار التونسية للكتاب، الطبعة الأولى 2021
ماهر عبد الرحمان، " أزمة السمعي والبصري في تونس"، الدار التونسية للكتاب، الطبعة الأولى 2021

كما وضعت كراسات شروط لإلزام باعثي القنوات الاذاعية والتلفزيونية بخدمة إعلامية جيّدة تستند إلى رؤية أن وسيلة الاعلام هي خدمة عامة في علاقة بالديمقراطية والنقاش العام وحق المواطن في الاعلام وضمان حرية التعبير، كما تقدّمت كذلك بخارطة لإصلاح الاعلام العمومي، إلا أن بارونات الفساد والمالكين لوسائل الاعلام والمرتبطين بالنظام القديم وكذلك الأحزاب السياسية الحاكمة التي استطاعت ان تجد لها موطئ في القطاع، قاومت بشراسة أي إصلاحات وواجهت فكرة التعديل من أساسها. أمّا الاعلام المطبوع فقد واجه أزمة اقتصادية غير مسبوقة، حيث أغلقت عديد الصحف بسبب نقص التمويلات، والتجأ البعض الآخر إلى العمل بأقل ما يمكن من الإمكانيات وخاصة البشرية، وأصبح التعويل أكثر على “الكتاب” الهواة والعابرين والعرضيين عوض التعويل على الصحفيين المحترفين.

وعمومًا فقد فشل الاعلام التقليدي في أن يكون المجال العمومي ذو المصداقية الذي يحتضن النقاش العام ويشجّع الثقافة الديمقراطية ومبادئ حقوق الانسان، بل سقط أغلبه في الاستسهال والرداءة والاسفاف والجري وراء الإعلانات والدّاعمين والمموّلين بكافة الطرق والسبل، حتى وإن كان على حساب الاستقلالية والجودة. كل هذه الأسباب دفعت الاعلام التقليدي الى خسارة أهم معركة وهي كسب ثقة الجمهور وكسب المصداقية في بلد يتلمّس خطواته الأولى إلى الديمقراطية ويحتاج الفضاء العمومي محايد، وخاصة من جانب وسائل الاعلام المختلفة لتلعب دورها كمرفق عمومي يدفع بالنقاش العام المجتمعي لترسيخ ثقافة الديمقراطية وحقوق الانسان، ويمارس دوره كسلطة مضادة لبقية السلطات العمومية، تراقبها وتساءلها وتفرض ثقافة وسلوكيات جديدة لثقافة المسائلة في مجتمع ديمقراطي وشفاف. 

فايسبوك وسيلة للتحرر من الاستبداد

ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة موقع فايسبوك، في كسر طوق احتكار المعلومات، ومثلت فرصة حقيقية للناشطين والمواطنين على حد سواء، لتبادل المعلومات التي يقع التعتيم عليها، لا سيّما الاحتجاجات الاجتماعية والتفاعل حولها. كما مثلت هذه المواقع فرصة لنقاش مجتمعي حقيقي حول الانتهاكات التي تمارسها النظام. وتشكّلت انطلاقًا من الفضاءات الافتراضية مجموعات شبابية لكسر طوق التعتيم، وتنظيم حملات مناصرة لفضح الانتهاكات. ويمكن القول ان المواقع الاجتماعية، وفايسبوك تحديدًا، لعب دورا أساسيًا في الثورات العربية وخاصة في تونس، ومصر، من حيث الاعلام والتحشيد والمناصرة. 

على الرّغم من هامش الحرّية غير المسبوق التونسيين ولوسائل الاعلام بعد الثورة، الّا أن فكرة أن مواقع التواصل الاجتماعي هي وحدها القادرة على إيصال رسالة ما إلى الرأي العام الوطني، وعجزت وسائل الاعلام التقليدية على إيصالها، وتواصلت ذلك المفهوم في داخل المخيال التونسي. وبدا أيضًا أن هذه المواقع هي وحدها القادرة على توفير فرص أكثر للمواطنين لإيصال أصواتهم لأصحاب القرار وللمساهمة في الشأن العام.

0
مليار شخص

يستخدمون المواقع الاجتماعية 

0
مليار شخص

يستخدمون فايسبوك

وفي تونس بلغ عدد مستخدمي فايسبوك خلال سنة 2020 حوالي 6,9 مليون شخص أي بنسبة 75% من سكان البلاد الذين تفوق أعمارهم 13 سنة .

على عكس وسائل الاعلام التقليدية التي تعتمد في نشر معلوماتها على صحفيين محترفين يلتزمون بالقواعد المهنية في استقاء الاخبار من مصادر معلومة وذات ثقة ومتعددة، ويقومون بالتحري اللازم في المعلومات قبل نشرها، فإن المواقع الاجتماعية تعتمد بشكل أساسي على ما ينشره المستخدمين غير المختصين من معطيات في أغلبها لم يتم التثبت من صحتها ومصداقيتها.

فيسبوك وسيلة لإفشال التجربة الديمقراطية 

كان الاعتقاد لدى الكثيرين، مع كسر حاجز الرقابة والحجب على مواقع التواصل، أن فضاءات التواصل الاجتماعي ستكون أفضل تسجيم لمفهوم حرية التعبير وحق النفاذ إلى المعلومات، وتكريس ثقافة الشفافية والانفتاح. كما ساد الاعتقاد أيضًا، في ظل ضعف الاعلام التقليدي وتعثر الإصلاح واعادة الهيكلة ليكون مرفق للخدمة العامة، فأن مواقع التواصل الاجتماعي ستكون هي المجال العمومي الحقيقي الذي سيرعى النقاش العام حول كيفية بناء مجتمع منفتح وديمقراطي. لكن ما حدث هو عكس ذلك، حيث تحوّلت المواقع الاجتماعية وعلى رأسها فيسبوك إلى معول لتحطيم التجربة الديمقراطية، وإلى آلية لشن حروب رمزية، ومعنوية، حيث انتشرت الأخبار الزائفة، والمضللة، واستعملت الصفحات لتشويه المخالفين، ونشر ثقافة التطرّف العنيف، والتنمر، والمس من كرامة الافراد. وأنفقت الأحزاب التونسية والمترشحين لمواقع القرار في انتخابات ديمقراطية كل الوسائل غير الديمقراطية وغير الأخلاقية لتصفية الخصوم وخلق مناخات من الشحن والعنف والكراهية، وتتواصل هذه الحملات المسيئة والعنيفة ضد الخصوم والمختلفين حتى بعد انتهاء الحملات الانتخابية.  

الحقيقة أن حرية التعبير مثلما تحتاج إلى ضمانات دستورية وقانونية فهي قبل ذلك تحتاج إلى جمهور من المواطنين الملتزمين بالاخلاقيات غير خاضعين لسلطة الأحزاب ومتحررين من التنظيمات التقليدية والقهرية وقادرين على المشاركة في النقاش العام حول معايير الصالح العام .

*هذا الفيديو مترجم للغة العربية 

أصبح الاتصال السياسي للأحزاب والمجموعات السياسية في تونس اتصال سلبي في جزء أساسي منه، وذلك في شكل حملات تشنها هذه الأحزاب والمجموعات على بعضها البعض بشكل لا تحترم فيه أبسط قواعد النقاش العام، وتحولت فضاء المواقع الاجتماعية الى فضاءات للسب والشتم الخطابات العنيفة وخطابات التحريض على الكراهية، في إطار حرب شاملة، حرب الكل ضد الكل. كما تحولت الحملات الممنهجة لضرب الخصوم من قبل الصفحات مدفوعة الاجر والتي يقف خلفها جيوشًا الكترونية، إلى نموذج للتعامل بين كثير من المستخدمين والمواطنين ممّا رفّع من منسوب العنف وبدأ بقصف وتدمير فضاء النقاش الهادئ والرصين المبني على الاختلاف في إطار الاخلاقيات الديمقراطية، وتحول بذلك الى تدمير للتجربة الديمقراطية نفسها.
من جهة أخرى ساهمت هذه المواقع وخاصة الفيسبوك بسبب القواعد التقنية الخوارزمية التي يستخدمها لعرض المضامين إلى سجن الناس في فضاءات مغلقة منسجمة أيديولوجيًا وسياسيًا لا مكان فيها للتنوع يطلق عليها “غرف الصدى”. وبذلك ساهم فيسبوك في الانعزالية الفكرية والاستقطاب الإيديولوجي والسياسي، إذ ينغلق الناس داخل جماعات (مجموعات) سياسية وفكرية وإيديولوجية منسجمة لا تقبل الاختلاف أو النقاش وتبادل وجهات النظر. وعوض أن تحولنا هذه المواقع إلى مجتمع موّحد مترابط بفضل النقاش والتواصل والجدل حصل العكس ذلك، أي قام بالفصل بين الناس بدل أن تكون تلك الفضاء لاكتشاف الآراء المختلفة. وهو خطر قد يحوّل الديمقراطية الناشئة إلى ديمقراطية شكلية تتلاعب بها قوى خفية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *