أوراقإصداراتالدولتونسمنتدى دعم

مكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان: الحريات والحقوق هي المبدأ والإجراءات الأمنية استثناء

يعيش الصحفيون في تونس، وفي العديد من دول العالم، بشكل يومي مواقف يشهدون على انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان باسم مكافحة الإرهاب. ولئن كانت سياسات الحكومات والدول في مكافحة هذه الظاهرة مشروعة على اعتبار أن الأمن القومي وأمن المواطنين يعد أحد الخطوط الإستراتيجية في بناء الدول من حيث الأسس المفهومية والفلسفية، إلا أن ضمان قوة الدولة وتنفيذها للقوانين لا يتم إلا بضمان مواز لظروف إيقاف لا تتعارض مع حقوق الإنسان ومحاكمة عادلة من جهة، واحترام الحريات العامة والفردية وعدم التشدد في الإجراءات الإستثنائية التي تؤثر على حرية المواطنين من جهة أخرى. لكن في أحيان كثيرة يتم الوقوف عند خروقات عديدة لهذه المبادئ.

الانطلاق من حالة واقعية : 

تم منع فريق من الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب، يوم 17 جويلية 2019، من الحديث إلى أحد الموقوفين على ذمة التحري في منطقة سيدي حسين وذلك من قبل رئيس منطقة الأمن. والواضح من خلال هذا التجاوز أن ثقافة احترام حقوق الموقوفين والأشخاص محل التحري والسجناء لم تنتشر بعد لدى أعوان الأمن والسجون. أما في ما يتعلق بسيدي حسين تحديدا، فقد تواترت على الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب العديد من الإشعارات التي تفيد بتعرض الموقوفين إلى انتهاكات تمس من سلامتهم الجسدية والصحية والنفسية، وخاصة الموقوفين على خلفية الاشتباه في قضايا إرهابية.

“منعنا كسلطة عمومية من أداء مهامنا، ذهبنا في زيارة وقائية إلى مركز الإيقاف بمنطقة سيدي حسين السيجومي، قمنا بالمعاينة وتحدثنا إلى أحد الذين استقدمهم الأمن للتحري. أتممنا المعاينات الأخرى في الغرف والمكاتب في المنطقة وقد أخذت منا وقتا طويلا. وعند الخروج وجدنا الشخص ذاته في الوضعية نفسها وهو قيد التحري من أجل شبهة الانتماء إلى تنظيم إرهابي في تونس، أرادت إحدى الزميلات الحديث إليه مرة أخرى لأنه قال لنا منذ أربع ساعات أنه يعاني من أمراض ويتناول الدواء بشكل منتظم، فتم منعنا”.

بهذا التصريح، بدأ رئيس الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب فتحي الجراي سرده للمنع الذي تعرض له زائرو منطقة سيدي حسين، مشيرا إلى أن القانون المؤسس للهيئة ـ وهو قانون أساسي ـ يسمح لفريق الزيارة، سواء وقائية أو استقصائية، بالدخول إلى أي مركز احتفاظ أو سجن موجود في تونس دون سابق إنذار والحديث إلى الموقوفين مباشرة. “لكن رئيس منطقة الأمن بسيدي حسين أبى أن نتحدث إلى هذا الشخص. وقد أمر بعد ذلك بتحويله إلى مركز الإيقاف ببوشوشة بعد أن تحولت صفته من شخص يساعد في التحري إلى مضنون فيه. لقد كان التعامل معه شديدا نوعا ما” حسب رئيس الهيئة، الذي أضاف : 

"يعاني من مرض السكري وله جرح لم يندمل بعد، يجب أن يتلقى دواءه. لقد منعوه عنه".
unnamed
فتحي الجراي
رئيس الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب

تعتبر هذه الحالة نموذجية في قياس كيفية تعامل السلطات مع فكرة حقوق الإنسان والظروف العادلة للإيقاف، فالعديد من مراكز الأمن في تونس وأعوان السجون لم يستوعبوا بعد أن المتهم أولا هو بريء حتى تثبت إدانته بمراحل التحقيق الضرورية ومحاكمة عادلة. ثم إن عون تنفيذ القانون والقاضي لا يتحمل شبهة الموقوف بشكل شخصي، هناك قانون يجب أن يطبق، فإذا كان المذنب مذنبا فسيعاقب بما يمليه القانون. أما أن يبدأ “عقابه” منذ إيقافه فالأمر لا يعدو أن يكون مسا بقوة الدولة في حد ذاتها فالدولة أولا وأخيرا هي جهاز ضخم ومعقد ومحايد وقاهرة.

تدابير قانونية تمس من الحقوق والحريات : 

لن ينسى أحد من الصحفيين والناشطين المدنيين مشروع القانون الذي تقدمت به وزارة الداخلية للبرلمان والذي بدأ في مناقشته في جويلية 2017 والمتعلق بـ”زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح“. فقد كان مشروع قانون يفتح الباب أمام عودة الدولة البوليسية وتكبيل حريات المواطن باسم حماية الأمني ومكافحة الإرهاب. وقد علق على ذلك القانون العديد من القيادات الصحفية والمجتمعية.

مشروع القانون في صيغته الحالية يعد ضربا لحرية الصحافة والتعبير والتظاهر حسب تصريح نقيب الصحفيين التونسيين ناجي البغوري الذي أكد أن هذا القانون “إنقلاب صارخ على الدستور ويجب التصدي له”.

ويشير الفصل الرابع من مشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح، إلى أن كل المعلومات المتعلقة بالأمن في تونس تعتبر أسرارا لا يمكن استعمالها أو مسكها أو تداولها بأي وسيلة من الوسائل (حتى الصحافة) وهذا ما يمكن أن يتناقض مع حقوق النفاذ للمعلومة والعمل الصحفي الإخباري والاستقصائي. ويتعدى الأمر ذلك إلى تسليط عقوبة السجن لمدة عامين وخطية مالية قدرها :  

0 دينار
"لكل من تعمد تحقير القوات المسلحة"

 ولم يذكر القانون أي معنى للتحقير هنا، إذ ربما يتناول مقال صحفي بالنقد بعض التصرفات الأمنية أو العسكرية أو تمكن عمل صحفي من كشف تجاوزات أو اخلالات في القوات الحاملة للسلاح، وحسب الفصل 12 من مشروع القانون فإن ذلك يمكن أن يعتبر تحقيرا. كما يفرض الفصل 7 من مشروع القانون إخضاع التصوير لترخيص مسبّق ويفرض أيضا مراقبة للمادة قبل النشر حتى في حال وجود ترخيص للتصوير، وهو تقنين واضح للرقابة التي طالبت ثورة 14 جانفي إلغاءها وتعتبر حرية الصحافة والنشر والتعبير من إحدى أهم مكاسب تلك الثورة.

وقد استغلت السلطات الأمنية تضامن التونسيين معهم في الحرب على الإرهاب، على اعتبار أنها حرب وطنية يتجمد الجميع من أجلها، وذلك لتمرير قانون يعتبر فاشيا ويؤسس لعودة دولة البوليس وتأزيم الديمقراطية في عمقها. إذ من غير المعقول سن قوانين جديدة لحماية الأمنيين والحال أن المدونة القانونية التونسية تعج بآليات حماية أعوان الأمن والجيش.

إذ بالعودة إلى نصوص قانونية أخرى تعنى بحماية أعوان الدولة، تم العثور على العديد من النصوص القانونية التي تقر إجراءات عديدة لحماية أعوان القوات المسلحة من أمن وجيش وديوانة، من ذلك مثلا القانون عدد 4 لسنة 1969 والمؤرخ في 24 جانفي 1969 والقانون عدد 70 لسنة 1982 المؤرخ في 6 أوت 1982 و القانون عدد 46 لسنة 2005 و المؤرخ في 6 جوان 2005 المتعلّق بالمصادقة على إعادة تنظيم بعض أحكام المجلّة الجزائية و تنظيمها و صياغتها و منها الفصول 125 و126 و 127 و 128 التي تجرّم فعل “هضم جانب موظّف”، والعديد من النصوص القانونية الأخرى التي تعنى بحماية القوات المسلحة من بينها القانون العسكري.

وبناء عليه فإن الدافع لتقديم مشروع قانون آخر خاص بحماية أعوان الدولة الحاملين للسلاح قد يكون سببا في مراكمة ترسانة من القوانين على مسألة تعد مشبعة بالخصوصية والقطاعية والمتعلقة بحماية هذا الصنف فقط من الموظفين العموميين، كل ذلك تحت غطاء شعار خطير ومهم لكل الشعوب في العالم وخاصة التونسيين وهو الحرب على الإرهاب.

دقة التوفيق بين مكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان : 

تواجه العديد من الدول في العالم، ومن بينها دول شمال أفريقيا على غرار تونس وليبيا والجزائر، معضلة انتشار وتفريخ الجماعات الإرهابية التي تطال يد هجماتها المدنيين والمؤسسات العامة والخاصة والسياح والمعدات. ويعتبر انتشار الحركات الإرهابية مسألة مستجدة بالنسبة لتونس فبغض النظر عن الهجمتين الإرهابيتين اللتين حدثتا في تونس سنة 2001 في جربة وأحداث سليمان في الأيام الفاصلة بين 2006 و2007، فإن التونسيين لا يعرفون معنى الهجمات الإرهابية المكثفة التي بدأت في الاتساع بعد ثورة 14 جانفي 2011. وإزاء هذه الحالة فإن التركيز على مكافحة الإرهاب واحترام حقوق الإنسان يعد مسألة دقيقة جدا، إذ لا تنسحب حقوق الإنسان فقط على الموقوفين وإنما الحريات العامة والإجراءات الإستثنائية والحريات الفردية وغيرها من مجالات الحقوق.

المسألة على درجة عالية من الدقة ولا تتحمل الإجابات البسيطة والجاهزة خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار “الخصوصية المحلية” في مقاومة الإرهاب، أي التقدم الهام في الانتقال الديمقراطي في تونس والتأسيس  للديمقراطية ودسترة حقوق الإنسان والحريات العامة من ناحية، ووضع الدولة بعد المرحلة الانتقالية والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية من ناحية أخرى.

وتعتبر هذه الخصوصية حقيقية ولا نجد لها أمثلة متعددة في التجارب المقارنة، وربما  تونس الآن في حاجة إلى بناء مقاربتها المستمدة من هذه الخصوصية، وذلك لا يتم إلا بمؤتمر وطني لمكافحة الإرهاب، تكون هذه النقطة إحدى محاوره. فبناء منظومة سياسية تعددية تعتمد الانتخابات في التداول على السلطة، داخل ظرف اقتصادي صعب وسياق اجتماعي مختنق وقابل للانفجار في أي لحظة وبمجرد القيام بأي إجراء موجع من قبل الحكومة، والأحداث الإرهابية المتتالية.

كل هذه الظروف تتسبب في ضغط كبير على السلطة وعلى المواطنين خاصة وأن وسائل الإعلام في تونس عرفت في بعض المحطات بسهولة تطويعها لصالح الجهات السياسية والمالية. وبهذا يمكن الانطلاق من بعض الأمثلة الدولية التي من الممكن أن تلهمنا في قراءة توافقية بين مكافحة الإرهاب واحترام حقوق الإنسان.

في المحصلة، إن مكافحة الإرهاب في الدول الديمقراطية تعتبر إجراء حساسا للغاية، فمن بين شروط الحفاظ على ديمقراطية الدولة التي تعد الحريات أهم معالمها هو حماية حرية المواطن وأمنه في ذات الحين الأمر الذي يعد مسألة حساسة وتتطلب كفاءة كبرى من قبل السلطات الأمنية والقضائية والعسكرية والمجتمع المدني والصحافة.

تونس مدعوة اليوم إلى استنباط منظومة لحماية أمنها وحرية مواطنيها وحقوق الإنسان لان المسؤولية ليست ملقاة فقط على المنظومة التونسية الديمقراطية في تأمين نفسها، بل إن تونس اليوم تعتبر نموذجها عربيا متفردا عليها أن تجيب عن كل الأسئلة نظرا لأن دولا أخرى تنتظر خلاصها من حروبها الداخلية وتنطلق في البناء والأكيد أنها ستحتاج التجربة التونسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *