أوراقإصداراتالدولتونسمنتدى دعم

آثار قانون المُصالحة في المجال الإداري على مُكافحة الفساد في تونس

تمهيد عام

تتنزل‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬ضمن‭ ‬سلسلة‭ ‬المقاربات‭ ‬القانونية‭ ‬والسياسية‭ ‬التي‭ ‬دأبت‭ ‬‮«‬دورية‭ ‬دعم‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يشرف‭ ‬عليها‭ ‬مركز‭ ‬دعم‭ ‬للتحوُّل‭ ‬الديمُقراطي‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬“دعم”،‭ ‬على‭ ‬عرضها‭ ‬وتتناول‭ ‬بالدرس‭ ‬والتحليل‭ ‬استحقاق‭ ‬مُكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬وعلاقته‭ ‬بسياسات‭ ‬التحوُّل‭ ‬الديمُقراطي‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬وليبيا،‭ ‬مع‭ ‬التركيز‭ ‬بصفة‭ ‬شبه‭ ‬مُطلقة‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬قانون‭ ‬المصالحة‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الإداري‭ {‬القانون‭ ‬الأساسي‭ ‬عدد‭ ‬62‭ ‬لسنه‭ ‬2017،‭ ‬مؤرخ‭ ‬في‭ ‬24‭ ‬أكتوبر‭ ‬2017،‭ ‬منشور‭ ‬بالرائد‭ ‬الرسمي‭ ‬للجمهورية‭ ‬التونسية‭ ‬عدد‭ ‬85‭ ‬بتاريخ‭ ‬24‭ ‬أكتوبر‭ ‬2017،‭ ‬الصفحة‭ ‬3625‭}‬،‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬الذي‭ ‬أسال‭ ‬من‭ ‬الحبر‭ ‬الشيء‭ ‬الكثير،‭ ‬وتفاعل‭ ‬معه‭ ‬السواد‭ ‬الأعظم‭ ‬من‭ ‬الفاعلين‭ ‬المدنيين‭ ‬والسياسيين‭ ‬والقانونيين،‭ ‬ومثل‭ ‬طيلة‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬السنتين‭ ‬المحور‭ ‬الرئيسي‭ ‬لمختلف‭ ‬السجالات‭ ‬والملفات‭ ‬والمُقاربات‭ ‬التي‭ ‬تهتم‭ ‬بملف‭ ‬مُكافحه‭ ‬الفساد‭.‬

واحترامًا‭ ‬لأهمية‭ ‬الأمانة‭ ‬التي‭ ‬أناطها‭ ‬الساهرون‭ ‬على‭ ‬‮«‬دورية‭ ‬دعم‮»‬‭ ‬بعُهدة‭ ‬كاتب‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة،‭ ‬وتقيُدًا‭ ‬منه‭ ‬بضوابط‭ ‬وأدوات‭ ‬التحليل‭ ‬العلمي‭ ‬والمنهجي،‭ ‬فإنه‭ ‬يرى‭ ‬لزامًا‭ ‬عليه‭ ‬مصارحة‭ ‬السيدات‭ ‬والساده‭ ‬القراء‭ ‬بالصعوبة‭ ‬الرئيسية‭ ‬التي‭ ‬اعترضته‭ ‬خلال‭ ‬كافة‭ ‬ردهات‭ ‬إنجاز‭ ‬هذا‭ ‬العمل،‭ ‬والمتمثلة‭ ‬أساسًا‭ ‬في‭ ‬واجب‭ ‬التقيُّد‭ ‬بالحياد‭ ‬العلمي‭ ‬عند‭ ‬تحليل‭ ‬قانون‭ ‬لطالما‭ ‬اعتبرته،‭ ‬أنا‭ ‬ورفيقاتي‭ ‬ورفاقي‭ ‬في‭ ‬حراك‭ ‬‮«‬ما‭ ‬نيش‭ ‬مسامح‮»‬،‭ ‬قانونًا‭ ‬‮«‬لتبييض‭ ‬الفساد‭ ‬ورسكلة‭ ‬الفاسدين”،‭ ‬ولطالما‭ ‬ناضلنا‭ ‬جميعا،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الشرائح‭ ‬العمرية‭ ‬والمهنية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والمدنية‭ ‬والسياسية‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي،‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬إسقاطه‭.‬

ولكن،‭ ‬ورغم‭ ‬جسامة‭ ‬هذه‭ ‬الصعوبة،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬حاولت‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭ ‬احترام‭ ‬الأمانة‭ ‬العلمية‭ ‬وإنجاز‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬يظل،‭ ‬شأنه‭ ‬شأن‭ ‬جميع‭ ‬الأعمال‭ ‬البشرية،‭ ‬مشوبًا‭ ‬بالنقصان‭ ‬الذي‭ ‬أعتذر‭ ‬عنه‭ ‬مسبقًا،‭ ‬ومعرضًا‭ ‬للنقد‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أتمناه‭ ‬عند‭ ‬فتح‭ ‬باب‭ ‬التفاعل‭ ‬والنقاش‭.‬

مقدمة

لطالما‭ ‬مثَّل‭ ‬استحقاق‭ ‬القطع‭ ‬مع‭ ‬ماضي‭ ‬الفساد‭ ‬والاستبداد‭ ‬الذي‭ ‬رفعته‭ ‬ثورة‭ ‬الحُرية‭ ‬والكرامة‭ ‬هدفًا‭ ‬مشتركًا‭ ‬ومعلنًا‭ ‬لكافة‭ ‬الحكومات‭ ‬المتعاقبة‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ،‭ ‬ولطالما‭ ‬اعتبره‭ ‬الخبراء‭ ‬والنشطاء‭ ‬المدنيون‭ ‬والسياسيون‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭ ‬كشرط‭ ‬أساسي‭ ‬لا‭ ‬مندوحة‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمُقراطي‭ ‬السليم‭ ‬والشروع‭ ‬المسؤول‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬الديمُقراطية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬سيادة‭ ‬القانون‭ ‬والمؤسسات‭ ‬وعلى‭ ‬احترام‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والمواطن‭.‬

وفي‭ ‬سبيل‭ ‬تحقيق‭ ‬تلك‭ ‬الغاية‭ ‬السامية‭ ‬تعددت‭ ‬المبادرات‭ ‬الرسمية‭ ‬وغير‭ ‬الرسمية،‭ ‬التشريعية‭ ‬والمؤسساتية،‭ ‬السياسية‭ ‬والمواطنية‭ ‬المدنية،‭ ‬التي‭ ‬انكبَّت‭ ‬جميعها‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬سبل‭ ‬وآليات‭ ‬القطع‭ ‬السليم‭ ‬والناجع‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬الماضي‭ ‬المتخن‭ ‬بشتى‭ ‬أنواع‭ ‬الانتهاكات‭ ‬الجسيمة‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وبمختلف‭ ‬أنواع‭ ‬جرائم‭ ‬الفساد‭ ‬التي‭ ‬استهدفت‭ ‬الأملاك‭ ‬العامة‭ ‬والخاصة‭ ‬وأهدرت‭ ‬مُقدَّرات‭ ‬المجموعة‭ ‬الوطنية‭ ‬دون‭ ‬وجه‭ ‬شرعي‭.‬

ورغم‭ ‬تعدد‭ ‬تلك‭ ‬المبادرات،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬اتفقت‭ ‬في‭ ‬معظمها‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الوجه‭ ‬الأمثل‭ ‬لمعالجة‭ ‬ذلك‭ ‬الماضي‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬عادل،‭ ‬ديمُقراطي‭ ‬وقاطع‭ ‬مع‭ ‬كافة‭ ‬ضروب‭ ‬التشفي‭ ‬والانتقام‭ ‬أو‭ ‬الإقصاء‭ ‬والانتقاء‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬منظومة‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬عديد‭ ‬التحفظات‭ ‬والاحترازات‭ ‬والتجاذبات‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬شابت‭ ‬أعمال‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬التأسيسي‭ ‬عند‭ ‬تناوله‭ ‬لمشروع‭ ‬قانون‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬والتي‭ ‬طغى‭ ‬عليها،‭ ‬بشهادة‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الخبراء‭ ‬التونسيين‭ ‬والدوليين‭ ‬والعديد‭ ‬من‭ ‬منظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬الوطني‭ ‬والدولي،‭ ‬منطق‭ ‬المحاصصة‭ ‬الحزبية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الأعمال‭ ‬توِّجت‭ ‬بالمصادقة‭ ‬على‭ ‬القانون‭ ‬الأساسي‭ ‬عدد‭ ‬53‭ ‬المؤرخ‭ ‬في‭ ‬24‭ ‬ديسمبر‭ ‬2013‭ ‬والمُتعلق‭ ‬بإنشاء‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬وتنظيمها،‭ ‬ثم‭ ‬بانتخاب‭ ‬أعضاء‭ ‬الهيئة‭ ‬العمومية‭ ‬المُشرفة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬التنظيم‭ ‬وهي‭ ‬‮«‬هيئة‭ ‬الحقيقة‭ ‬والكرامة‮»‬،‭ ‬وتسميتهم‭ ‬بمقتضى‭ ‬الأمر‭ ‬عدد‭ ‬1872‭ ‬لسنة‭ ‬2014،‭ ‬المؤرخ‭ ‬في‭ ‬30‭ ‬ماي‭/‬مايو‭ ‬2014‭.‬

وانطلقت‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ‭ ‬ولاية‭ ‬‮«‬هيئة‭ ‬الحقيقة‭ ‬والكرامة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أناط‭ ‬القانون‭ ‬بعهدتها‭ ‬معالجة‭ ‬الانتهاكات‭ ‬الجسيمة‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬منذ‭ ‬شهر‭ ‬جويلية‭/‬يوليو‭ ‬1955،‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬صدور‭ ‬القانون‭ ‬عدد‭ ‬53،‭ ‬والذي‭ ‬لم‭ ‬يستثن‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الانتهاكات‭ ‬الجرائم‭ ‬المتعلقة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬تزوير‭ ‬الانتخابات‭ ‬وبالفساد‭ ‬المالي‭ ‬والاعتداء‭ ‬على‭ ‬المال‭ ‬العام‮»‬‭ (‬الفصل‭ ‬8‭) ‬

ولكن‭ ‬وبالنظر‭ ‬إلى‭ ‬الآداء‭ ‬المهزوز‭ ‬لهيئة‭ ‬‮«‬الحقيقة‭ ‬والكرامة‮»‬‭ ‬وتراكم‭ ‬الخلافات‭ ‬بين‭ ‬بعض‭ ‬أعضائها،‭ ‬وبينهم‭ ‬وبين‭ ‬بعض‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬مؤسسة‭ ‬‮«‬رئاسة‭ ‬الجمهورية‮»‬،‭ ‬و»المحكمة‭ ‬الإدارية‮»‬‭ ‬و»إدارة‭ ‬القضاء‭ ‬العسكري‮»‬‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وبالنظر‭ ‬إلى‭ ‬التغير‭ ‬الجسيم‭ ‬الذي‭ ‬وصَمَ‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬الحاكم‭ ‬إبان‭ ‬الانتخابات‭ ‬التشريعية‭ ‬والرئاسية‭ ‬لسنة‭ ‬2014،‭ ‬والتي‭ ‬أفرزت‭ ‬عودة‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الوجوه‭ ‬السياسية‭ ‬المحسوبة‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬القديم‭ ‬والمدعومة‭ ‬بنفود‭ ‬وأموال‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الأعمال‭ ‬وموظفي‭ ‬الدولة‭ ‬الساميين‭ ‬الذين‭ ‬تعلقت‭ ‬بهم‭ ‬تتبعات‭ ‬قضائية‭ ‬وتدابير‭ ‬احترازية‭ ‬مُختلفة‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬تحجير‭ ‬السفر‭ ‬عنهم‭ ‬أو‭ ‬تجميد‭ ‬أو‭ ‬مصادرة‭ ‬أموالهم‭.‬

ومن‭ ‬جهة‭ ‬ثانية،‭ ‬فقد‭ ‬تعالت‭ ‬بعض‭ ‬الأصوات‭ ‬وبرزت‭ ‬بعض‭ ‬المبادرات‭ ‬التي‭ ‬روَّجت‭ ‬لها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬المرئية‭ ‬والمسموعة‭ ‬والإلكترونية‭ ‬الخاصة‭ ‬والمحسوبة‭ ‬ولو‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مباشر‭ ‬على‭ ‬رجال‭ ‬الأعمال‭ ‬المذكورين،‭ ‬ونادت‭ ‬بضرورة‭ ‬التعجيل‭ ‬بوجود‭ ‬حل‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحريرهم‭ ‬وتحرير‭ ‬أموالهم‭ ‬‮«‬لما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬جدوى‭ ‬إيجابية‭ ‬على‭ ‬الدورة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والمالية‭ ‬للبلاد‮»‬‭. ‬وبلغ‭ ‬الأمر‭ ‬ببعض‭ ‬الأصوات‭ ‬بالمطالبة‭ ‬الصريحة‭ ‬بتشريع‭ ‬عفو‭ ‬عام‭ ‬لفائدتهم،‭ ‬فكان‭ ‬أن‭ ‬أصدر‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬أولى‭ ‬مبادراته‭ ‬التشريعية‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬يخوِّله‭ ‬له‭ ‬الدستور‭ (‬وهي‭ ‬الوحيدة‭ ‬بعد‭ ‬قرابة‭ ‬السنوات‭ ‬الأربع‭ ‬من‭ ‬ولايته‭) ‬والمتعلقة‭ ‬بـ«مشروع‭ ‬قانون‭ ‬المُصالحة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والمالية‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬صادق‭ ‬مجلس‭ ‬الوزراء‭ ‬يوم‭ ‬14‭ ‬جويلية‭ ‬2013،‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬المشروع‭ ‬وأحاله‭ ‬إلى‭ ‬مجلس‭ ‬نواب‭ ‬الشعب‭ ‬للتداول‭ ‬والمصادقة‭ ‬ولكن،‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬كان‭ ‬أيضًا‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬الفئات‭ ‬الشعبية‭ ‬متنوعة‭ ‬المشارب‭ ‬والانتماء‭ ‬والاهتمام،‭ ‬وللعديد‭ ‬من‭ ‬فعاليات‭ ‬وحساسيات‭ ‬وتنظيمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬والسياسي‭ ‬أن‭ ‬نزلت‭ ‬للشارع‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬تحركات‭ ‬مركزية‭ ‬وجهوية‭ ‬متعددة،‭ ‬يتقدمها‭ ‬ممثلات‭ ‬وممثلو‭ ‬حراك‭ ‬‮«‬ما‭ ‬نيش‭ ‬مسامح‮»‬‭ ‬رافعين‭ ‬لشعار‭ ‬مركزي‭ ‬لجميع‭ ‬تحركاتهم‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬لا‭ ‬مُصالحه‭ ‬قبل‭ ‬المُحاسبة‮»‬،‭ ‬ومنددين‭ ‬بتلك‭ ‬المبادرة‭ ‬الرئاسية‭ ‬معتبرين‭ ‬إياها‭ ‬‮«‬عفوًا‭ ‬رئاسيًا‮»‬‭ ‬عن‭ ‬الفاسدين‭ ‬وتطبيعًا‭ ‬صريحًا‭ ‬مع‭ ‬ماضي‭ ‬الفساد‭ ‬وتبييضًا‭ ‬لمختلف‭ ‬مظاهره‭ ‬وممارساته،‭ ‬مستندين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬والأطروحات‭ ‬القانونية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والدستورية‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬عن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المنظمات‭ ‬والخبراء‭ ‬والباحثين‭ ‬المجتمعيين‭ ‬حول‭ ‬اعتبارها‭ ‬مبادرة‭ ‬غير‭ ‬دستورية‭ ‬خارقة‭ ‬للقوانين‭ ‬الوضعية‭ ‬السارية‭ ‬وعديمة‭ ‬الجدوى‭ ‬المالية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬ومطالبين‭ ‬جميعهم‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬السحب‭ ‬الفوري‭ ‬لتلك‭ ‬المبادرة‭.‬

إلا‭ ‬أنه‭ ‬وبعد‭ ‬مرور‭ ‬قرابة‭ ‬السنتين‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬جرت‭ ‬الرياح‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬تشتهيه‭ ‬سُفن‭ ‬الرافضين‭ ‬لقانون‭ ‬المصالحة‭. ‬فمع‭ ‬تصاعد‭ ‬وتيرة‭ ‬الضغوطات‭ ‬المسلطة‭ ‬على‭ ‬صاحب‭ ‬المبادرة‭ ‬التشريعية،‭ ‬وما‭ ‬رافقها‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬اقتصادي‭ ‬واجتماعي‭ ‬مأزوم‭ ‬ومنذر‭ ‬بالانفجار،‭ ‬ومع‭ ‬اقتراب‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الاستحقاقات‭ ‬الانتخابية‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬الانتخابات‭ ‬البلدية‭ ‬وما‭ ‬تتطلبه‭ ‬من‭ ‬اعتمادات‭ ‬مالية‭ ‬مهمة،‭ ‬عادت‭ ‬مبادرة‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬لتطفو‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬مجددًا،‭ ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬الأخذ‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الاحترازات‭ ‬وطلبات‭ ‬التنقيح‭ ‬المتمثلة‭ ‬أساسًا‭ ‬في‭:‬

  • ‭ ‬المبادرة‭ ‬أصبحت‭ ‬تشمل‭ ‬الموظفين‭ ‬العموميين‭ ‬وأشباههم‭ ‬على‭ ‬معنى‭ ‬المادة‭ ‬82‭ ‬والمادة‭ ‬92‭ ‬من‭ ‬القانون‭ ‬الجزائي،‭ ‬ولم‭ ‬تعُد‭ ‬تنسحب‭ ‬على‭ ‬رجال‭ ‬الأعمال‭ ‬وغيرهم‭.‬
  • ‭ ‬المبادرة‭ ‬أصبحت‭ ‬لا‭ ‬تشمل‭ ‬جرائم‭ ‬الرِشّْوة‭ ‬والاستيلاء‭ ‬على‭ ‬أموال‭ ‬عمومية،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬مرتكبوها‭ ‬موظفون‭ ‬عموميون‭ ‬أو‭ ‬شبههم‭.‬

‭ ‬الهيئة‭ ‬المُشرفة‭ ‬على‭ ‬تنفيذ‭ ‬أحكام‭ ‬هذه‭ ‬المبادرة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬مختلطة‭ ‬وخاضعة‭ ‬إلى‭ ‬إشراف‭ ‬رئيسة‭ ‬الحكومة،‭ ‬وإنما‭ ‬أصبحت‭ ‬قضائية‭ ‬صرفة‭ ‬يُشرف‭ ‬عليها‭ ‬الرئيس‭ ‬الأول‭ ‬لمحكمة‭ ‬التعقيب‭ ‬ويُشارك‭ ‬في‭ ‬مداولاتها‭ ‬ممثل‭ ‬النيابة‭ ‬العمومية‭. ‬

ورغم‭ ‬هذا‭ ‬التراجع‭ ‬الظاهر‭ ‬للسلطة‭ ‬التنفيذية‭ ‬في‭ ‬مضمون‭ ‬مبادرتها‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬تُسمى‭ ‬‮«‬مشروع‭ ‬قانون‭ ‬المُصالحة‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الإداري‮»‬،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يشفع‭ ‬لها‭ ‬عند‭ ‬معارضيها‭ ‬الذين‭ ‬واصلوا‭ ‬احتجاجاتهم‭ ‬المُختلفة‭ ‬ميدانيًا‭ ‬وإعلاميًا‭ ‬ولكن‭ ‬أيضًا‭ ‬قضائيًا‭ ‬أمام‭ ‬الهيئة‭ ‬الوقتية‭ ‬لمراقبة‭ ‬دستورية‭ ‬مشاريع‭ ‬القوانين،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صادقت‭ ‬الجلسة‭ ‬العامة‭ ‬لمجلس‭ ‬نواب‭ ‬الشعب‭ ‬على‭ ‬المشروع‭ ‬الجديد‭ ‬المرفوع‭ ‬إليها‭ ‬بواقع‭ ‬115‭ ‬صوتًا،‭ ‬فيما‭ ‬رفض‭ ‬أغلب‭ ‬النواب‭ ‬حضور‭ ‬عملية‭ ‬التصويت‭ ‬خلال‭ ‬جلسة‭ ‬13‭ ‬سبتمبر‭ ‬2017‬.

وبالفعل،‭ ‬فقد‭ ‬توجَّه‭ ‬38‭ ‬نائبًا‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الهيئة‭ ‬التي‭ ‬أناط‭ ‬الدستور‭ ‬بعهدتها‭ ‬مراقبة‭ ‬دستورية‭ ‬مشاريع‭ ‬القوانين‭ (‬ريثما‭ ‬يقع‭ ‬تركيز‭ ‬المحكمة‭ ‬الدستورية‭ ‬طبق‭ ‬الفصل‭ ‬115‭ ‬من‭ ‬الدستور‭). ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الهيئة،‭ ‬وفي‭ ‬سابقة‭ ‬خطيرة‭ ‬من‭ ‬نوعها‭ ‬قررت‭ ‬صلب‭ ‬قرارها‭ ‬عدد‭ ‬8‭/‬2017‭ ‬بتاريخ‭ ‬17‭ ‬أكتوبر‭ ‬2017،‭ ‬‮«‬إحالة‭ ‬مشروع‭ ‬القانون‭ ‬إلى‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬وذلك‭ ‬لعدم‭ ‬حصول‭ ‬الأغلبية‭ ‬المطلقة‭ ‬لاتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬الغرض‭ ‬طبق‭ ‬ما‭ ‬يقتضيه‭ ‬القانون‭ ‬الأساسي‭ ‬عدد‭ ‬14‭ ‬لسنة‭ ‬2014،‭ ‬المؤرخ‭ ‬في‭ ‬18‭ ‬أفريل‭/‬أبريل‭ ‬2014‮»‬‭ ‬وأحيل‭ ‬بالتالي‭ ‬القانون‭ ‬على‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬صاحب‭ ‬المبادرة‭ ‬بسنه‭!! ‬لإمضائه‭ ‬يوم‭ ‬24‭ ‬أكتوبر‭ ‬2017،‭ ‬وهو‭ ‬نفس‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬فيه‭ ‬ونُشر‭ ‬بالرائد‭ ‬الرسمي‭ ‬للجمهورية‭ ‬التونسية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يدل‭ ‬بوضوح‭ ‬على‭ ‬التصميم‭ ‬الموصوف‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬رئاسة‭ ‬الجمهورية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حسم‭ ‬الجدل‭ ‬وتمرير‭ ‬القانون‭.‬

واليوم،‭ ‬وبعد‭ ‬مرور‭ ‬قُرابة‭ ‬السنة‭ ‬على‭ ‬دخول‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬الأساسي‭ ‬حيز‭ ‬التنفيذ‭ ‬يحق‭ ‬لنا‭ ‬التساؤل‭ ‬حول‭ ‬مدى‭ ‬صدقية‭ ‬ما‭ ‬تضمنته‭ ‬وثيقة‭ ‬شرح‭ ‬الأسباب‭ ‬المرافقة‭ ‬له‭ ‬والتي‭ ‬جاء‭ ‬بها‭ ‬أن‭ ‬‮«‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬يهدُف‭ ‬إلى‭ ‬القطع‭ ‬مع‭ ‬ماضي‭ ‬الفساد‭ ‬واستشراء‭ ‬مظاهر‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬المال‭ ‬العام‭ ‬والمحسوبية‭ ‬وتخريب‭ ‬الإدارة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يحق‭ ‬لنا‭ ‬التساؤل‭ ‬حول‭ ‬المردودية‭ ‬التطبيقية‭ ‬التي‭ ‬تتمثل‭ ‬حسب‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬منه‭ ‬في‮»‬تهيئة‭ ‬مناخ‭ ‬ملائم‭ ‬يُشجع‭ ‬خاصة‭ ‬على‭ ‬تحرير‭ ‬روح‭ ‬المبادرة‭ ‬في‭ ‬الإدارة‭ ‬وينهض‭ ‬بالاقتصاد‭ ‬الوطني‭ ‬ويُعزز‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬تحقيقًا‭ ‬للمُصالحة‭ ‬الوطنية‮»‬‭. ‬تمامًا‭ ‬مثلما‭ ‬يحق‭ ‬لنا‭ ‬التساؤل‭ ‬حول‭ ‬نجاعة‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬المالي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬ومدى‭ ‬مساهمته‭ ‬في‭ ‬دفع‭ ‬عجلة‭ ‬الاقتصاد‭ ‬وتيسير‭ ‬دواليب‭ ‬الإدارة‭ ‬التونسية‭ ‬مثلما‭ ‬زعم‭ ‬مناصرو‭ ‬هذا‭ ‬القانون؟

وهي‭ ‬كلها‭ ‬أسئلة‭ ‬مشروعة‭ ‬أرى‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الباحث‭ ‬التطرق‭ ‬إليها‭  ‬للإجابة‭ ‬على‭ ‬الإشكال‭ ‬المركزي‭ ‬التالي‭: ‬

  • ‭ ‬هل‭ ‬ساهم‭ ‬قانون‭ ‬المُصالحة‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الإداري‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬ظاهرة‭ ‬الفساد‭ ‬وكبح‭ ‬جماحها‭ ‬والتصدي‭ ‬لمختلف‭ ‬أشكالها‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬زاد‭ ‬في‭ ‬تفشِّيها‭ ‬وفي‭ ‬تحصين‭ ‬المسؤولين‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬التتبع‭ ‬والعقاب؟
  • ‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬قانون‭ ‬المُصالحة‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الإداري‭ ‬آلية‭ ‬من‭ ‬آليات‭ ‬القطع‭ ‬مع‭ ‬ماضي‭ ‬الفساد‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬مُطية‭ ‬لاستنساخ‭ ‬ذلك‭ ‬الماضي؟

 

وللإجابة‭ ‬منهجيًا‭ ‬عن‭ ‬جملة‭ ‬تلك‭ ‬التساؤلات‭ ‬والإشكالات،‭ ‬وبعيدًا‭ ‬عن‭ ‬منطق‭ ‬التشنج‭ ‬وإسقاط‭ ‬الأحكام‭ ‬المُسبقة،‭ ‬يجدر‭ ‬بنا‭ ‬استهلال‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬باستعراض‭ ‬أهم‭ ‬المؤاخذات‭ ‬والمطاعن‭ ‬المُتعلقة‭ ‬باستحقاق‭ ‬مُكافحة‭ ‬الفساد‭ )‬المبحث‭ ‬الأول)‭ ‬قبل‭ ‬التطرق،‭ ‬ولو‭ ‬بشكل‭ ‬سطحي،‭ ‬إلى‭ ‬أسباب‭ ‬دخول‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬حيز‭ ‬التنفيذ‭ ‬رغم‭ ‬أهمية‭ ‬وحجم‭ ‬المعارضة‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭)  ‬المبحث‭ ‬الثاني)‭‬،‭ ‬والتفرغ‭ ‬ختامًا‭ ‬إلى‭ ‬سبر‭ ‬نجاعة‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬المستويات ‭)‬المبحث‭ ‬الثالث‭(

المبحث الأول: قانون المُصالحة في المجال الإداري: مؤاخذات بالجملة ومطاعن قضائية بالتفصيل

‮«‬أمر‭ ‬دُبِّر‭ ‬بليل‮»‬‭ ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬العبارة‭ ‬التي‭ ‬وصف‭ ‬بها‭ ‬أحد‭ ‬النواب‭ ‬الرافضين‭ ‬للقانون‭ ‬في‭ ‬تعليقه‭ ‬على‭ ‬واقعة‭ ‬ختمه‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬ودخوله‭ ‬حيز‭ ‬التنفيذ‭. ‬

وفي‭ ‬واقع‭ ‬الأمر،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬التوصيف‭ ‬مبالغًا‭ ‬فيه‭ ‬ولا‭ ‬مجانبًا‭ ‬لواقع‭ ‬الأمور‭. ‬فالمُتأمل‭ ‬في‭ ‬نسق‭ ‬حياة‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬مشروعًا‭ ‬يلاحظ‭ ‬انضوائه‭ ‬على‭ ‬مخالفات‭ ‬جوهرية‭ ‬للدستور‭. ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬ضربه‭ ‬عرض‭ ‬الحائط‭ ‬لمبدأ‭ ‬المساواة‭ ‬بين‭ ‬المواطنين،‭ ‬بأن‭ ‬خص‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬ما‭ ‬يقدر‭ ‬بـ0‭.‬05‭ ‬٪‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي‭ ‬بقانون‭ ‬يعفيهم‭ ‬من‭ ‬جرائم‭ ‬وقع‭ ‬ارتكابها‭ ‬من‭ ‬طرفهم‭ ‬ضد‭ ‬سائر‭ ‬المجموعة‭ ‬الوطنية،‭ ‬والحال‭ ‬أن‭ ‬5.2‭ ‬٪‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي‭ ‬البالغ‭ ‬سن‭ ‬الرشد‭ ‬هو‭ ‬محل‭ ‬تتبع‭ ‬جزائي،‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬الكثيرة‭ ‬في‭ ‬جرائم‭ ‬أقل‭ ‬خطورة‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬جرائم‭ ‬الاعتداء‭ ‬على‭ ‬المال‭ ‬العام‭. ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬أيضًا‭ ‬تجاهله‭ ‬لما‭ ‬ورد‭ ‬بتوطئة‭ ‬الدستور‭ ‬وبالفصل‭ ‬العاشر‭ ‬منه‭ ‬‮«‬بالتزام‭ ‬الدولة‭ ‬بحُسن‭ ‬التصرف‭ ‬في‭ ‬المال‭ ‬العمومي‭ ‬وباتخاذها‭ ‬التدابير‭ ‬اللازمة‭ ‬لصرفه‭ ‬حسب‭ ‬أولويات‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الوطني‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬منع‭ ‬الفساد‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬المس‭ ‬بالسيادة‭ ‬الوطنية‮»‬،‭ ‬ضرورة‭ ‬أن‭ ‬إقرار‭ ‬عدم‭ ‬المؤاخذة‭ ‬الجزائية‭ ‬والعفو‭ ‬على‭ ‬الموظفين‭ ‬العموميين‭ ‬وأشباههم‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يتنزّل‭ ‬تحت‭ ‬خانة‭ ‬تبييض‭ ‬هؤلاء‭ ‬الموظفين،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬إخلال‭ ‬صريح‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬الدولة‭ ‬بواجبها‭ ‬في‭ ‬التصدي‭ ‬للفساد‭ ‬ومكافحته‭.‬

وفي‭ ‬ذات‭ ‬السياق،‭ ‬تضمن‭ ‬القانون‭ ‬في‭ ‬فلسفته‭ ‬العامة‭ ‬وفي‭ ‬الإجراءات‭ ‬التي‭ ‬استحدثها‭ ‬ما‭ ‬يُمثل‭ ‬ضربًا‭ ‬صريحًا‭ ‬لقواعد‭ ‬الشفافية‭ ‬والنزاهة‭ ‬والمساءلة‭ ‬المنصوص‭ ‬عليها‭ ‬صلب‭ ‬الفصل‭ ‬15‭ ‬من‭ ‬الدستور‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬به‭ ‬أن‭: ‬‮«‬الإدارة‭ ‬العمومية‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬المواطن‭ ‬والصالح‭ ‬العام،‭ ‬تُنظم‭ ‬وتعمل‭ ‬وفق‭ ‬مبادئ‭ ‬الحياد‭ ‬والمساواة‭ ‬واستمرارية‭ ‬المرفق‭ ‬العام‭ ‬ووفق‭ ‬قواعد‭ ‬الشفافية‭ ‬والنزاهة‭ ‬والنجاعة‭ ‬والمساءلة‮»‬،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬العفو‭ ‬الذي‭ ‬متَّع‭ ‬به‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬الموظفين‭ ‬العموميين‭ ‬الضالعين‭ ‬في‭ ‬ارتكاب‭ ‬جرائم‭ ‬استغلال‭ ‬النفوذ‭ ‬والوظيفة‭ ‬وعدم‭ ‬احترام‭ ‬التراتيب‭ ‬والإضرار‭ ‬بالإدارة‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يُساهم‭ ‬في‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬الممارسات‭ ‬غير‭ ‬القانونية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مُتفشِّية‭ ‬صُلب‭ ‬الإدارة‭ ‬التونسية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬النظام‭ ‬السابق،‭ ‬تمامًا‭ ‬مثلما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يُساهم‭ ‬في‭ ‬التستر‭ ‬على‭ ‬مآل‭ ‬الأموال‭ ‬العمومية‭ ‬المنهوبة‭ ‬وعلى‭ ‬طرق‭ ‬ووسائل‭ ‬نهبها‭.‬

إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬وفضلًا‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬العيوب‭ ‬الدستورية‭ ‬الواضحة‭ ‬التي‭ ‬اعترت‭ ‬مختلف‭ ‬فصول‭ ‬قانون‭ ‬المصالحة‭ ‬الإدارية،‭ ‬فإن‭ ‬طريقة‭ ‬المُصادقة‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬المجلس‭ ‬النيابي‭ ‬كانت‭ ‬بدورها‭ ‬مُخالفة‭ ‬للدستور‭ ‬واعترتها‭ ‬شوائب‭ ‬دفعت‭ ‬بالبعض‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الفساد‭ ‬التشريعي‮»‬‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬التلاعب‭ ‬بمفهوم‭ ‬النص‭ ‬القانوني‭ ‬الواضح،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬تجاهله‭ ‬تمامًا،‭ ‬أو‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬تحميله‭ ‬قراءة‭ ‬لا‭ ‬يحتملُها‭. ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬تعمد‭ ‬الجلسة‭ ‬العامة‭ ‬لمجلس‭ ‬نواب‭ ‬الشعب‭ ‬تجاوز‭ ‬الشرط‭ ‬الدستوري‭ ‬الذي‭ ‬فرضه‭ ‬الفصل‭ ‬114‭ ‬من‭ ‬الدستور‭ ‬والفصل‭ ‬42‭ ‬من‭ ‬القانون‭ ‬الأساسي‭ ‬عدد‭ ‬34‭ ‬لسنة‭ ‬2016‭ ‬المؤرخ‭ ‬في‭ ‬28‭ ‬أفريل‭ ‬2016‭ ‬والمُتعلق‭ ‬بالمجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للقضاء،‭ ‬والذي‭ ‬يقتضي‭ ‬واجب‭ ‬عرض‭ ‬مشاريع‭ ‬القوانين‭ ‬المتعلقة‭ ‬بتنظيم‭ ‬العدالة‭ ‬وإدارة‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬الجلسة‭ ‬العامة‭ ‬للمجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للقضاء،‭ ‬لإبداء‭ ‬رأيها‭ ‬في‭ ‬شأنها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تعمد‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬النواب‭ ‬تجاوزه‭ ‬لأسباب‭ ‬بقيت‭ ‬مُبهمة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الساعة‭. ‬

ولم‭ ‬يقف‭ ‬الأمر‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬كان‭ ‬أيضًا‭ ‬مخالفًا‭ ‬لروح‭ ‬ولصريح‭ ‬مقتضيات‭ ‬الاتفاقية‭ ‬الدولية‭ ‬لمُكافحه‭ ‬الفساد‭ ‬المؤرخة‭ ‬في‭ ‬31‭ ‬أكتوبر‭ ‬2003،‭ ‬والمُصادق‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الدولة‭ ‬التونسية‭ ‬بمقتضى‭ ‬القانون‭ ‬عدد‭ ‬16‭ ‬لسنة‭ ‬2008‭ ‬المؤرخ‭ ‬في‭ ‬25‭ ‬فيفري‭/ ‬فبراير‭ ‬2008،‭ ‬وكذلك‭ ‬بواسطة‭ ‬الأمر‭ ‬الرئاسي‭ ‬عدد‭ ‬762‭ ‬لسنة‭ ‬2008‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬24‭ ‬مارس‭ ‬2008،‭ ‬علمًا‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬الاتفاقية‭ ‬شأنها‭ ‬شأن‭ ‬كافة‭ ‬المعاهدات‭ ‬المُصادق‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬المجلس‭ ‬النيابي‭ ‬تحتل‭ ‬مرتبة‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬القوانين‭ ‬حسب‭ ‬صريح‭ ‬الفصل‭ ‬20‭ ‬من‭ ‬الدستور‭.‬

فالاتفاقية‭ ‬الدولية‭ ‬لمُكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬تضمنت‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الالتزامات‭ ‬المحمولة‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬الأطراف‭ ‬في‭ ‬مادة‭ ‬مُكافحة‭ ‬الفساد،‭ ‬ومنها‭ ‬خاصة‭ ‬ما‭ ‬تضمنته‭ ‬المادة‭ ‬1‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬واجب‭ ‬تدعيم‭ ‬التدابير‭ ‬الرامية‭ ‬إلى‭ ‬منع‭ ‬مُكافحة‭ ‬الفساد،‭ ‬وما‭ ‬تضمنته‭ ‬المادة‭ ‬5‭ ‬من‭ ‬واجب‭ ‬‮«‬سعي‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬إجراء‭ ‬تقييم‭ ‬دوري‭ ‬للصكوك‭ ‬القانونية‭ ‬والتدابير‭ ‬الإدارية‭ ‬بغيَّة‭ ‬تقرير‭ ‬مدى‭ ‬كفايتها‭ ‬لمنع‭ ‬الفساد‭ ‬ومكافحته‮»‬‭ ‬وواجب‭ ‬السعي‭ ‬إلى‭ ‬إرساء‭ ‬وترويج‭ ‬ممارسات‭ ‬فعالة‭ ‬تستهدف‭ ‬منع‭ ‬الفساد،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬واجب‭ ‬سن‭ ‬التدابير‭ ‬التشريعية‭ ‬والإدارية‭ ‬المُجرمة‭ ‬لفعل‭ ‬تعمد‭ ‬موظف‭ ‬عمومي‭ ‬استغلال‭ ‬وظيفته‭ ‬أو‭ ‬موقعه‭ ‬بغرض‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬مزية‭ ‬غير‭ ‬مستحقة‭ ‬لصالحه‭ ‬أو‭ ‬لصالح‭ ‬شخص‭ ‬أو‭ ‬كيان‭ ‬آخر‭.‬

وتأسيسًا‭ ‬عليه،‭ ‬فمن‭ ‬البديهي‭ ‬اعتبار‭ ‬قانون‭ ‬المصالحة‭ ‬الإدارية‭ ‬غير‭ ‬دستوري‭ ‬وغير‭ ‬متطابق‭ ‬مع‭ ‬الاتفاقية‭ ‬الدولية‭ ‬لمكافحه‭ ‬الفساد،‭ ‬طالما‭ ‬أنه‭ ‬جاء‭ ‬لينزع‭ ‬الصِبغة‭ ‬الإجرامية‭ ‬عن‭ ‬أعمال‭ ‬فساد‭ ‬وليُحصِّن‭ ‬مُرتكبيها‭ ‬من‭ ‬المؤاخذة‭ ‬الجزائية‭.‬

وبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬هذين‭ ‬الصعيدين‭ ‬الدستوري‭ ‬والمعاهداتي،‭ ‬فإن‭ ‬قانون‭ ‬المصالحة‭ ‬الإدارية‭ ‬ينضوي‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬خطورة‭ ‬قصوى‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬تكريس‭ ‬الفساد‭ ‬وتبييضه‭ ‬عوض‭ ‬التصدي‭ ‬له‭ ‬ومكافحته‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬القانوني،‭ ‬وخاصه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ضربه‭ ‬الصريح‭ ‬لفلسفة‭ ‬ومقتضيات‭ ‬قانون‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬مثلما‭ ‬سلف‭ ‬ذكره،‭ ‬لتصفية‭ ‬تركة‭ ‬ماضي‭ ‬الفساد‭ ‬والاستبداد،‭ ‬والقطع‭ ‬معه‭ ‬وضمان‭ ‬عدم‭ ‬تكراره‭ ‬توصلًا‭ ‬إلى‭ ‬مصالحة‭ ‬وطنية‭ ‬شاملة‭.‬

فعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تنصيص‭ ‬الفقرة‭ ‬9‭ ‬من‭ ‬الفصل‭ ‬148‭ ‬من‭ ‬الدستور‭ ‬على‭ ‬‮«‬التزام‭ ‬الدولة‭ ‬بتطبيق‭ ‬منظومة‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬مجالاتها‮»‬،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تشديد‭ ‬لجنة‭ ‬البندقية‭ (‬اللجنة‭ ‬الأوروبية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الديمُقراطية‭ ‬عبر‭ ‬القانون‭) ‬بمناسبة‭ ‬التجاء‭ ‬‮«‬هيئة‭ ‬الحقيقة‭ ‬والكرامة‮»‬‭ ‬لها‭ ‬طلبًا‭ ‬لرأيها‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬قانون‭ ‬المُصالحة‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬المالي‭ ‬والاقتصادي،‭ ‬صلب‭ ‬رأيها‭ ‬عدد‭ ‬818‭/‬2015‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬الجلسة‭ ‬عدد‭ ‬104‭ ‬بتاريخ‭ ‬27‭ ‬أكتوبر‭ ‬2013،‭ ‬على‭ ‬واجب‭ ‬ضمان‭ ‬تحقيق‭ ‬قانون‭ ‬المُصالحة‭ ‬للأهداف‭ ‬السامية‭ ‬لمنظومة‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭ (‬النقطة‭ ‬36‭).‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬القانون‭ ‬المذكور‭ ‬في‭ ‬صيغته‭ ‬الختامية‭ ‬قد‭ ‬تجاهل‭ ‬تمامًا‭ ‬ذلك‭ ‬التحصين‭ ‬الدستوري‭ ‬لمنظومة‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية،‭ ‬تمامًا‭ ‬مثلما‭ ‬تجاهل‭ ‬ضابط‭ ‬السعي‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬أهداف‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭.‬

فالمنوال‭ ‬التونسي‭ ‬للعدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬خمسة‭ ‬محطات‭ ‬متسلسلة‭ ‬ومترابطة‭ ‬بوثوق،‭ ‬وتتمثل‭ ‬في‭ ‬كشف‭ ‬حقيقة‭ ‬الانتهاكات،‭ ‬ثم‭ ‬المحاسبة‭ ‬والمساءلة،‭ ‬ثم‭ ‬جبر‭ ‬أضرار‭ ‬الضحايا‭ ‬ورد‭ ‬الاعتبار‭ ‬لهم،‭ ‬فإصلاح‭ ‬المؤسسات،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬المصالحة‭ ‬كتتويج‭ ‬لذلك‭ ‬المسار‭ ‬المتكامل‭.‬

ولكن‭ ‬وعلى‭ ‬نقيض‭ ‬ذلك‭ ‬تمامًا،‭ ‬فإن‭ ‬الإجراءات‭ ‬التي‭ ‬أقرها‭ ‬قانون‭ ‬المصالحة‭ ‬غضت‭ ‬الطرف‭ ‬تمامًا‭ ‬عن‭ ‬استحقاق‭ ‬كشف‭ ‬الحقيقة،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬القانون‭ ‬على‭ ‬طالب‭ ‬الانتفاع‭ ‬بأحكامه‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬مجرد‭ ‬التصريح‭ ‬بجملة‭ ‬المبالغ‭ ‬المالية‭ ‬التي‭ ‬انتفع‭ ‬بها‭ ‬هو‭ ‬شخصيًا‭ ‬أو‭ ‬غيره،‭ ‬دون‭ ‬لزوم‭ ‬تفصيل‭ ‬سبل‭ ‬الانتفاع‭ ‬بها‭ ‬أو‭ ‬كيفية‭ ‬الحصول‭ ‬عليها‭.‬

كما‭ ‬لم‭ ‬يتضمن‭ ‬القانون‭ ‬ولو‭ ‬إشارة‭ ‬ضمنية‭ ‬إلى‭ ‬ضحايا‭ ‬الفساد‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬ومن‭ ‬المؤسسات‭ ‬الخاصة‭ ‬وكذلك‭ ‬الجهات،‭ ‬ولم‭ ‬يُخصص‭ ‬لهم‭ ‬جميعًا‭ ‬أي‭ ‬آلية‭ ‬لجبر‭ ‬ضررهم‭ ‬ولرد‭ ‬الاعتبار‭ ‬لهم،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬المنتفع‭ ‬بهذا‭ ‬القانون‭ ‬بصفة‭ ‬حصرية‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬المتهم‭ ‬بالفساد‭ ‬وليس‭ ‬الضحية،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬مختلف‭ ‬تجارب‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬التي‭ ‬تُعتبر‭ ‬الضحية‭ ‬حجر‭ ‬زاويتها‭.‬

ومن‭ ‬ناحية‭ ‬ثالثة،‭ ‬وانطلاقًا‭ ‬مما‭ ‬صادق‭ ‬عليه‭ ‬الخبراء‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬مُكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬من‭ ‬اعتبار‭ ‬الفساد‭ ‬ظاهرة‭ ‬معقدة،‭ ‬ولا‭ ‬مناص‭ ‬من‭ ‬تفكيكها‭ ‬والتصدي‭ ‬لها‭ ‬دون‭ ‬فهمها‭ ‬وتحليل‭ ‬مختلف‭ ‬العوامل‭ ‬البشرية‭ ‬والإدارية‭ ‬والتشريعية‭ ‬المُساهمة‭ ‬في‭ ‬وجودها‭ ‬وفي‭ ‬ترعرعها‭ ‬وتفشيها،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬يُعتبر‭ ‬تغطية‭ ‬لا‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬ممارسات‭ ‬الفساد،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضًا‭ ‬عائقًا‭ ‬حقيقيًا‭ ‬لفهم‭ ‬تلك‭ ‬الممارسات‭ ‬وتفكيكها‭ ‬وتخليص‭ ‬الإدارة‭ ‬العمومية‭ ‬منها‭ ‬ومن‭ ‬أسبابها‭. ‬ويجوز‭ ‬لنا‭ ‬حينئذ‭ ‬الجزم‭ ‬بأنه‭ ‬قانون‭ ‬يضرب‭ ‬عرض‭ ‬الحائط‭ ‬الركن‭ ‬الأهم،‭ ‬في‭ ‬تقديرنا،‭ ‬من‭ ‬أركان‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬التونسية‭ ‬المعناة‭ ‬رأسًا‭ ‬بمُكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬والقطع‭ ‬مع‭ ‬ماضيه‭ ‬وضمان‭ ‬عدم‭ ‬تكراره،‭ ‬والمُتمثل‭ ‬في‭ ‬إصلاح‭ ‬المؤسسات‭. ‬فلقد‭ ‬نص‭ ‬الفصل‭ ‬14‭ ‬من‭ ‬قانون‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬إصلاح‭ ‬المؤسسات‭ ‬‮«‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬تفكيك‭ ‬منظومة‭ ‬الفساد‭ ‬والقمع‭ ‬والاستبداد‭ ‬ومعالجتها‭ ‬بشكل‭ ‬يضمن‭ ‬عدم‭ ‬تكرار‭ ‬الانتهاكات‭ ‬واحترام‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وإرساء‭ ‬دولة‭ ‬القانون‭. ‬ويقتضي‭ ‬لإصلاح‭ ‬المؤسسات‭ ‬خاصة‭ ‬مراجعة‭ ‬التشريعات‭ ‬وغربلة‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬ومرافقها‭ ‬ممن‭ ‬ثبتت‭ ‬مسؤولياتهم‭ ‬في‭ ‬الفساد‭ ‬والانتهاكات‭ ‬وتحديث‭ ‬مناهجها،‭ ‬وإعادة‭ ‬هيكلتها‭ ‬وتأهيل‭ ‬أعوانها‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬يتعارض‭ ‬قطريًا‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬به‭ ‬قانون‭ ‬المُصالحة‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الإداري‭ ‬الذي‭ ‬عوض‭ ‬أن‭ ‬يفكك‭ ‬ورم‭ ‬الفساد‭ ‬الذي‭ ‬نخر‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬وأجهزتها‭ ‬زاده‭ ‬جرعة‭ ‬إضافية‭ ‬شرعية‭ ‬لمزيد‭ ‬من‭ ‬التفشي،‭ ‬وعوض‭ ‬أن‭ ‬يفهم‭ ‬ميكانيزمات‭ ‬الفساد‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسات‭ ‬توقيًا‭ ‬من‭ ‬مزيد‭ ‬تفشيه‭ ‬وتكراره‭ ‬تستر‭ ‬عليه‭ ‬وعلى‭ ‬مرتكبيه‭ ‬وشبكاتهم،‭ ‬وعوض‭ ‬أن‭ ‬يُغربل‭ ‬هذه‭ ‬الأجهزة‭ ‬والمؤسسات‭ ‬منهم‭ ‬كرَّمهم‭ ‬وحصَّنهم‭ ‬ضد‭ ‬جميع‭ ‬أشكال‭ ‬التتبع‭ ‬الجزائي‭ ‬والعقاب،‭ ‬وعوض‭ ‬أن‭ ‬يُطهِّر‭ ‬الترسانة‭ ‬التشريعية‭ ‬والترتيبية‭ ‬المُنظمة‭ ‬للإدارة‭ ‬العمومية‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬القوانين‭ ‬المُشرعة‭ ‬للفساد‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬تعزيزها‭ ‬بأحكام‭ ‬إضافية‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تُزيد‭ ‬في‭ ‬تفشيه‭ ‬ومن‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تُعسر‭ ‬أكثر‭ ‬عملية‭ ‬مكافحته،‭ ‬تمامًا‭ ‬مثلما‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تُفرغ‭ ‬منظومة‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬في‭ ‬مادة‭ ‬مُكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مضمون‭ ‬عملي‭ ‬وجدي،‭ ‬وأن‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬استحقاق‭ ‬القطع‭ ‬مع‭ ‬ماضي‭ ‬الفساد‭ ‬وضمان‭ ‬عدم‭ ‬تكراره‭ ‬مجرد‭ ‬شعار‭ ‬لم‭ ‬يُبارح‭ ‬بعد‭ ‬صفحات‭ ‬الدستور‭ ‬وفصول‭ ‬قانون‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬التطبيق‭ ‬والممارسة‭. ‬

وهي‭ ‬كلها‭ ‬مؤاخذات‭ ‬ونواقص‭ ‬لم‭ ‬تخلْ‭ ‬منها‭ ‬دراسة‭ ‬واحدة‭ ‬تناولت‭ ‬موضوع‭ ‬قانون‭ ‬المصالحة،‭ ‬ولكنها،‭ ‬وعلى‭ ‬أهميتها‭ ‬وجديتها،‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬آذانًا‭ ‬صاغية‭ ‬في‭ ‬رحاب‭ ‬مجلس‭ ‬نواب‭ ‬الشعب‭ ‬ولم‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬نواب‭ ‬الأغلبية‭ ‬السياسية‭ ‬داخله‭ ‬بالتخلي‭ ‬عنه‭ ‬رغم‭ ‬المعارضة‭ ‬الشعبية‭ ‬الواسعة‭ ‬التي‭ ‬واجهها،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يدفعنا‭ ‬للتساؤل‭ ‬حول‭ ‬الأسباب‭ ‬الحقيقية‭ ‬لمرور‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭.‬

المبحث الثاني: أسباب مرور قانون المُصالحة رغم الإجماع على عجزه في معالجة ماضي الفساد

تتسم‭ ‬معظم‭ ‬فترات‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمُقراطي‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬بها‭ ‬الشعوب‭ ‬بالهشاشة‭ ‬التي‭ ‬تنعكس‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬آداء‭ ‬المؤسسات‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬آداء‭ ‬الفاعلين‭ ‬السياسيين،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يتطلب‭ ‬لتجاوزها‭ ‬وتفادي‭ ‬عودة‭ ‬منظومة‭ ‬الاستبداد‭ ‬السعي‭ ‬إلى‭ ‬إدارة‭ ‬الأمور‭ ‬وفق‭ ‬مبادئ‭ ‬الوفاق‭ ‬والوحدة‭ ‬والإجماع‭.‬

وهي‭ ‬شروط‭ ‬لم‭ ‬يقع‭ ‬مراعاتها‭ ‬تمامًا‭ ‬منذ‭ ‬انطلاق‭ ‬الجدل‭ ‬حول‭ ‬مشروع‭ ‬قانون‭ ‬المصالحة‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬صاحب‭ ‬المبادرة‭ ‬التشريعية‭ ‬المتعلقة‭ ‬به‭ ‬لم‭ ‬يُطلق‭ ‬أي‭ ‬حوار‭ ‬وطني‭ ‬هادف‭ ‬إلى‭ ‬قطع‭ ‬سليم‭ ‬مع‭ ‬ماضي‭ ‬الفساد‭ ‬والاستبداد‭ ‬وإلى‭ ‬تأسيس‭ ‬أسلم‭ ‬للدولة‭ ‬الديمُقراطية،‭ ‬ولم‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬مبادرته‭ ‬موضوع‭ ‬استشارة‭ ‬وطنية‭ ‬شاملة‭ ‬تستوعب‭ ‬جميع‭ ‬المتداخلين‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬‮«‬هيئة‭ ‬الحقيقة‭ ‬والكرامة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أناط‭ ‬الدستور‭ ‬بعهدتها‭ ‬إدارة‭ ‬منظومة‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭.‬

وعلى‭ ‬أنقاض‭ ‬ذلك‭ ‬خيرت‭ ‬الجهة‭ ‬المبادرة‭ ‬تجاهل‭ ‬الانتقادات‭ ‬الموضوعية‭ ‬والاحتجاجات‭ ‬الشعبية‭ ‬الموجهة‭ ‬ضد‭ ‬مبادرته‭ ‬وتصدير‭ ‬الجدل‭ ‬القائم‭ ‬حولها‭ ‬إلى‭ ‬رحاب‭ ‬مجلس‭ ‬نواب‭ ‬الشعب‭ ‬والاحتكام‭ ‬إلى‭ ‬منطق‭ ‬الأغلبيات‭ ‬البرلمانية‭ ‬لاتخاذ‭ ‬القرار‭. ‬وهي‭ ‬سياسة،‭ ‬ولئن‭ ‬كانت‭ ‬متطابقة‭ ‬تمامًا‭ ‬مع‭ ‬قيم‭ ‬الديمُقراطية‭ ‬وتطبيقاتها،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تخدم‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمُقراطي‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬ذات‭ ‬التجارب‭ ‬الديمُقراطية‭ ‬الحديثة‭ ‬والمحدودة‭ ‬مثل‭ ‬تونس‭. ‬و‭ ‬كان،‭ ‬تبعًا‭ ‬لذلك،‭ ‬و‭ ‬لأسباب‭ ‬سياسية‭ ‬ومصلحية‭ ‬صرفة،‭ ‬أن‭ ‬إنتصرت‭ ‬الأغلبية‭ ‬البرلمانية‭ ‬لمبادرة‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬رغم‭ ‬يقينها‭ ‬بأنها‭ ‬تعرقل‭ ‬تنفيذ‭ ‬الإلتزام‭ ‬المحمول‭ ‬دستوريًا‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬بمُكافحة‭ ‬الفساد،‭ ‬ورغم‭ ‬قناعتها‭ ‬بأنه‭ ‬يستحسن‭ ‬أن‭ ‬تحوز‭ ‬هكذا‭ ‬مبادرات‭ ‬على‭ ‬الأغلبية‭ ‬المطلقة‭ ‬من‭ ‬أصوات‭ ‬نواب‭ ‬الشعب،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يقع‭ ‬مقاطعة‭ ‬التصويت‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬عدد‭ ‬هام‭ ‬منهم‭ ‬رغم‭ ‬تباين‭ ‬إنتماءاتهم‭ ‬الحزبية‭.‬

وبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬قرار‭ ‬الهيئة‭ ‬الوقتية‭ ‬لمراقبة‭ ‬دستورية‭ ‬مشاريع‭ ‬القوانين‭ ‬القاضي‭ ‬بإحالة‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬المطعون‭ ‬في‭ ‬دستوريته‭ ‬إلى‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬لإتخاذ‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬صالحًا‭ ‬في‭ ‬شأنه‭ ‬بسبب‭ ‬عدم‭ ‬حصول‭ ‬الأغلبية‭ ‬المطلقة‭ ‬من‭ ‬الأصوات‭ ‬بين‭ ‬أعضاء‭ ‬الهيئة،‭ ‬والذي‭ ‬يرتقي‭ ‬حسب‭ ‬بعض‭ ‬المتابعين‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬العبث‭ ‬القضائي‭ ‬والتشريعي،‭ ‬وحسب‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬إلى‭ ‬جريمة‭ ‬إنكار‭ ‬العدالة،‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬القرار‭ ‬إختبارًا‭ ‬حقيقيًا‭ ‬لإستقلالية‭ ‬السلطة‭ ‬القضائية‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬ومدى‭ ‬صمودها‭ ‬أمام‭ ‬مختلف‭ ‬أشكال‭ ‬التوظيف‭ ‬والتأثير‭ ‬السياسي‭.‬

وتبعًا‭ ‬لذلك،‭ ‬اتضح‭ ‬جليًا‭ ‬عقب‭ ‬إمضاء‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬لقانون‭ ‬المصالحة‭ ‬رغم‭ ‬علمه‭ ‬بعدم‭ ‬صدوره‭ ‬عن‭ ‬إرادة‭ ‬برلمانية‭ ‬وشعبية‭ ‬مشتركة‭ ‬وجامعة،‭ ‬حاجة‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬أوجه‭ ‬حياتها‭ ‬إلى‭ ‬محكمة‭ ‬دستورية‭ ‬ساهرة‭ ‬على‭ ‬احترام‭ ‬الدستور‭ ‬وحُسن‭ ‬تطبيقه‭ ‬والتصدي‭ ‬لكافة‭ ‬أشكال‭ ‬التلاعب‭ ‬به‭ ‬أو‭ ‬القفز‭ ‬على‭ ‬أحكامه‭. ‬واتضح‭ ‬جليًا‭ ‬أيضا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬سبيل‭ ‬لمُكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬والتصدي‭ ‬لكافة‭ ‬التشريعات‭ ‬والتراتيب‭ ‬المُكرسة‭ ‬له‭ ‬دون‭ ‬الإسراع‭ ‬باحترام‭ ‬الدستور‭ ‬وانتخاب‭ ‬أعضاء‭ ‬تلك‭ ‬المحكمة‭.‬

ولكن،‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬تحقق‭ ‬ذلك‭ ‬الرهان‭ ‬الذي‭ ‬مازال‭ ‬محكومًا‭ ‬بمنطق‭ ‬التجاذبات‭ ‬السياسية‭ ‬والمحاصصات‭ ‬الحزبية،‭ ‬يتجه‭ ‬الوقوف‭ ‬عند‭ ‬أهم‭ ‬النتائج‭ ‬التي‭ ‬أسفر‭ ‬عليها‭ ‬قانون‭ ‬المصالحة‭ ‬بعد‭ ‬قُرابة‭ ‬السنة‭ ‬من‭ ‬دخوله‭ ‬حيز‭ ‬التنفيذ‭.‬

المبحث الثاني: أسباب مرور قانون المُصالحة رغم الإجماع على عجزه في معالجة ماضي الفساد

1 - على المستوى القضائي
  • ‭ ‬صعوبات‭ ‬تطبيقية‭ ‬يواجها‭ ‬حكام‭ ‬التحقيق‭ ‬بالقطب‭ ‬المالي،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الملفات‭ ‬التي‭ ‬تشمل‭ ‬موظفين‭ ‬عمومين‭ ‬أو‭ ‬شبههم‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تشمل‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬تتوفر‭ ‬فيهم‭ ‬تلك‭ ‬الصفة‭.‬
  • ‭ ‬تباين‭ ‬القراءات‭ ‬القضائية‭ ‬للفصل‭ ‬2‭ ‬من‭ ‬قانون‭ ‬المُصالحة‭ ‬الذي‭ ‬يُحيل‭ ‬إلى‭ ‬الفصل‭ ‬96‭ ‬من‭ ‬القانون‭ ‬الجزائي،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يستهدف‭ ‬فقط‭ ‬الموظفين‭ ‬أو‭ ‬شبههم‭ ‬وإنما‭ ‬ينسحب‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬صدر‭ ‬عنهم‭ ‬فعل‭ ‬مُجرم‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬صفته‭.‬
  • ‭ ‬تراكم‭ ‬طلبات‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬شهادات‭ ‬العفو‭ ‬أمام‭ ‬الوكلاء‭ ‬العامين‭ ‬لمحاكم‭ ‬الاستئناف،‭ ‬والصادرة‭ ‬عن‭ ‬غير‭ ‬الموظفين‭ ‬العموميين‭ ‬وشبههم‭ ‬مستندين‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬مفهوم‭ ‬المشاركة‭ ‬على‭ ‬معنى‭ ‬الفصل‭ ‬32‭ ‬م‭.‬ج،‭ ‬والذي‭ ‬ينسحب‭ ‬عليه‭ ‬نفس‭ ‬الجزاء‭ ‬المقرر‭ ‬للفاعل‭ ‬الأصلي‭.‬
  • ‭ ‬تعدد‭ ‬الملفات‭ ‬المحفوظة‭ ‬لدى‭ ‬مكاتب‭ ‬التحقيق‭ ‬ومحاكم‭ ‬الحق‭ ‬العام‭ ‬قبل‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬أفعال‭ ‬الفساد‭ ‬سند‭ ‬التتبع،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬قبل‭ ‬التوصل‭ ‬بنتائج‭ ‬الاختبارات‭ ‬والأبحاث‭ ‬المُفضية‭ ‬لتلك‭ ‬الحقيقة‭.‬
2 - على المستوى المؤسساتي
  • ‭ ‬عودة‭ ‬عديدي‭ ‬الموظفين‭ ‬السابقين‭ ‬إلى‭ ‬وظائفهم‭ ‬مع‭ ‬تمتعهم‭ ‬بالامتيازات‭ ‬والترقيات‭ ‬التي‭ ‬حُرِموا‭ ‬منها‭ ‬إبان‭ ‬إحالتهم‭ ‬على‭ ‬القضاء‭.‬
  • ‭ ‬تنامي‭ ‬الشعور‭ ‬بالخيبة‭ ‬والإحباط‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الموظفين‭ ‬ناوا‭ ‬بأنفسهم‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬السابق‭ ‬عن‭ ‬التورط‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬فساد‭ ‬رغم‭ ‬حجم‭ ‬الإغراءات‭ ‬التي‭ ‬عُرضت‭ ‬عليهم‭ ‬أو‭ ‬حجم‭ ‬التهديدات‭ ‬التي‭ ‬استهدفتهم‭.‬
  • ‭ ‬تواصل‭ ‬احتلال‭ ‬الإدارة‭ ‬العمومية‭ ‬للمرتبة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬قائمة‭ ‬أكثر‭ ‬مؤسسات‭ ‬الدولة‭ ‬تعرضًا‭ ‬للفساد‭ ‬قبل‭ ‬الأمن‭ ‬والإعلام‭ ‬والقضاء‭ ‬حسب‭ ‬مؤشرات‭ ‬منظمة‭ ‬الشفافية‭ ‬العالمية‭.‬
  • ‭ ‬الشلل‭ ‬شبه‭ ‬التام‭ ‬لعمل‭ ‬لجنة‭ ‬التحكيم‭ ‬والمُصالحة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬هيئة‭ ‬الحقيقة‭ ‬والكرامة‭ ‬بسبب‭ ‬إحجام‭ ‬الضالعين‭ ‬في‭ ‬ارتكاب‭ ‬جرائم‭ ‬فساد‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬السابق‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭ ‬التعامل‭ ‬والتواصل‭ ‬معها،‭ ‬وبسبب‭ ‬رفض‭ ‬المكلف‭ ‬العام‭ ‬بنزاعات‭ ‬الدولة‭ ‬تمكينها‭ ‬من‭ ‬الملفات‭ ‬الإدارية‭ ‬الخاصة‭ ‬بهم‭.‬
3 - على المستوى الاقتصادي: انعدام الجدوى الاقتصادية
  • ‭ ‬تواصل‭ ‬عجز‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬استرجاع‭ ‬الأموال‭ ‬المنهوبة‭ ‬والمُهربة‭ ‬للخارج‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الرئيس‭ ‬السابق‭ ‬وعائلته‭ ‬والمقدرة‭ ‬بحوالي‭ ‬22‭ ‬مليار‭ ‬دينار‭.‬
  • ‭ ‬تراجع‭ ‬ملحوظ‭ ‬في‭ ‬نسب‭ ‬وحجم‭ ‬الاستثمارات‭ ‬الأجنبية‭ ‬بتونس‭.‬
  • ‭ ‬عدم‭ ‬توفر‭ ‬أرقام‭ ‬تُبين‭ ‬قيمة‭ ‬المبالغ‭ ‬المُتحصل‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬المُتحصلين‭ ‬على‭ ‬شهادات‭ ‬العفو،‭ ‬رغم‭ ‬مرور‭ ‬قرابة‭ ‬السنة‭ ‬على‭ ‬دخول‭ ‬القانون‭ ‬حيز‭ ‬النفاذ،‭ ‬ورغم‭ ‬حديث‭ ‬مستشار‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬سنة‭ ‬2016،‭ ‬عن‭ ‬توقعات‭ ‬بتحقيق‭ ‬إيرادات‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬500‭ ‬و700‭ ‬مليون‭.‬
5 - على المستوى السياسي

داخليًا

  • ‭ ‬عودة‭ ‬قوية‭ ‬لرموز‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬إلى‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬وإلى‭ ‬تقلُد‭ ‬المسؤوليات‭ ‬السامية‭.‬
  • ‭ ‬غزو‭ ‬المال‭ ‬السياسي‭ ‬الفاسد‭ ‬للحياة‭ ‬السياسية‭ ‬وحتى‭ ‬البرلمانية‭ ‬وتحوله‭ ‬إلى‭ ‬أهم‭ ‬عنصر‭ ‬مُحدد‭ ‬خلال‭ ‬مختلف‭ ‬الاستحقاقات‭ ‬الانتخابية‭.‬
  • ‭ ‬تحول‭ ‬ملف‭ ‬الفساد‭ ‬إلى‭ ‬ورقة‭ ‬سياسية‭ ‬بيد‭ ‬الحكومة‭ ‬وبعض‭ ‬الفاعلين‭ ‬السياسيين‭ ‬يحكمها‭ ‬منطق‭ ‬المُقايضة‭ ‬وتصفية‭ ‬الحسابات‭ ‬السياسية‭.‬

خارجيًا

  • ‭ ‬تواصل‭ ‬تراجع‭ ‬ترتيب‭ ‬الدولة‭ ‬التونسية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬مُكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬حسب‭ ‬مؤشر‭ ‬النزاهة‭ ‬لمنظمة‭ ‬الشفافية‭ ‬الدولية‭.‬
  • ‭ ‬تواصل‭ ‬نفور‭ ‬المستثمرين‭ ‬الأجانب‭.‬
  • ‭ ‬اهتزاز‭ ‬مصداقية‭ ‬المسار‭ ‬الديمُقراطي‭ ‬التونسي‭ ‬أمام‭ ‬كبريات‭ ‬المنظمات‭ ‬الدولية‭ ‬ذات‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالعدالة‭ ‬الانتقالية،‭ ‬وكذلك‭ ‬أمام‭ ‬لجنة‭ ‬البندقية‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *